ثقافة الاستبداد في رمقها الأخير

ثقافة الاستبداد في رمقها الأخير

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

حكاية أرويها , أو قصة أكتبها , أو أنها من صنع خيال , ولكنها ليست لا حكاية ولا قصة ولا خيال

في مراحلها الثلاثة , من الصعود , حتى القمة , وبعدها الانحدار

كل مخلوق وجد أو سيوجد على هذه الأرض يمر بتلك المراحل . صفات مشتركة بين , الإنسان والحيوان والنبات , والعقل هو هبة لبني البشر , هذا العقل مهما خرج عن طوره , وتشتت عن معاقله , فسيأتي زمن يكون فيه , اسم على مسمى , يعقل ما حوله , ويستفيد من تجاربه وتجارب غيره , ليعود على صاحبه وعلى الآخرين بالخير الكثير

في بلداننا العربية , وعلى امتداد حضارتها ورثت وورثت ثقافة الحاكم الطاغي , وورثت الشعوب هذه الثقافة , ورضيت فيها وتفاعلت معها , ومع مرور الزمن , صارت جزءا من ثقافتها , ثقافة الحاكم الأوحد , ثقافة العارف الوحيد , ثقافة الحاكم الطاغي والمستبد , فهي عبر القرون الماضية والحاضرة عاشت عليها وتغذت منها وورثت ..وورثت ثقافتها , فلا خروج عن ولي الأمر , وكانت النتيجة منها الحكم العشائري , أو الأسري , أو الفردي المطلق

حدثت ثورات كثيرة ضد ذلك , ولكن كانت الغلبة دائما لتلك الثقافة , فقد بنيت ثقافة تلك الأنظمة على أسلوب يكاد يكون واحدا في جميع مراحله , حتى ينتهي ليحل مكانه طاغ آخر , والذي استفاد من أسباب سقوط الطاغية الذي سبقه , فيتحاشاها ليكون أسوأ من سابقه , وتكون النتيجة لذلك , التشتت والتمزق بين كيانات الوطن , والتعذيب والقتل والتشريد , ومسح المعارضين من الوجود , ليعقبه احتلال أجنبي للبلاد , ويمزق ترابها وتتعدد مزارعها الخاصة للطغاة فيها

وحكموا البلاد بالنوع الذي ينتمي إليه , فإن مثل عشيرة ما , جعل كل عشيرته في مفهوم الشعب مصدر كل فساد , ومن حكم باسم الأسرة أو الطائفة , صبغهم الحاكم بنفس الصيغة من الظلم والقهر والفساد , ولكي يدوم  الحال , صنعوا المجرمين والقتلة , ونزع الرحمة من قلوب الكثير , واستمر الحال , كلما دخلت فئة كانت ألعن من سابقتها , وأكثر قذارة وإجراما , ولا يوجد خوف من حساب قادم

ولكن بدأت تتسلل إلى عقول المجتمع ثقافة أخرى , متناقضة مع تلك الثقافة الممتدة عبر قرون عديدة , ثقافة مبدأها السلام والتعايش بين فئات المجتمع , ثقافة الوعي بالذات ,  ثقافة الحب والروابط الاجتماعية , والتي تربط كل أفراد المجتمع برباط واحد , هو رابط تراب الوطن والذي نشأ منه الجميع

هذه الثقافة إن كتب لها النجاح , وزاد معتنقوها , سيكون لها أثر طيب وبناء في المستقبل القريب , ولكن ستجد أمامها صعوبات كثيرة , هذه الصعوبات ستزول تدريجيا في حال الإصرار على تبنيها وتشكيلها بما يتلاءم مع مجتمعنا العربي والإسلامي

حتى تقف على قدميها أولا, عليها أن تعرف بوعي كامل من هم الأعداء لهذه الثقافة

فالفضل الكبير لخروج هذه الثقافة للعلن هو الشعب التونسي الرائع , والذي نبه الأمة الغافلة , والنائمة منذ قرون , ليقول لها , ولمفكريها وحكامها , هنا تنبع ثقافتنا , ومن بين أضلعنا , وليس هناك استيراد من مكان ما

ثقافتنا هي صنع الحياة , والإنسان , وليس نظريات مستوردة , ولا ثقافات متعددة اعتمدنا عليها, تفاعل الشعوب فيما بينها , نستفيد من تجاربهم ومن أفكارهم , نخرج بفكر يجمع شملنا , يتلاءم مع واقعنا , بالحب والسلم والوئام

ودعمت الجماهير المصرية والشباب المصري البطل هذا الاتجاه , وانتفضوا  ليغيروا التوارث القديم

وكأن الشعب التونسي والمصري نسخة واحدة في التحرك , فلم يحملوا لافتات حزبية , ولا لافتات عقدية , وإنما راية الوطن وعلمها , وبدون سلاح , لا أبيض ولا أسود , ووقف العالم والنظام عاجزا عن اتهامهم بتهم منسوبة للمؤامرة

أعداء هذه الثقافة بالدرجة الأولى الأنظمة العربية , ومن يدعمها من الدول المقتدرة على التأثير والفعل ,

هؤلاء الأعداء أرادوا , أن يطمسوا الظهور الجديد , بظهورهم المعروف , كما برهنوا عن ثقافتهم وشاهدها العالم أجمع , إنها ثقافة الجمال والبغال والمجرمين والقتلة والكلاب المفترسة

بينما هذه الثقافة المنبثقة من روح الأمة , برهنت للعالم أجمع , أن الشعب يجمعه الحب والوطن , وكيف بدا للعيان لا لبس فيه , المصري المسلم يصلي , وأخوه في الوطن المصري المسيحي يحرسه , من حاملي ثقافة الحمير

لتثبت لنا وللأمة , أن الذي يفرقنا ليس نحن كمجتمع , وإنما سياسة الاستبداد والذي ورثوها من الاستعمار( في فرق لكي  تسد )

لقد مرت ثقافتهم في مراحلها الثلاثة وهي تحتضر الآن , وبدأت تحل مكانها ثقافة شابة صاعدة , عنوانها الحب والوئام والسلام بين المجتمع بكافة فئاته

وبانتصار هذه الثقافة , الشابة الممتدة عبر أرجاء الوطن العربي  , منها وفيها نستطيع أن نبني الأمة كلها , وفيها لن تجد عائقا للوحدة بين الدول العربية , ولن يشعر بمرارتها شخص أو فئة ما , لأن خيرها سيمتد للجميع

إن ثقافة الجمال والحمير والبغال والكلاب المسعورة , سترحل مع معتنقيها , ولا عودة لها , وغير مأسوف عليها وعلى أصحابها , فجهنم أولى فيها وبأصحابها.