فضائية "المصريون"... وضمير الأمة

فضائية "المصريون"... وضمير الأمة!!

حسام مقلد *

[email protected]

لعلي لست بحاجة هنا لتكرار الحديث عن أهمية الإعلام وأنه أصبح مطلبا حيويا وضرورة ملحة في عصر السموات المفتوحة الذي نعيشه، بل لعلي لا أبالغ إن قلت إن الإعلام خاصة الإعلام المرئي والفضائيات قد أصبح في زمن العولمة رأس حربة في أيدي الدول والأمم والشعوب والمجتمعات يمكن أن تستخدم في إثارة الحروب، وتهييج النزاعات والصراعات، وإثارة الفتن والاضطرابات، وإضرام نيران الانقسامات والعصبيات القبلية والدينية والطائفية، وقد رأينا مؤخرا دورها الحاسم في إسقاط بعض أنظمة الحكم العربية الفاسدة المستبدة... وخلاصة القول: إننا في أمسِّ الحاجة إلى قنوات فضائية محايدة ومستقلة تقدم برامج إعلامية جادة وجذابة ومتميزة؛ للمساهمة بدور كبير فاعل في صياغة شخصية المشاهد، وبناء عقليته، وتشكيل وعيه، والتأثير في ميوله وتوجهاته، وتمكينه من الحفاظ على ثقافته وهويته العربية الإسلامية، من خلال تحصينه جيدا ضد موجات الغزو الفكري الغربي والإبهار الحضاري الذي يؤدي إلى الذوبان في حضارة الآخر، وتبني ثقافته وقيمه وعاداته وأنماط حياته المختلفة.

وقد كان الصديق العزيز الأستاذ جمال سلطان محقا تماما ومستشرفا لآفاق مستقبل مشرق بإذن الله تعالى لمصرنا الحبيبة وأبنائها الكرام البررة الأوفياء وهو يتحدث عن الحاجة الماسة إلى منابر إعلامية جديدة أوسع نطاقا وأكثر حيدة واستقلالا وصدقا؛ للتعبير بكل شفافية وموضوعية عن النبض الحقيقي للشعب المصري وآماله وتطلعاته وآهاته وأناته، والدفاع عن المصالح الإستراتيجية العليا لمصر وأمتيها العربية والإسلامية.

ومن واقع خبرتي العملية في المجال الإعلامي أرى أن فكرة إنشاء فضائية مستقلة باسم فضائية "المصريون"ـ أرى أنها  فكرة سديدة وموفقة جدا وستكون هذه الفضائية بما عرف به فريق "المصريون" من حرفية ومهنية عالية، وما يتمتع به من مصداقية كبيرة ـ  ستكون بإذن الله تعالى معبرة بحق وصدق عن ضمير أمتنا العظيمة، ومن وجهة نظري ينبغي تفعيلها والبدء في تنفيذها فورا؛ نظرا للظروف الحرجة الحاسمة التي تمر بها حاليا مصر والأمة العربية، وأحسب أن هذه الفكرة الرائعة تحتاج إلى أمرين اثنين في غاية الأهمية حتى تخرج من نطاق الأفكار والأمنيات إلى أرض الواقع، وتحقق بأمر الله تعالى نجاحا عمليا ومهنيا مبهرا ومتميزا، وتواصل مسيرتها الإعلامية الناجحة دون عثرات أو انتكاسات لا سمح الله، وهذان الأمران هما:

الأول: هو ما يتعلق بالجانب الإعلامي والفكري:

وطبعا مصر ولادة ولله الحمد، وصحيفة المصريون الاليكترونية لا ينقصها الخبرة ولا القدرة في هذا الجانب، ولن تعدم بأمر الله تعالى السبيل لتوفير الكوادر الإعلامية والفنية والكفاءات المتميزة في هذا المجال، والإعلاميون والفنيون المصريون كثر ويملؤون مختلف الفضائيات الشهيرة التي تسيطر على سماء المنطقة العربية، وفي رأيي أن الخطوة الأهم التي يجب أن تسبق توفير الكوادر الإعلامية المطلوبة وتسبق حتى توفير وتدبير الموارد المالية اللازمة هي ضرورة وضع رؤية إعلامية وافية وشاملة تكون في غاية الوضوح والشفافية، وتَتَبَنَّى خطة إستراتيجية دقيقة ومنظمة تسير وفق منهج التخطيط العلمي الحازم دون أي شللية أو محسوبية!!

