الليبيون ينتصرون للمختار
صلاح حميدة
اعتقد الكثيرون أنّ عجلة الزّمن توقّفت في ليبيا بعد استشهاد عمر المختار، بعد أن قال - بصرامة – لجراتسياني وهو أسير لديه:- " نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت).
بدأ القذّافي حياته السّياسية بتقديم نفسه كثائر عربي مسلم وأممي مقاوم للاستعمار العالمي، هذا الثّوب أعطاه تأييداً داخلياً وإقليمياً ودولياً كبيراً، فهو كان ولا يزال يعتبر نفسه أكبر من ليبيا، ووصل إلى وضع أصبح فيه مريضاً نفسياً، ومصاباً بحالة من (الإنكار) التّام لثورة الشّعب ضده، وهذا يفسّر دمويته الشّديدة في التّعاطي مع الثّورة الشّعبية الليبية الحالية. فهو يعتقد أنّ الدّعم الشّعبي الليبي الذي تلقّاه من شعبه في المرحلة السّابقة – بالرّغم من خطاياه بحقهم- هو دعم وتأييد مفتوح حتى مماته، بل يمتد لتوريث عائلته عرش ليبيا من بعده.
فترة السّماح من المساءلة الشّعبية التي منحت للقذّافي حين كان يرفع شعار عمر المختار في وجه الاستعمار الغربي، انتهت باستسلامه المهين للقوى الاستعمارية الغربية، ودفعه أكبر (دية) في التّاريخ، ودفعه للجزية عبر العقود والعطايا لتلك الدّول، كل ذلك أدّى لشعور الليبيين بالمهانة التي أصابت صميم بنيتهم الثّورية المقاتلة للاستعمار، فقد عاد الاستعمار الغربي – وخاصّة الايطالي- إلى ليبيا على يد القذّافي، بعد أنّ ضحّى الليبيون بنصف عددهم حتى يخرجوه من أرضهم، وأصبح الليبيون غرباء وفقراء ومهمّشين في وطنهم، هذه المهانة التاريخية كانت هي الطّاقة المحرّكة للثورة الليبية ضد القذافي فيما بعد.
كان للثورتين التّونسية والمصرية الأثر الكبير في وصول الليبيين إلى قناعة بأنّ هناك إمكانية لإسقاط أكثر النّظم قمعاً وإرهاباً، هاتان الثّورتان أشعرتا القذّافي بأنّ نهايته قد اقتربت أيضاً، وظهر هذا في تصريحاته المضادّة لهما، إضافةً إلى تآمره لترتيب ثورة مضادة في تونس فيما بعد، ولكن اشتعال الثورة في بلاده أجهض كل تلك المؤامرات.
كما أظهرت المجازر الرّهيبة التي ترتكب في ليبيا الآن أنّ القذّافي وعائلته استعدّوا لهذه الثّورة وأنّهم درسوا الثّورتين السّابقتين باستفاضة، ووضعوا الخطط لإجهاض أي حراك شعبي في ليبيا في مهده باستخدام القوّة السّاحقة المميتة، وبأسرع وقت.
فقطع الاتصالات والانترنت واستخدام المرتزقة الأفارقة والصّرب والأوكرانيين ( القتلة المأجورين) واستبعاد وتهميش القوى الأمنية الوطنية، والتسلح بكل ما يلزم من أسلحة مليشياوية لحرب الشّوارع، والخطف والاعدام في الشّوارع، وإخفاء الجثث و ودفن المصابين وهم أحياء في مقابر جماعية، كل ذلك يدل على استعداد مسبق، وتنفيذ وفق خطة مدروسة، وأنّ ما يتمّ عمله باحتراف ليس ارتجالاً، بل يتم على أيدي مليشيات مدرّبة على يد مجرمي حرب صرب وأفارقة ارتكبوا مثل هذه المجازر في بلادهم من قبل.
أمّا فيما يخصّ الموقف الدّولي من الثّورة، فالدّول الأفريقية أخذت في أغلبها مواقف داعمة للقذّافي بالمرتزقة، وصامتة عن مجازره بحق شعبه من جهة أخرى، فقد ذكر أحد مساعدي القذّافي المنشقّين عنه ( د. سعد الورفلي) أنّ غالبية هذه الدّول تتلقى ملايين الدّولارات من القذّافي سنوياً، وبالتالي فلم يكن موقفها غريباً.
