ضعُوا أقلامكم وارفعُوا أيديكم

مريم سيد علي مبارك/الجزائر

[email protected]

إن المؤسسات الإعلامية سواء كانت صحفا أم محطات إذاعية أم تلفزيونية أو حتى صحافة إلكترونية تلعب دورا كبيرا في حياة المجتمعات، لذلك فلا يمكن لأحد أن ينكر ما للصحافة والإعلام من أهمية ودور بالغين في توجيه الآراء والأفكار التي تحدد السلوك والتصرفات، الإعلام له أثر كبير في حياة المجتمع إذ بإمكانه تأسيس علاقات جيدة ومتينة بين أفراد المجتمع الواحد أو بين الشعوب في الوقت الذي يمكنه إثارة الفتن والحروب، يمكنه زرع المحبة والسلام في الوقت الذي يمكنه زرع الغل والكراهية..

إن مواثيق العمل الصحفي وممارسته في جميع أنحاء العالم تنص على حرية التعبير والرّأي كما تنص على التحلي بالأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، واحترام الآخر بعيدا عن التجريح والقذف والتضليل والمساس بكرامته ومعتقداته وديانته وإنسانيته..

لكن البعض قد استغلوا "حرية التعبير" للتعبير عن حقدهم وليس عن رأيهم..حرية التعبير في نظر هؤلاء تعني السخرية بتقاليد وأعراف الناس، تعني التهويل والتضخيم للأحداث للحصول على الاهتمام ولفت الانتباه، تعني سب الناس وشتمهم والمساس بأعراضهم، تعني إثارة الكراهية والعنف، تعني السماح بعرض آراء وإقصاء أخرى، تعني تغليط الرأي العام وتزويده بمعلومات خاطئة، تعني الكذب وتشويه الحقائق ومسخها، تعني تغييب الرقابة الذاتية، تعني تجاوزات أخلاقية وتحديا سافرا للحدود، تعني باختصار تغييب العقول وتحكيم الأهواء..ومن صراع بالأقلام إلى صراع بالأيدي..والصحافة في كل ذلك تبرأ من "صحفي مغشوش" ..

إن الصحفي "المغشوش" يساهم في تعزيز الآفات والانحرافات والمشكلات الاجتماعية.. فإذا انحطت سلوكيات المجتمع، فلا تلقينّ باللوم كله على السارق إذا سرق وعلى المجرم إذا جنى، لأنه والجاني شركاء حتى وإن كان هذا الأخير في نظر القانون وعرف الناس أشد خطرا..

للأسف عوض أن نسعى لتطوير مجتمعاتنا العربية عن طريق إعلام صادق ونزيه، عوض أن نساهم في ازدهار وتقدم بلداننا، نعمل على تأخرها والقضاء على الحقيقة..لأننا عندما نختلف مع الآخر لا نحترمه، بل نهينه ونحط من قدره، لذلك فإن العمل الصحفي يحتاج إلى أخلاق، إلى حياد وموضوعية، إلى منطق أكثر من حاجته إلى بيانات وأرقام وإحصائيات..

الحرية اسم ومعنى جميل ورائع يعني التحرّر من القيود، التّحرر من الظلم والقهر، من الأغلال الثقيلة التي تكبّل الأيدي..الحرية التي تعبر عن أسمى المعاني في الوجود، هذه الحرية لا تعني أبدا التحرّر من الصدق، من الحق، من العدل، من القيم الجميلة التي تضاهيها مرتبة ومكانة..

هؤلاء من جنس "الصحفي المغشوش" لم يتركوا أحدا، أشخاصا أم دولا، فمن التهكم بالناس العاديين إلى التهكم برموز كبار، إلى التطاول على أحكام ربانية، فصارت الآراء تستطلع في "الصلح" بين طرفين متنازعين يتقاسمان نفس الملّة ونفس المعتقد : ما رأيك في صلح فلان مع فلان (مؤيد، معارض، محايد)، رغم أن الآيات من الكتاب الحكيم صريحة لا تحتمل التأويل "أصلحوا ذات بينكم" "الصلح خير"..الخ

إنهم يشبهون الحكام المتسلطين المستبدين هؤلاء يتلاعبون بأموال الناس وحقوقهم وهم يتلاعبون بعقولهم..سيسقطون طال الزمان بهم أم قصر وسيكون للتحرير ميدان آخر..

الكلمة مسؤولية والخبر أو المقال الصحفي كورقة امتحان بها يكرم المرء أو يهان، لكنهم لم يراجعوا الورقة ولا اكترثوا بما كتبوا فيها.. فصار كل واحد يعبر عن حريته على حساب حرية وكرامة الآخر...ما زالوا يعبثون بمهنة الصحافة ويشوهون صورتها، ساقهم الخطأ في فهم حرية التعبير إلى الخطأ في النّقد والتّحليل..فظلموا لفظة "حرية"، مثلها مثل الكثير من الألفاظ التي ما زالت تتألم وتعاني في لغتنا العربية، فما عادت الحرية تعني الحرية بمفهومها الحقيقي ولا عاد "إخوان مسلمون" هم المسلمون حقا !