وينبغي أن تكون جميع الغايات والأهداف والوسائل والمعايير واضحة جدا ومحددة منذ البداية، وبعيدة كل البعد عن مظان التأويلات والاحتمالات التي تثير فيما بعد (لا قدر الله...!!) الخلافات والنزاعات، وتفتح الباب أمام الصراعات والانشقاقات المختلفة، وتؤدي في النهاية إلى فشل المؤسسة وتراجع دورها وتقهقرها للوراء، أو تبقى مجرد صورة شكلية لا قيمة لها في عالم الإعلام الذي يقود المجتمع ويعيد تشكيل قناعات الناس!!

وأغلب القنوات الفضائية التي توهجت سريعا ثم انطفأت بسرعة أكبر لم تكن مشكلتها في المقام الأول مشكلة مادية بقدر ما كانت مشكلة إعلامية بنيوية في الأساس تتمثل في غياب وجود رؤية إعلامية شاملة واضحة وشفافة، وبالتالي عدم تَبَنِّي أي خطط إستراتيجية محددة!! وكان طبيعيا جدا أن تؤدي هذه العشوائية إلى الضبابية وتصادم الآراء وتضارب المصالح وغياب التجرد والموضوعية، ومن ثم تهيأت الفرص لتدب الخلافات الحادة، وتتعارض الإرادات، ويتصدع البنيان وتظهر الانشقاقات، ونحن في النهاية بشر خطاؤون ولسنا معصومين، فمع  تفاقم النظرة الذاتية الأنانية للأمور تقل الموضوعية شيئا فشيئا، ومن ثم تكثر الوشايات والسعايات، وتتزايد الضغائن والأحقاد؛ وتتفاقم الانقسامات والنزاعات؛ الأمر الذي يزيد من بعد الشقة حتى يتسع الخرق على الراتق؛ فيزول الزخم، وينفرط  العقد ، وتسير المؤسسة إلى حين بقوة دفع القصور الذاتي حتى تتوقف في نهاية المطاف!!

الثاني: الجانب المالي والإداري:

وهذا الجانب هو أهم الجوانب العملية التي سيكون لها دور حاسم بإذن الله تعالى في تحول فكرة فضائية "المصريون" من حيز الأحلام والأماني إلى واقع بهيج تنتظره ملايين المصريين بفارغ الصبر، ولا أضيف جديدا إن قلت إن الجانب المالي والإداري هو العمود الفقري الذي تنهض عليه أية مؤسسة مهما كانت، وهذا يتطلب القيام بالآتي:

1.  وضع هيكل وظيفي قوي ورائع ومتميز، يضم إليه فقط كل الكفاءات القوية النابغة المبدعة في مجالها، مع توفير كل مشاعر الود والاحترام والتقدير للجميع...!!

2.  الحذر الحذر من المحسوبيات والمعارف والوساطات والشفاعات وشبكات العلاقات العامة والمجاملات؛ فكل ذلك غالبا ما يكون على حساب العمل، ويؤدي في النهاية إلى الإضرار به.

3.  الاهتمام البالغ بالشئون المالية ودفاتر المحاسبات ومراجعتها أولا بأول لترشيد الإنفاق، ووضع كل قرش في موضعه الصحيح، فالإعلام قائم أساسا على الإبهار؛ ولتحقيق ذلك يتم الإنفاق ببذخ وإسراف شديد على الديكورات والمظاهر والمجاملات، وهذا وحده كفيل بتبديد المبالغ والأموال الطائلة؛ ويؤدي في النهاية إلى المعاناة الشديدة والشكوى من شح الموارد، وقلة الدعم، وضآلة الإمكانيات المتاحة، والاضطرار إلى الاستدانة لتغطية النفقات...!! وهذه هي بداية النهاية لاستقلالية الإعلام الوطني الحر النزيه الذي نسعى لإيجاده، ويتحول شيئا فشيئا إلى بوق دعاية لهذا أو لذاك، أو يصير مجرد تابع هزيل لا يقدر على المكاشفة والمصارحة والمعالجة الجريئة للملفات والقضايا الساخنة؛ إذ تصبح إرادته رهنا بإرادة الدائنين ومصالحهم!!