أمّا الدّول العربية، فقد وقفت في أغلبها ضد الثّورة، إمّا بالصّمت المريب، أو بالصّمت التآمري، أو بتجنيد نفسها لدعم القذّافي، فقد ذكرت المعارضة الليبية أنّ الجزائر سخّرت طائرات شحن عملاقة لنقل المرتزقة الأفارقة إلى ليبيا، وأنّ المغرب يغضّ النّظر عن مكتب تجنيد المرتزقة في العاصمة المغربية، وأنّ الدّولة المصرية غضّت النّظر عن نشاطات إبن عمّ القذافي الذي كان يحاول تجنيد ملايين المصريين للقتال في ليبيا.
فمصلحة غالبية الأنظمة العربية تكمن بالقضاء على الثّورة الليبية وإجهاضها، وحتى بقايا النّظامين المصري والتّونسي يتمنّيان إجهاض الثّورة الليبية حتى يسرّعا خطوات إجهاض الثورة في بلديهما، والتي بدأت بخطوات حذرة في الدّولتين.
ظهر التواطؤ الدولي ضدّ الثّورة الليبية بوضوح في الأيام العشرة الأولى، ففي الوقت الذي كان يقتل المئات يومياً على يد مرتزقة القذّافي وأولاده، كان العالم صامتاً وكأنّ شيئاً لم يحدث، كما أنّ مصادر إعلامية ذكرت أنّ خميس القذّافي كان في زيارة سرّية للولايات المتحدة الأمريكية قبل انطلاقة الثّورة بثلاثة أيّام، وأنّ هذه الزيارة كانت تهدف لتنسيق المواقف في حال اندلعت الثورة وكيفية القضاء عليها بأسرع وقت، كما صرّح الرّئيس الايطالي برلسكوني بأنّه ( لا يريد إزعاج القذّافي)؟! وهذا يظهر رغبةً أكيدة في إفساح المجال للقذّافي لإنجاز المجزرة، وإخماد الثّورة بأيّ شكل بلا إزعاج من حلفائه في الغرب، في ظل غياب شبه كامل لوسائل الاعلام الغربية والعربية.
وما يدل على أنّ الإعداد للمجزرة كان وفق خطة، انّ الهجوم الرسمي الليبي على فضائية الجزيرة بدأ مبكّرا،ً حتى قبل تطرقها لا من قريب ولا من بعيد لما يدور في ليبيا، وهم بهذا يحاولون المبادرة لإسكاتها قبل أن تبدأ بالكلام، أو على الأقل تصاب بالارتباك، وهذا ما حصل فعلاً، فقد تأخرت الجزيرة عن تغطية الحدث الليبي، وتعرّضت لانتقادات كثيرة على الهواء مباشرةً من الكثير من السياسيين والاعلاميين والمواطنين العرب والليبيين المتعاطفين مع الثّورة بسبب هذا التأخير.
الحرب على الجزيرة لم تنته هنا، ولكن تم إمداد المخابرات الليبية من قبل بريطانيا بأجهزة متطورة لحجب وتشويش البث الفضائي والاتصالات والانترنت، فحرب الصّوت والصّورة لهما تداعيات كبير في المعركة الدّائرة على الأرض هناك.
للعالم الغربي الاستعماري مصالح كثيرة في إخماد الثّورة الليبية، وتتجسد هذه المصالح في الكثير من المزايا والهبات والصّفقات المشبوهة والعطايا التي يمنحها القذّافي وأولاده لتلك الأطراف، و الودائع البنكية بالمليارات، وعقود النّفط والغاز والانشاءات والمواصلات والخدمات، والدّخول في شراكات مع شركات ومؤسسات إعلامية ورياضية واقتصادية، وإنقاذها من الافلاس بالمال الليبي، إضافةً لتعيين مستشارين للقذافي من رؤساء أوروبيين سابقين- توني بلير- بمبالغ خيالية، وهؤلاء لهم ارتباطات مستمرة بدوائر صنع القرار في الغرب عموماً. ولذلك فهذه الميّزات كلها مهدّده بالزّوال في حال ذهاب عائلة القذافي.
أمّا الملف الأمني، فهو من الملفات المهمّة التي تهمّ الدّوائر الغربية، ويقف على رأس هذا الملف المعتصم القذّافي، وتقوم المخابرات الليبية بموجب هذا الارتباط بمهام مقاولة لصالح المخابرات الغربية من سواحل المتوسط حتى الصّومال والصحراء الافريقة والفلبين وغيرها، وهذا كلّه مهدد بالتلاشي في حال قضي على نظام عائلة القذّافي.
