التأكيد (67)

من أساليب التربية في القرآن الكريم

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

الأصل في الحديث أن يكون ابتدائياً (( ليس فيه تأكيد )) ، لافتراض أن يكون المتحدث صادقاً ، والسامع سليم الصدر لا يشك في القاتل وصدقه ، فإن شك صار على المتحدث لزاماً أن يكون يكون كلامه طلبيّاً (( مؤكداً )) وكلما كان الشك أكبر ، كان التأكيد أكثر .

 وللتأكيد في القرآن الكريم طرق كثيرة ، نراها في كل صفحة من صفحاته المشرقة .

 ولا أكاد أبالغ إذا قلت إنك تراها في كل آية من آياته الشريفة بأساليب متعددة منها :

 1ـ القسم : ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء لأنه الخالق لها ، المتصرف فيها ، وليس لنا إلا أن نقسم بالله سبحانه فقط ، تعظيماً له ، واعترافاً بألوهيّته .

أ ـ فقد أقسم بالزمن : (( وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) ))(1) .

 (( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) ))(2) وغير ذلك .

ب ـ وأقسم بسمائه وكواكبه ونجومه : (( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) ))(3) .

 (( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) ))(4) .

 (( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) ))(5) .

 وأقسم بملائكته : (( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) ))(6) .

 وأقسم بالرياح : (( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) ))(7) .

 وأقسم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ (72)
))
(8) .

 وأقسم سبحانه بأمور كثيرة ، وليس هنا مجال للحصر إلا أنه حين أقسم (( حكاية )) على لسان الإنسان أقسم بالله فقال : (( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ))(9) .

 2 ـ المبالغة في التصوير :

أ ـ كقوله تعالى في تقريب التصوّر ليثبت في أذهان الإنسان : (( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) ))(10) .

 وقوله في الفكرة نفسها : (( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ))(11) .

ب ـ وكقوله تعالى ينفي دخول الكفار الجنّة مطلقاً :

 (( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ

 وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

 وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) ))(12) .

 وهل يدخل الجمل بحجمه الضخم في ثقبِ الإبرة ؟! هذا مستحيل . . وكقوله سبحانه ينفي نجاتهم من العذاب يوم القيامة :

 (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) ))(13) .

 وهذا مستحيل أيضاً فليس المقصود من الآية إلا الذهب ، فهل يملك الإنسان بحجم الكرة
ذهباً ؟!! وقل أيَّ شيء مهما كان رخيصاً :

(( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أ

 ولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) ))(14) نعوذ بالله من مصيرهم .

 3 ـ تعزيز الموقف بالإحالة إلى طرف ثالث : قال تعالى :

 (( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ

 لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) ))(15) .

 ولكن َّ الرسول عليه الصلاة والسلام أول المؤمنين بما أنزله الله عليه لا يسأل أحداً إلا الله ، لكنَّ هذه الآية نزلت على الفَرَض والتمثيل ، وقال العلماء : الخطاب للنبي والمراد غيره . وذلك لدفع الشك عن قصص القرآن .

 وقال تعالى : (( وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) ))(16) .

 وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" والله لا أسأل . . . صدق الله ، وكذب اليهود ."

 وكقوله سبحانه وتعالى على لسان أبناء يعقوب عليه السلام ، يؤكدون أقوالهم وينزعون الشك من نفس أبيهم ويدللون على صدقهم :

 (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) ))(17) .

 4 ـ أسلوب الحصر : كقوله تعالى : (( وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ))(18) ،

 وقوله : (( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ))(19) .

 وقوله : (( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ))(20) .

 ففي هذه الأمثلة جاء التأكيد بالنفي والاستثناء ، نفى كل صفة إلا واحدة ، كلَّ عمل إلا
واحداً .

 5 ـ أسلوب القصر : وقد يكون :

أ ـ باستعمال إنما :

 (( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ))(21)

 (( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) ))(22) .

 ففي الآية الأولى أثبت بشريّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كسائر الناس إلا أنه يوحى إليه ، ولا يوحى إليهم ، فهو بذلك رسول اللهِ إليهم .

 وفي الآية الثانية سألوه عن موعد الساعة ، فقصر العلم بها على الله سبحانه وتعالى ، وقصَر على نفسه الرسالة .

ب ـ بتقديم ما حقه التأخير ، وتأخير ما حقّه التقديم ، كقوله تعالى : (( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ))(23) ، وقوله سبحانه : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ))(24).

