صور ناطقة للتحوت والروابض

أحمد الجدع

( 1 )

كان ذلك في إحدى الدول العربية .

أعلنوا أن على كل فرد تجاوز عمره اثني عشر عاماً أن يذهب إلى وزارة الداخلية ليبصم بالعشرة .

يريدون أن يبرمجوا بصمات الجميع لأغراض الأمن .

أخذت أولادي ممن بلغ الثانية عشرة إلى مكان التبصيم .

واصطففنا ننتظر دورنا ، وكان أمامنا رجل أجنبي ( خواجة ) .

وكان الشرطي يذهب ويجيء في الصالة مراقباً الداخل والخارج ، وفجأة التفت إلى الصف الذي ينتظر التبصيم ، وعندما رأى الخواجة في الصف انتفض فجأة وتقدم مسرعاً نحو الخواجة وهو يقول بأعلى صوته : خواجة ويصف بالدور ؟!! خواجة ويصف بالدور ؟!!

بدا الشرطي كأنه ارتكب جريمة إذ ترك الخواجة يصف بالدور شأنه شأن المواطنين وإخوانهم من العرب الوافدين.

أخذ الشرطي بيد الخواجة ، وأسرع إلى واحد من المبصمين وأجرى للخواجة عملية التبصيم ، ومسح له أصابعه المقدسة ، ورافقه مودعاً إلى باب الوزارة الخارجي !

الغريب أنني التفت إلى وجوه الناس في القاعة ، فلم أجد أي علامة من علامات الاستنكار أو الدهشة أو الاحتجاج أو الغرابة .

الناس كلهم يرون رأي الشرطي : لا يجوز أن نتساوى نحن والمواطن مع الخواجة الغريب ، للخواجة السيادة وإن لم يكن في بلده ... أقول وبالفم الملآن :

إن ما يجده الخواجة في بلادنا من احترام وإلى درجة الخضوع لا يجد عشر معشاره في بلاده .

وحسبنا الله .

( 2 )

كنا ننزل في فندق من فنادق إحدى دول الخليج ، وكان مدير هذا الفندق رجل من دولة عربية هي إحدى الدول الكبيرة فيها .

كان الإفطار في الفندق داخلاً في عقد السكن ، فكنا ننزل إلى المطعم ونتناول الإفطار المعدّ، لم يكن الإفطار مقنعاً، والأمرّ من ذلك أنه كان متكرراً .

كانت الأواني التي نتناول فيها الطعام ، والملاعق التي نتناول بها الطعام كلها من البلاستيك الرخيص .

كنا مجموعة من الناشرين الأردنيين ، نمثل الجانب الثقافي من الحياة ، وبالمقياس الحضاري كنا النخبة المثقفة، وبالمقياس الحضاري أيضاً كنا نأمل أن نجد تقديراً يناسب ما نمثله .

ولكن الذي حصل أن هذا التقدير لم يحصل ، ونحن لم نحتج لأن مثل هذه المعاملة نجدها في كل ركن من هذا الوطن العربي الكبير .

كنت أنزل إلى الإفطار مبكراً، وذات إفطار نزلت لأجد صالة الطعام قد تغير حالها ، وجدتها تبتسم بالأغطية الجديدة الثمينة ، والصحون الزجاجية الفاخرة ، والملاعق الفخمة اللامعة ، والكراسي التي لم نرها في الفندق طيلة إقامتنا ، فحسبت أن مدير الفندق من تنبه لموقعنا الثقافي فراجع نفسه وقرر أن يرفع مستوى الخدمة .

أنهيت إفطاري وجلست بالقرب من الشرفة أتناول كأس الشاي ، وما كدت أجلس حتى دخل فوج من النازلين الخواجات، وجلسوا إلى الموائد ، فتناولوا إفطارهم وانصرفوا .

ثار الدم في عروقي ، نزلت إلى مدير الفندق وألقيت عليه درساً في الوطنية وفي احترام الذات ، وظننت أنني أقنعت الرجل بأن يعدل من سلوكه .

وفي اليوم التالي عاد الوضع إلى سابق عهده ، وعدنا كما بدأنا .

قلت في نفسي : إن هذا الرجل خضع لثقافة تقول : إن الخواجات فوق المواطنين دائماً .

وحسبنا الله

( 3 )

الحدود البرية العربية ... وما أدراك ما الحدود !

قطعنا ألفي كيلو متر من مركز الحدود الداخل إلى مركز الحدود الخارج ، وما إن وصلنا الحدود الخارج حتى تنفسنا الصعداء ، فقد صرنا قاب قوسين من الوصول إلى بيوتنا في الوطن .

تركنا الزوجات والصبية في السيارات ... وهرعنا لنختم جوازاتنا للخروج ، زاحمنا حتى وصلنا إلى شباك تسليم الجوازات، ثم وقفنا ننتظر أن نختم ثم ننطلق في سبيلنا .

كان زميلنا أكثرنا أطفالاً فهو يستحث الثواني لكي يستلم جوازه وينطلق إلى مراده .