يتاجرون بعقول الناس ويطلبون قوتهم بالدّوس على أعراضهم، يشتمونهم باسم حرية التعبير ويتهمونهم باسم حرية التعبير، يخوضون في أعراضهم باسم حرية التعبير، ولغتنا العربية في كل ذلك تتألم من لفظة يساء فهمها، من كلمة يساء استخدامها ومن مفهوم أعرج.. ! فلتسامحنا "العربية" لأن الكلمات صارت أدل على نقائضها منها على معانيها رغم أن "العربيّة" ما كانت أبدا "عبريّة"!!

لو آمن "الصحفي المغشوش" كل الإيمان بأنه سيسأل عما قال وكتب ويعاقب لما طاش سهمه في صدور الناس وظهورهم ولما أغرق في التطاول عليهم، فالحكم على الأشخاص لا يكون بأن نعلو بالناس فوق قدرهم ولا أن ننزل بهم دون منازلهم، لا يكون بالتعسّف في الأحكام والتطرف في الآراء.. !

للأسف أصبحت حرية التعبير تستغلّ للإساءة إلى من يختلف مع الآخر في الرأي والتوجه وهو في ذلك لا ينضبط بشرع ولا يتقيد بعقل، فيكون في سلوكه شبيها بالحيوان، وما سمي العقل عقلا إلا لأنه يعقِلُ صاحبه عما لا يليق من الأقوال والأفعال، يحجزه ويمنعه، فالعقل لغة : هو المنع، عَقِلَ، يَعقلُ عقلاً فهو معقولٌ وعاقلٌ . ويقال عَقِلَ البَعيرَ: إذا شُدَّ الساق إلى بقية الذراع بحبل واحد لمنعه من الهرب. كلا أبدا ليست هذه حرية في التعبير، بل فوضى فكرية وإعلامية تؤدي إلى فوضى اجتماعية تهدد القيم والسلوكيات الصحيحة، تنحدر بالفرد إلى أسفل الدركات.. فكفى تجارة بعقول الناس !!

أنت حر نعم، ولا أحد يريدك –منذ فجر الاستقلال- مقيّدا، مارس حرّيتك وليكن قلمك محرّرا من كل فكر خاطئ، قلمك نذرته لخدمة الدين والوطن فارق به وكن في مستوى المؤهلات العلمية العالية التي تكسبها، بل كثيرًا ما تجد بين الناس العاديين أو محدودي الثقافة والعلم من تعجبك استقامته وبين من يحملون الشهادات العلمية من يدهشك اعوجاجه، فلا تقلِبُ شفتيك تعجبا فقط، بل تقلب كفّيك أيضا  !! ؟؟

ونحن نحتفل في هذا الشهر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن نتذكر أنه كان أمينا على عقول الناس وأفكارهم، فعندما كسفت الشمس يوم توفي ولده إبراهيم ، قال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم، لكنه نفى بمنطق العقل أن تتدخل الطبيعة في أحزان الإنسان لأنه لا يقبل أن يكون الجهل سببا للإيمان ولم يشغله حزنه الكبير على وفاة طفله الصغير عن تصحيح مفهوم خاطئ عند الناس فقال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"..كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا، لكنه كان أقرأ الناس وأفهمهم وأعلمهم..!

لذلك فلا شرف للصحافة دون أخلاقيات ولا قيمة للكلمة دون صدق وأمانة في كتابتها أو نقلها. حرية التعبير لا تخرج عن حدود اللياقة والأدب ولا تعني الإساءة والتجريح، ولكن من عالم الأحياء من ماتت ضمائرهم ! ولست أرى سوى خيط رفيع بين قاتل النفس وقاتل الضمير، والفرق بين من يوقظ الضّمير ومن يخدِّرُه كالفرق بين الحي والميّت.. !!

وفي النهاية لكل إنسان عقل يفكر به، يسأله ويحاوره، ويحتكِمُ إلى القاضي الأول لشخصه ألا وهو الضمير، فإن أحسن فله، وإن أساء فسينقلب عليه لا محالة لأن الجزاء من جنس العمل وكما تُدين تدان..

الصورة الحقيقية للإنسان هي الأخلاق هي أولى الشهادات العلمية، هي الهوية وبطاقة تعريف الشخصية..فضعوا أقلامكم..

ضعوا أقلامكم وارفعوا أيديكم.. توقفوا عن الكتابة لحظة.. تجرَّّدُوا من أهوائكم وفكِّروا ..فكِّروا في من سحقت أقلامُكم وداست أقدامُكم، وحاسبُوا..حاسبُوا أنفسكم قبل أن تحاسبُوا !!