 ففي الآية الأولى أكد أن التوكل لا يكون إلا على الله ، وفي الآية الثانية قصر العبودية على الله والاستعانة عليه .

 6 ـ التكرار : سمة ظاهرة في القرآن ، كما بيّنا ذلك حين أفردنا له عنواناً خاصاً بل التكرار من أبرز الأساليب في القرآن ، من أمثلته قوله تعالى :

 (( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ))(25) .

 ((سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (111)
))
(26) .

 (( سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) ))(27) .

 (( سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) ))(28) .

 ثم أكد القرآن الكريم في هذه السورة ((الصافات)) أنهم مرسلون فقال : (( وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) ))(29) .

 ومن أمثلة التكرار قوله تعالى : (( فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ . . . )) (( أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ . . . )) في قصة ذي القرنين . . .

 وسنأتي بأمثلة كثيرة إن شاء الله في باب التكرار .

 7 ـ التأكيد بالحروف : وحروف التوكيد عديدة منها : إنّ ، أنّ ، لام التوكيد ، قد ، نون التوكيد .

 فمن الأمثلة قوله تعالى [ إنَّ واللام ] :

 (( وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) ))(30) .

 ومن أمثلة التوكيد [ باللام ونون التوكيد ] قوله تعالى :

 (( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ))(31) .

 ومن أمثلة التوكيد [ بقد ] قوله تعالى : (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) ))(32) .

 (( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ))(33) .

 8 ـ تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم وغير ذلك من أدوات التوكيد :

 قال الله تعالى : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ))(34)

ما أشدَّ التأكيد في هذه الآية وما أسعد المسلمين به ؟! إن فيها أحد عشر توكيداً في سبع كلمات على حفظ هذا الدين العظيم ومَنْ الذي يحفظه ؟ إنه الله تعالى وأعظم به حافظاً .

أ ـ الأول والثاني : إنّا (إنَّ ونا ضمير العظمة) .

ب ـ الثالث : نحن (ضمير العظمة) .

جـ ـ الرابع والخامس : نزّلنا (تضعيف الفعل ونا ضمير العظمة) .

د ـ السادس : الذكر (ال العهدية) .

هـ ـ السابع والثامن : إنا (إن ونا ضمير العظمة) .

و ـ التاسع : له (تقديم ما حقه التأخير) .

ز ـ العاشر والحادي عشر : لحافظون (لام التوكيد ثم واو العظمة) .

 وطرق التوكيد كثيرة يلحظها المتفحص للآيات المتابعُ لها .

                

(1) سورة الفجر ، الآيتان : 1 ، 2 .

(2) سورة الضحى ، الآيتان : 1 ، 2 .

(3) سورة الطارق ، الآية : 1 .

(4) سورة الشمس ، الآيتان : 1 ، 2 .

(5) سورة النجم ، الآية : 1 .

(6) سورة النازعات ، الآيات : 1 ـ 5.

(7) سورة الذاريات ، الآيات : 1 ـ 3 .

(8) سورة الحجر ، الآية : 72 .

(9) سورة الصافات ، الآية : 56 .

(10) سورة الكهف ، الآية : 109 .

(11) سورة لقمان ، الآية : 27 .

(12) سورة الأعراف ، الآية : 40 .

(13) سورة المائدة ، الآية : 36 .

(14) سورة آل عمران ، الآية : 91 .

(15) سورة يونس ، الآية : 94 .

(16) سورة الزخرف ، الآية : 45 .

(17) سورة يوسف ، الآية : 82 .

(18) سورة الأنعام ، الآية : 148 .

(19) سورة يس ، الآية : 53 .

(20) سورة النور ، الآية : 54 .

(21) سورة الكهف ، الآية : 110 .

(22) سورة تبارك ، الآية : 26 .

(23) سورة التوبة ، الآية : 51 .

(24) سورة الفاتحة ، الآية : 5 .

(25) سورة الصافات ، الآيات : 79 ـ 81 .

(26) سورة الصافات ، الآيات : 109 ـ 111 .

(27) سورة الصافات ، الآيات : 120 ـ 122 .

(28) سورة الصافات ، الآيات : 130 ـ 132 .

(29) سورة الصافات ، الآية : 181 .

(30) سورة الحاقة ، الآيات : 48 ـ 51 .

(31) سورة التكاثر ، الآية : 8 .

(32) سورة الأعلى ، الآية : 14 .

(33) سورة الأحزاب ، الآية : 18 .

(34) سورة الحجر ، الآية : 9 .