تطهير الثقافة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

ظلت وزارة الثقافة على مدى ربع قرن من الزمان تمثل بؤرة من أخطر بؤر الفساد المادي والمعنوي . كان وزيرها مقربا من حرملك النظام البائد ومعه عدد من موظفيه الذين كان شغلهم الشاغل خدمة الحرملك ومن فيه خدمة العبد لسيده ، ولو جاء ذلك على حساب الدين والقيم والأخلاق ، بدءا من اختيار الملابس وألوانها إلى كتابة الخطب والبيانات!

 عندما تولى الوزير الأسبق فاروق حسني الوزارة عام 1987م ، فقد كان توزيره بمثابة الصدمة التي باغتت المثقفين الحقيقيين . ويومها كتب صحفي حكومي ما زال حيا أن الوزير المذكور كان ترتيبه الأخير بين المرشحين الخمسة للوزارة ، وأن اختياره جاء مفاجأة لرئيس الوزراء عاطف صدقي يومئذ ، ولكنه لم يملك رادا لإرادة النظام الذي يُعيّن ويقيل !

المهم أن الوزير المرفوض ثقافيا وشعبيا ، تعامل بدهاء مع بعض الرافضين وخاصة من يضعفون أمام الترغيب والعطايا ، ولم يجد غضاضة في زيارة بعضهم في منزله ، وقد أثمر سلاح الدهاء والترغيب مع فريق من الشيوعيين الذين تأمركوا والمرتزقة الذين لا يعنيهم من يدفع ؛ بقدر ما يعنيهم المدفوع  ، وتمكن الوزير المخلوع من إنشاء ما سماه بالحظيرة الثقافية ، حيث أعلن أن من يسميهم المثقفين في مفهومه قد دخلوا الحظيرة !

كان معظم رواد الحظيرة من اليسار الشيوعي الانتهازي الذي تأمرك فيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي  ، فضلا عن المرتزقة الذين يتعايشون مع كل عصر وكل فكر .

استطاعت الحظيرة الثقافية أن تهيمن على كل مؤسسات الوزارة : المجلس الأعلى للثقافة ، التفرغ ، هيئة الكتاب ، دار الكتب القومية ، المسرح ، السينما ، الأوبرا ، قصور الثقافة ، مركز الترجمة ، الآثار ، المتاحف ، الفنون التشكيلية والمراسم والسمبوزيوم ، وبالتالي المؤسسات النقابية المدعومة من الوزارة ،مثل : اتحاد الكتاب ، والأتيلييه .

وتبوأت قيادات الحظيرة مراكز ومناصب ذات عائد كبير ، ولو كانت هذه المراكز والمناصب مجرد لا فتات لا تعني إنتاجا أو إثمارا .. فكان هناك رؤساء اللجان ، ورؤساء التحرير ، ورؤساء المراكز ، ورؤساء القطاعات ، ورؤساء الفروع والهيئات ...إلخ  .

ولم يكتف الوزير صاحب الحظيرة ، بتكوين لوبي من الصحفيين الموالين له الذين يكتبون مدافعين عنه ومنافحين ، بل أنشأ جريدة أسبوعية يرأسها كادر شيوعي قديم ، ادعى في البداية أن الجريدة مفتوحة لكل الآراء والأفكار ، ولكنها انتهت إلى جريدة تدافع عن الوزير وشطحاته ، ورجاله وأفكاره ، وكان مصير الكتّاب الذين يختلفون مع سياسة الوزير والفكر الشيوعي المتأمرك أن طردوا جميعا ، أو فرض عليهم الخروج دون رجعة ، ولم يبق في الجريدة كاتبا إلا شيوعي سابق أو خصم للإسلام أو طائفي متعصب أو مرتزق يبحث عن المكافأة . الوحيد الذي بقي من الكتاب الإسلاميين هو الدكتور محمد عمارة ، الذي يراعي اتجاه الصحيفة فيكتب في قضايا أغلبها تاريخي ، لا يثير غريزة الوزير ولا عصبية رئيس التحرير .

