ليبيا براءة اكتشاف
د. عبد الرزاق حسين
اكتشفت اكتشافاً جديداً استحق عليه براءة اختراع ، لا تستعجلوا ، ستُبهرون كما بُهِرتُ أنا لهذا الاكتشاف ، فلْتُرهِفوا آذانكم ، ولتركِّزوا أبصاركم ، فالاكتشاف اسمه " ليبيا "
لم يكن ذلك الاسم ليبيا يمثّل في خارطة الذهن سوى تلك الصورة النمطية التي رسخها حاكمها في أذهان مشاهديه ، فكانت تمثِّل طاووساً يختال في ريشه وهو منتوف الريش ، يحرِّك ذيله يميناً وشمالاً وهو فاقد الذيل ، ويبدو لك في بعض الأحيان وكأنَّه ديناصور محنَّط مجمَّدٌ فقد الحركة والحياة ، أو فيلٌ فقئت عيناه ، وقُلِع ناباه، وبُتر خرطومه ، كانت تقبع في الذهن كصحراء خواء لا ماء فيها ولا هواء ، ففقد هذا الاسم " ليبيا " ، بريقَه ، ولمعانَه ، وتاريخَه في ماضيه وحاضره ، وامتدَّ إلى مستقبله ، لقد جفَّ نبعُه، وضاع رواؤه ، وأصبح إيقاعُه نشازاً ، وغاب معناه ، وتحوَّل لفظه قاسياً جاسياً كنواة تمرٍ مرَّت عليها سنين الجفاف .
لم تَعُدْ " ليبيا " في الذهن سوى مختصر مشوَّه لذلك المشوَّه في شخصه ، فانسحب عليها تناقضُه ، وتجبُّره ، وتكبُّرُه ، وتعاظمُه .
ومع تماهيها في شخصه ، أضحت نقطة سوداء مجعدة كتقطيب جبين ، لا تكاد تُرى إلاَّ من خلال عنجهيته ، ولشدة تضاؤلهِ وتضاؤلها الذي هو سببُه ، وتقزُّمه ، الذي أدّى إلى تقزُّمها ، حاول أن ينتفخ ، فألقى على نفسه " ملك الملوك " لجماهيرية عظمى .
وفي اليوم السابع عشر من شباط فبراير جرى في مسمعي ما يُشبه خرير النهر ، أو هدير البحر ، ومع هذا الخرير والهدير جاءت ألحان موسيقية ساحرة تملأ النفس حبوراً ، ثمَّ تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى حقل مائج من السوسن ، فصرتُ أتساءل : هل ما أسمع همس السواقي ؟ أم شدو العنادل ، وتغريد البلابل ؟ وما هذا الأريج الذي يموج ؟ وكأنَّ مرج نرجس يفوح ، أو عطر خزامى يعبق .
إنه أجمل ، وأعذب ، وأرق ، وأندى صوت ، صوت شباب هادر ، يهتف من حناجر طرية ترطَّبت بريق الحرية، وتنسمت عبيرها ، ورشفت رحيقها " ليبيا ..ليبيا.. ليبيا " لأول مرَّة أكتشف لهذا الاسم مذاقاً آخر ، وطعماً يذوب في الفم كذوْب الشهد ، وصوتاً أعجزُ عن وصف ماهيته ، وكُنْهِه ، أهوَ صوتٌ ملائكيٌّ تنزَّلت به ملائكة الرحمة ؟ أم هو شدو جوقةِ طيورٍ لم نسمع بشدوها من قبلُ ، وكأنّها من طيور الجنة ؟ صوتٌ سرى كالحميّا ، بل كالترياق ، فنبَّه من غيبوبتها الآمال فصحت ، ونفخ في روح الإباء نفَساً فتمطّى ، ودفق في لسان الحرية انتشاءً فنطقت بعد طول خرس ، وانثال الطلُّ فأزهرت الحقول بعد جدب ، وفاضت الينابيع بعد جفافٍ مرٍّ ، وأخصبت الأرض بعد عقم .
لفظٌ ساحر ، ومعنى باهر ، أدهشني ، وحملني على جناحيه طائراً أطير مع النوارس ، أَسِرَّتُهُ الغيوم ، وأريكتُه النجوم . وحوَّلني فراشاً يرفرف في مملكة الرحيق والزهور .
" ليبيا " ينساب في ممر السمع جيئة وذهاباً ، وتبصره العين طرداً وعكساً ، وتلتذُّ لسماعه بوحاً وهمسا .
ما أعذب جرسه ! وما ألطف همسه ! وما أرقَّ إيقاعه ونبْسه !
غرس في الأعماق نبتة الأمل ، وأشعل في الأعراق شرارة العمل ، ورسم في الأحداق قصائد الغزل .
صوتٌ هزَّ أوتار القلب ، فأنشد طائره الغرد :
صوتٌ منَ السِّحْرِ قدْ فاض الوجودُ مـرَّ الـنـسـيـمِ على أنفاسِ غاديةٍ لـلـه درُّكَ مـنْ صـوتٍ فرحتُ بهِ هـمـسٌ ولـمـسٌ وأعـطافٌ مهلِّلَةٌ إلـيـكِ يـا لـيـبـيا تهفو مسامعُنا كـأنَّ أطـيـابَـهـا مِنْ ريقِ غاديةٍ حـقـلٌ مـنَ النَّرجسِ المفتونِ جلَّلها فـي كـفِّـهـا خـاتمُ المختارِ زيَّنها وهْـجٌ مـنَ النّورِ قد زانَ الوجودَ بَهاً والـتـفَّ فـي بُـرْدِها مجدٌ ومكرمةٌ فـبـتُّ مِـنْ فرحتي أشدو بها طرباً | بهِفانسابَ في السَّمْعِ غيثاً أو طيوفَ منى قـدْ حُـمِّـلـتْ أَرجاً قد حُمّلَتْ شَجَنا صـوتِ الـمحبِّ إلى لُقيا الحبيبِ دنا شـوقٌ وتـوقٌ وأحـضانٌ تُريقُ هَنا والـقـلبُ من لهفةٍ نحوَ الحبيبِ رنا أو مـنْ ثـمارِ غصونٍ دانياتِ جنى وفـوقَـهـا مـن حـقولٍ غيمُهُ هَتَنا والـفـخـرُ كـحّلها منْ كُحْلِهِ الوَسَنا هـمـسُ السّواقيَ والينبوعُ فاضَ سنا بـهـا فُـتِـنّـا وفـيها العزُّ قد فُتِنا وبـات قـلـبي على الأعتابِ مُرتَهنا |