و أبى فرعون... إلا الموت غرقا

بلال داود

[email protected]

لم يرد اسم فرعون في القرآن الكريم سبعا وستين مرة تمجيدا له وتعظيما ، و لم ترد صفاته و أفعاله وتصرفاته وظلمه وجبروته وطغيانه و نكوصه عن وعوده واتفاقياته و كذلك استعباده لشعبه و بني إسرائيل ثم نهايته التاريخية غرقا في مياه وأوحال اليم و من ثم انتشال جثته ، لم ترد كل هذه الموضوعات  من خلال  أضعاف عدد المرات التي ذكر فيها اسم فرعون ،  مجرد فانتازيا ملحمية  تهتز لها رؤوس المستمعين  طربا ونشوة بجمال صوت القارئ و حسن أدائه  ،  بل ورد ذلك عبرة وتربية  و تذكرة لأولي النهى من الشعوب والقادة .

قدم موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون بعرض وطلب ، وقد اشتد طغيانه و ظلمه ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) ، أما العرض فهو تذكيره بالله رب العاملين فقالا ( إنا رسولا رب العالمين ) ، لعله يتذكر أنه مخلوق كباقي البشر  أو لعله يخشى عاقبة طغيانه  ، وهذا العرض في المحصلة عرض اختياري له أن يقبله أو أن يرفضه ، ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، أما الطلب  فهو طلب لا تنازل عنه ( فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم ) .

لفرعون كما لغيره من البشر إلى يوم الساعة لمن يؤمن بها ، أو ليوم مماته لمن لا يؤمن بها ، حرية اختيار الدين والمعتقد والإله الذي يعبده ، سواء كان هذا الدين سماوياً أو وضعياً أو إنكاراً لكل دين أو معتقد أو إله ، ولا يترتب على ذلك شيء في الدنيا ، أما في الآخرة فالله يتولى حساب الناس جميعا ، فـ ( لا إكره في الدين ) وليس لبشر أن يفرض على بشر ما لو أراد الله أن يفعله  لفعله ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) .

  أما مطلب الحرية فلم يكن خيارا لفرعون  يحتمل القبول أو الرفض ،  كما هو ليس خيارا لحاكم إن شــاء فعله و إن شــاء منعه ، فلا مفر من تنفيذه ولا تغاضي عنه ولا سكوت ولا تراضي بأقل من ذلك .

  ومارس موسى عليه السلام هذه المطالبة بأرقى ما يمكن للبشر أن يفعلوه بشكل ســلمي مدعم بالإثباتات و الأدلة  ، فلما طلب فرعون من موسى  دليلا على صدق دعواه  جاءه بتسعة  ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات )  ، و كلما جاءه بآية ووقع العذاب عليه وعلى شيعته  توسلوا إلى موسى لكشف الضر مقابل الحرية لقومه ( ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك  لئن كشفت الرجز عنا لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل) ، فما أن يفعل ذلك حتى ينكص فرعون على عقبيه  و يعود إلى طغيانه ، حاله كحال معظم فراعين اليوم يجلسون على صدور شعوبهم عشرات السنين ، يمنونهم بالحرية والوحدة والاشتراكية وبالعدالة الاجتماعية وتقاسم الثروة وتبادل السلطة عن طريق الديموقراطية  ، ثم لا يشعرون بأدنى أنواع الحياء مما يكذبون ، و تأتيهم مطالب شعوبهم بهدوء وسلام لا تريد أكثر من عدل وحرية ، فيزج بالمطالبين في غياهب السجون السرية عشرات السنين ، و تقمع الاحتجاجات و تدق مدن على أهلها ، والبعض  تخرج إليهم شعوبهم في مظاهرات   تطالبهم بالأمر ذاته فيستخفون بها حتى  إذا تجاوز  عدد المتظاهرين الملايين  ، قال أول المخلوعين أنه فهم وقال ثانيهم أنه يعي ... 

و لا ندري كم من السنين قضاها موسى عليه السلام يدعو فرعون وشيعته ليعودوا عن طغيانهم و يحقوا الحق والعدل والخير وينشروا الحرية   ، فقد تكون ثلاثا وعشرين سنة وقد تكون ثلاثين  وقد تكون أقل أو أكثر ، إلا أننا نعلم أن موسى عليه السلام لما طفح به الكيل و نفض يديه من قبول فرعون عرضه ، و أيقن أنه كذاب أشر و مراوغ لا ينتظر منه إلا الخداع والطغيان ، ولن يستجيب لطلبه بحرية الشعب لجأ إلى ربه ليسحب عرضه  ( ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، ثم لم يجد بداً من تحقيق  الحرية لشعبه  بشكل من أشكال العصيان المدني فعبر بهم  إلى أرض الحرية بدون موافقة فرعون ، فالحرية حق ينتزع  كباقي الحقوق و لا يستجدى من أحد .

 غرق فرعون النموذج  وبقيت قصته تتلى على مر الزمان ، وفيها سر الحياة لأي شعب يريدها حرة كريمة ، مفتاحها أن لا يكرر خطيئة  قوم فرعون ( فاستخف قومه فأطاعوه  إنهم كانوا قوما فاسقين ) ، و لا فرق بعهدها أن يموت فرعون غرقاً بين أمواج البحر أو هربا من الغرق تحت نعال  الشعوب المطالبة بالعدل والحرية  سوى زمن الألم والحسرة و الندم ، فالموت غرقا في البحر يستغرق دقائق ، والموت ندما و حسرة  يستغرق المتبقي من العمر طال أو قصر .

غرق فرعون النموذج بين أمواج البحر المتلاطمة ، و بقي جسده عبرة لكل  ديكتاتور استنسخ نفسه على شاكلة النموذج .... و اليوم ...  و نحن نرى الفراعين المستنسخة في جمهوريات الاستبداد تتهاوى  واحدا تلو الآخر ...هل يعتبر من تبقى ؟؟؟ أم أن فرعون يأبى ...إلا الموت غرقا؟؟؟؟