السياق يؤكد هيمنة اليسار المتأمرك على الوزارة وفكرها وتصورها أن يكون الفكر الإسلامي مستهدفا ، والثقافة العربية الإسلامية محل تصويب دائم ، حتى بعد الثورة العظيمة في يناير ، ما زال مثقفو الحظيرة ، والجريدة الناطقة باسم الوزارة يؤكدون على الفزاعة الإسلامية ، وهجاء كل توجه إسلامي ووصمه بأقذر النعوت بدءا من الرجعية إلى الظلامية والتخلف والتعصب .

وعن طريق تماهي الوزير الأسبق مع النظام ،فقد تم حرمان المعارضين له من الجوائز ، أو الدعوة إلى المؤتمرات ، أو النشر في مؤسسات الوزارة ، أو الحصول على التفرغ ، أو المشاركة بصفة عامة في أنشطة الوزارة ، وفي المقابل فقد كان القوم يتبادلون المصالح في الدول العربية المشابهة في الاستبداد والطغيان ومحاربة الإسلام ، من جوائز ومؤتمرات وندوات ودعوات ونشر كتب ، ومقالات وغير ذلك ، واستطاعت قيادات الحظيرة أن تهيمن – ولما تزل – على لجان التحكيم والنشر والجوائز في دول الخليج والمغرب العربي ، وليبيا ، فضلا عن بلاد الشام والسلطة الفلسطينية المحدودة في رام الله .

حتى مشروع مكتبة الأسرة أخضعوه للمصالح المتبادلة داخليا وخارجيا ، وأفرغوه من مضمونه ليكون معظم المنشور لأفراد الحظيرة وأشياعهم ومن يساند أفكارهم المعادية لثقافة الأمة وهويتها ..

لم يكن غريبا أن يعلنوا بعد نجاح الثورة عن تغيير اسم جائزة مبارك التي أنشأوها تملقا للنظام البائد ، ووزعوها على أنصار النظام ومنافقيه ، ولم تصعد حمرة الخجل إلى وجوههم أبدا .

عقب انهيار النظام وبدء هروبه ، لم يجد أحد العناصر الأساسية في الوزارة حرجا أن يهرع لأداء اليمين القانونية قبل التنحي ، وزيرا للثقافة الفاسدة ومنهجها الإقصائي العدواني ضد الإسلام والثقافة العربية ، ويخوض في دماء الشهداء دون أن يطرف له جفن أو يهتز له ضمير.

وعندما أعلن عن تعيين وزير آخر للثقافة قيل إنه يصلي ، أو يبدأ خطبه باسم الله الرحمن الرحيم ؛ قامت قيامة الحظيرة الثقافية لتتهم الوزير أنه من الإخوان المسلمين –  لم يقولوا إنه مسلم فقط وهم يعلمون ذلك جيدا- تأكيدا على استخدام الفزاعة التي يعاديها سادتهم في النظام البائد والغرب الاستعماري ، وتناسوا أنهم كانوا ضيوفا شبه دائمين على ساقيته ، ويفيدون منها بطريقة ما .

إن هذا الوزير الذي يتلفظ بالبسملة أقرب إلى الحظيرة وأفكارها ، وسبق أن قال في مؤتمر بألمانيا الغربية حول إلغاء المآذن في سويسرا : إن المآذن تمثل نظاما قبيحا في المباني الغربية ، ورأى أنه لا داعي لها ، فالرجل ليس حريصا على الإسلام ورموزه ، ولا ينتمي إلى الإخوان ، وقيل إن أباه  ، وكان وزيرا للثقافة في عهد الرئيس السادات ؛ كان في شبابه يساريا ! ولكن إجرام اليسار المتأمرك لا يترك مجالا لأحد ، لأنه يريد الاستحواذ ، وإقصاء من لا يسايره أو يمضي على دربه المظلم !