هذا الملف التشاركي بين عائلة القذّافي والغرب يفسّر ترديد القذّافي وولده سيف الشيطان بأنّ مجازرهم الدّموية بحق الشّعب الليبي تقع ضمن الحرب على القاعدة وما يسمّونه الارهاب حتى يذكّروا الغرب بما يقومون به لصالحه في المنطقة والعالم.
البعد الحضاري الاسلامي له الأثر الأكبر والأهم على صمت الغرب عن كل ما يقع بحق كل الشّعوب العربية والاسلامية من الأنظمة الرّجعية الظّلامية الاستبدادية مثل نظام عائلة القذافي، فهذه الأنظمة هي المانع الحقيقي للنهضة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والعسكرية، والاستقلالية السياسية، والمشاركة الشّعبية في صنع القرارات المصيرية، وبالتّالي فهذه الدّول – عبر دعمها للقذافي وأمثاله- تسعى لمنع النّهضة الحضارية العربية والاسلامية، وإبقاء العرب والمسلمين على هامش التاريخ.
أمّا التّحوّلات في الموقف الغربي بعد اليوم العاشر من الثّورة، فتعود بشكل رئيسي إلى صمود أحفاد المختار، وتحطيمهم للبنى الأمنية والمرتزقة في غالبية المدن الليبية، والانهيار شبه التام في المؤسسة الدّبلوماسية الرّسمية الليبية وانحيازها لصالح الثّورة، وتحوّلها لناطقة باسمها، وهذا لا يعطي أيّ مجال لتلك القوى للتّهرب من تبنّي مواقف سياسية واقتصادية شكليّة، ولكنّها تمتاز بأنّها تنزع الاعتراف الدّولي بهذه العائلة الاجرامية.
تميّز الموقف الدّولي تجاه الثّورتين التّونسية والمصرية بأنّه كان أكثر إسراعاً بتبنّي بعض مطالب الثّورتين- بعد فترة تجاهل- ولكن السّرعة في الحالتين السابقتين تعود لوجود بدائل تحفظ المصالح الغربية بعد إزالة رأس الهرم السياسي ، وتبقي على الأعوان لترتيب الثّورة المضادّة على الثّورة الشّعبية، وهذا متعذّر في الحالة الليبية، وتكاد لا توجد بدائل قوية، وستنتقل السّلطة من يد خادم الاستعمار وعائلته وزبانيته، إلى يد شعب مقاتل لا يعرف معنى للهزيمة والاستسلام، شعب يشعر بفخار وطني منقطع النّظير، ويتمتّع بثقافة معادية للاستعمار لا تعرف المهادنة مع الغزاة.
(الدّمى الأمريكية بدأت بالتّساقط)...... هذا ما قاله القذّافي في مسيرة جماهيرية لأتباعه، عندما حاول ركوب موجة المظاهرات المناهضة له، ولكنّه لم يعلم أنّه ألهم الليبيين بأنّ الدّمية الليبية-الامريكية لا بد أن تسقط أيضاً، ونسي أنّ محاولات التّغطّي بالماضي الثّوري له ولوالده –كما يقول- لا تفيد في هذه الحالة، فلا يشفع الماضي النّضالي لواقع التّمرّغ في مستنقع العمالة والخيانة العظمى، ولا يمكن أن يشفع الشّعب الليبي للقذافي عمالته للغرب بعد أن كان يرفع لواء محاربته، فالأمور بخواتيمها لا بالتّغنّي بالتاريخ.
رفع الليبيون -في وجه القذّافي ومن يدعمه - شعار عمر المختار الخالد ( نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت) وهم بهذا يوجّهون رسالة واضحة إلى تلك القوى الاستعمارية، بأنّ أيّ قدم ستجرؤ على محاولة غزو ليبيا، ستقطع لا محالة من قبل أحفاد عمر المختار، وتبيّن لتلك القوى الاستعمارية انّ محاولات العودة لاستعمار ليبيا تحت غطاء حماية الشّعب الليبي من دمية الاستعمار لن تفيد، وأنّ الشّعب الليبي سيحارب الاستعمار ودماه معاً في حال جرؤ على الغزو، وفق معادلة أحفاد عمر المختار الجديدة
( نحن لن نستسلم، ننتصر أو ننتصر).