كان أول من نودي عليه ، فانفرجت أساريره أو كادت ، لأن صوت الموظف نهره قائلاً : لماذا لم تختم جوازك عند الدخول، ثم رمى له جوازه وقال له : ارجع واختمه .

أخذ الرجل وبُهت ... ثم قال مستخذياً : ارجع ألفي كيلو متر ذهاباً ومثلها إياباً لأختم الجواز ؟ إن عندي أطفالاً يكاد الحرُّ أن يذيبهم ، ألا تتصلون وتتأكدون من خروجي ؟

لم يأبه له أحد ، قالوا : هذا شأنك ، اذهب ثم عُد ، لا خروج إلا بأن تختم أولاً عند الدخول .

وبين أخذ ورد ورجاء وتوسل هزم الرجل .

إن الهزيمة أمام القلوب المتحجرة أقسى الهزائم .

خرج من مكتب الجوازات وتكاد تضيق به الدنيا ، أخذنا نهون عليه ونحن أكثر منه غيظاً .

أودعنا أطفاله وانطلق إلى المجهول .

ألفا كيلو متر ذهاباً ومثلها إياباً بكم من الساعات يقطعها .

غاب عن أنظارنا وأطفاله يتابعون غيوبه .

وقفنا مذهولين .. هل تصل قسوة المسلم نحو أخيه المسلم إلى هذه الدرجة ؟ هل ذهبت أدراج القلوب المتحجرة هذه الآية الكريمة : { إنما المؤمنون إخوة } ، هل نسي الناس حديث رسولنا : " المسلم أخو المسلم " ؟

ثلاثة أيام والقلوب واجفة والعيون تتابع الطريق ثم تنعطف تتابع عيون الأطفال المتوسلة وقلب الأم الخائفة ... المرعوبة !

أطلت سيارته وكأنها الغيث قد هطل والعطاش قد استقوا .

أوقفها ولم يكلمنا ... حتى ولم يكلم أطفاله ... واندفع إلى مكتب الجوازات وهو يرفع جوازه ويصيح : لقد ختمته.. وعندما سمعه الناس يصرخ ورأوه يندفع أفسحوا له الطريق إلى شباك ذي القلب الميت .

تناول جوازه وختم .. دون أن ينظر إلى ختم الدخول الذي من أجله قطع الرجل أربعة آلاف كيلو متر في ثلاثة أيام، ناوله الجواز وانصرف إلى غيره .

أخذ الرجل الجواز وقبله ثم سقط مغمى عليه وهو يقول : ماء .. ماء .

اندفعنا نرطب شفاهه بالماء ... لقد كانت قد تشققت من الجفاف !

عندما أسعفناه نام ولم نستطع أن نوقظه .. وانتظرنا حتى نهض ونظر إلينا قائلاً : أولادي .. من أجلهم قطعت ما قطعت دون توقف .

هذا مشهد يحزن القلب ... بل تنفطر له القلوب .

ألم تجد الدولة غير الرويبضة تحكمه في مصائر الناس ؟

أم أنها تتعمد أن يكون هؤلاء الموظفون على هذا النمط من البشر الروابض – التحوت ؟!

حسبنا الله

( 4 )

أنا أفهم أن يحتال إنسان على إنسان ، أما أن يحتال المخلوق على الخالق فهذا لا أفهمه .

الغريب أن هذا الإنسان يعترف في أعماقه أنه عبد الله وأن عليه أن ينفذ شرع الله ، ومن شرع الله على الإنسان أن يؤدي حق الزكاة في ماله .

هذا الرويبضة الصغير ، الصغير في عقله وفي نفسه ، أصبح ذا مال عظيم ، ولا بد له أن يؤدي زكاة هذا المال، ولكن نفسه لا تطوع بأن يدفع ، فالمطلوب كثير ، فماذا يفعل ؟

هناك فقراء معدمون ، لا يجد الرجل منهم قوت يومه ، وربما بات هو وعياله وأطفاله على الطوى أياماً، مثل هذا الرجل هو بغية الرويبضة الذي يبحث عن طريقة لدفع الزكاة دون أن يدفع الزكاة !

أتى الرويبضة واحداً من هؤلاء الفقراء المعدمين وقال له : ألا أعطيك ألف درهم ؟ قال الفقير : جزاك الله خيراً .

فرح الرويبضة ، وأسرع يجمع زكاة ماله أرزاً وبراً وسكراً ، وحملها في شاحنة ضخمة وسار بها إلى بيت الفقير ، ثم أنزلها أمام داره وقال له : هذه كلها لك على أن أشتريها منك صباح غدٍ .

ووضع الرويبض حراسة على أموال الزكاة المتكدسة أمام بيت الفقير ، حتى إذا جاء الغد ، أتى إلى الفقير وقال له: بعني هذا الأرز والبر والسكر بألف درهم .

تناول الفقير الدراهم الألف ، وأمر الرويبضة أتباعه بحمل كل ذلك في شاحنته وعاد به إلى مخازنه .. وقد اطمأنت نفسه، متصوراً أنه قد دفع زكاة ماله !

أعلى الله تفترون ... !؟

حسبنا الله .