ثم انظر كيف تضامنوا وقدموا وزيرا منهم في الوزارة التي شكلها عصام شرف ، بعد سقوط وزارة أحمد شفيق ، وروجوا له في الصحف والمواقع التي يهيمنون عليها ، مع أنه يساري ونجل يساري ، ومعاد للفكر الإسلامي ، ولا يؤمن بالثقافة العربية الإسلامية ذات الاستقلال الحضاري والخصوصية الحضارية ، ولم يجد حرجا أو عيبا أن يقول على مسمع ومرأى من ملايين المشاهدين في العالم العربي عبر شاشة التلفزيون إن المد الإسلامي" هو المسئول عن سلب حقوق المرأة "، كما أن كتاباته في العدد الأسبوعي من جريدة الدستور تفيض بغضا وكراهية وغمزا للإسلام والمسلمين ، ثم إنه يعتمد   سياسة الإقصاء للمخالفين له في الرأي ، وتابع سياسة سلفه وأستاذه الذي ما زال حتى اليوم يحتل مساحة أسبوعية كبيرة في أكبر الصحف المصرية يهين فيها الإسلام والمسلمين ، ويتحدث عما يسميه الدولة المدنية التي يجب أن تقوم على أطلال الدين الحنيف ؛ وكأن الإسلام يقوم على الكهنوت والحرمان والغفران !

لقد كانت الكاتبة المعروفة سكينة فؤاد صاحبة المواقف الجليلة في الدفاع عن الزراعة المصرية ، ومواجهة الفساد مرشحة لوزارة الثقافة ، وكان هناك ارتياح عام لهذا الترشيح ، ولكن يحيى الجمل ؛ خليفة صفوت الشريف في الوزارة الحالية ، ومن كان يستميت قبل تنحي الرئيس السابق لإبقائه في السلطة بحجة الوضع الدستوري ؛ ضغط لتقديم حليف النظام البائد ، ومساعد الوزير الفاسد ليكون وزيرا إقصائيا معاديا للإسلام والعروبة !

إن وزارة الثقافة بؤرة فساد عظيم ، لتخريب العقل العربي الإسلامي في مصر ، ثم إنها تهدر أموالا طائلة توزع على أفراد الحظيرة نظير إجرامهم في حق الإسلام والمسلمين تحت مسميات الجوائز والتفرغ والمؤتمرات والندوات واللجان والنشر .. إلخ !

أليس من العجيب أن يحرم الأدباء الإسلاميون والمثقفون الإسلاميون والمفكرون الإسلاميون ، والمنتسبون إلى الأزهر الشريف ،من جائزة واحدة على مدار ربع قرن من الزمان ، في الوقت الذي ينال فيه الجوائز حملة الإعدادية ومن لا يملكون القدرة على الكتابة الصحيحة ، ولا الفكر الناضج ؟

لقد فاز بالجوائز الكبرى في الوزارة الفاسدة كتّابٌ فاسدون سطحيون ؛ لا يعرفون غير النميمة السياسية ، وجلسات الحشيش ، والنزوات الإباحية ، وخمارات وسط البلد ، ومغازلة التمرد الطائفي ، ولا يملكون موهبة حقيقية ولا خبرة فنية ،ولا نضجا عقليا واضحا، ووصلت البجاحة بأحدهم وكان رئيسا لمؤتمر أدبي أن يمنح نفسه جائزة المؤتمر وكان مبلغها ضخما ، ولم يجد في ذلك حرجا أو غضاضة ، مع أن ما فعله كان محل استهجان من المثقفين الحقيقيين ، بل من بعض أهل الحظيرة أنفسهم !

إن الحظيرة الثقافية من ذيول النظام البائد ، وهي أقلية مستبدة إقصائية معادية للإسلام ، ويجب القضاء على احتكارها للثقافة والفكر ، وتطهير وزارة الثقافة من أفرادها تماما ، بل إلغاؤها وتحويل ميزانيتها لدعم الجمعيات الأدبية والثقافية ونشر التراث وترجمة العلوم الطبيعية والهندسية والكيمائية ..