وفيما يتعلق بكيفية تدبير الموارد المالية لفضائية "المصريون" المستقلة أود أن أطرح الأفكار والمقترحات التالية:

بداية أود القول: إنني أثق ثقة كبيرة جدا في وعي ونضج  شعب مصر الوفي الأبي، وحرصه على امتلاك قناة فضائية حرة واعية غير مغرضة ولا صانعة فتنة (كمسجد الضرار...) بل تكون منبرا مستقلا حقيقيا يتصدى لظاهرة الهيمنة الخطيرة على الإعلام الفضائي المصري، ويقدم خدمة إخبارية وإعلامية نظيفة ومستقلة بعيدا عن تلك الفضائيات المختطفة من قِبَلِ حفنة قليلة من رجال المال والأعمال ذوي الخطط المشبوهة في مصر، ومن بين المقترحات في هذا الصدد:

1.  طرح فكرة التشفير الكلي للقناة، وإن كنت أرى أن هذا لن يساعد في تحقيق الغرض منها وهو الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين، وأقترح بدلا من ذلك فكرة التشفير الجزئي للراغبين، بمعنى بث القناة بثا مشفرا للمشتركين لعدة ساعات فقط من اليوم، أو بث خدمة إعلامية أخرى من خلال قناة مشفرة تسمى مثلا: فضائية "المصريون" للمنوعات (تقدم فيها برامج للأطفال والمرأة والصحة إضافة للبرامج الوثائقية والدينية والرياضية...) وأعتقد أن قطاعا واسعا من المصريين يستطيع دفع مبلغ 30جنيه شهريا (أو أكثر...) للحصول على خدمة إعلامية جيدة ومتميزة وصادقة ومحايدة ومنصفة، وفكرة التشفير الجزئي هذه فكرة مقبولة وسهلة ومطبقة عمليا الآن في عدد من القنوات كباقة قنوات المجد الفضائية التي تشتمل على عدة قنوات بعضها مفتوح للجميع والبعض الآخر مشفر.   

2.  فتح باب الوقف الخيري للمصريين الأغنياء(وربما لغيرهم أيضا...) ليوقفوا بعض ممتلكاتهم على الإعلام الحر المستقل المنضبط الذي يحفظ مصالح الأمة العليا ويعبر عنها وعن مطالب الشعب ورغباته وتوجهاته وتطلعاته بكل حيدة ونزاهة وموضوعية، ويسعى لحماية المجتمع من شرور الفتن، ويعصمه من الحملات الإعلامية المغرضة.

3.  إنشاء شركة مساهمة مصرية تتولى فقط الإنفاق على هذه القناة وإدارتها ماليا وإداريا، وتكون بعيدة تماما عن الناحية الإعلامية والفنية، وتطرح أسهمها للاكتتاب العام بين جموع المصريين، وأتوقع أن يقبل بإذن الله تعالى عدد كبير من المصريين على هذه الشركة.

4.  جذب الإعلانات الكثيرة من خلال تكوين قاعدة جماهيرية كبيرة من المشاهدين (وستصنع هذه القاعدةَ الجماهيريةَ العريضة الجاذبة للإعلانات جودةُ المنتج الإعلامي الذي ستقدمه القناة، وقوتُه وحيدته وقدرته على المنافسة...).

5.  فتح باب التبرعات أمام فاعلي الخير من المصريين وغيرهم، من خلال فتح حساب موحد بالمصارف ـ البنوك ـ المصرية لجمع التبرعات من هؤلاء المحسنين وإنفاقها على القناة بصورة رسمية مقننة تتأكد من أن إنفاق هذه الأموال يتم في وجهته الصحيحة، وتضمن عدم وجود أية تأثيرات (من قريب أو من بعيد...) على توجهات القناة وخطابها الإعلامي. 

وبعد فهذه بعض الأفكار السريعة أحببت أن أشارك بها في هذا الموضوع المهم؛ فمصر فعلا بحاجة ماسة إلى فضائية عصرية تليق بمصر ومكانتها الثقافية والفكرية في العالم العربي، وتقدم للجماهير أشكالا أخرى من الإعلام الجاد المتميز الذي يهتم بتغطية جوانب حياتنا المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتربويا ونفسيا...، وتقدم جرعات صحية مضبوطة ومتوازنة من الإعلام الوسطي المعتدل الناضج  المحايد والمستقل والذي تحتاجه أمتنا اليوم بشدة؛ لتتمكن من مواجهة إعلام الآخر وغزوه الفكري الكاسح، وحتى تستطيع إعادة بناء وصياغة شخصية الإنسان العربي المسلم، وتشكيل ميوله وتوجهاته على أسس سليمة تحفظ له هويته، وتجعله في نفس الوقت ابن عصره وقادرا على امتلاك كل أدواته... "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].

                

* كاتب إسلامي مصري