إنها عدالة الإسلام
أ.د/
جابر قميحةلقد بعث الله ـ سبحانه و تعالى ـ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليزرع في النفوس القيم الإنسانية العليا ، وينتصر لها ، وهو القائل عن نفسه : " إنما بعثت لأتمم مكلرم الأخلاق " فلا عجب أن يخاطبه رب العزة قائلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) الأنبياء (107) . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق الناس بها " .
وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم حضر " حلف الفضول " في دار عبد الله بن جدعان ، وهو حلف عقد في الجاهلية ، ويقوم على أساس الانتصار للمظلوم على الظالم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته : " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن يكون لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " . فأقواله وأفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقطع بأنه كان ينتصر للقيم الإنسانية بصرف النظر عن الدين .
فانتصارا لقيمة العدل طلب من المسلمين أن تكون هجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة ، وعلل هذا الاختيار بقوله " .... فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد " . وكان صلى الله عليه وسلم مثال الإنسان الكامل في التعامل مع أصحاب الأديان الآخرى . ومعروف من سيرته أنه حينما هاجر إلى المدينة كتب عهدا يتدفق إنسانية في التعامل مع اليهود . ومن المبادئ والقيم التي تضمنها هذا العهد ما يأتي :
1- إبقاء الحال على ما هو عليه فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي .
2- تقرير مبدأ الإخوة والتعامل بين المؤمنين . وهذا يتولد عنها التزامات متعددة خلاصتها : أ – تحمل ديْن المسلم والالتزامات المالية الأخرى . ب – التعاون على البر والتقوى ومواجهة البغي والإثم والعدوان . ج – لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن ، وهم موالي بعضهم . د - لا ينصر المؤمن قاتلا أو مجرما أو يؤويه .
3- قيام التلاحم والتعاون بين المسلمين واليهود . وقد عبرت المعاهدة عن ذلك بعبارة " وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ... " ... " وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ...الخ . وقد نص النبي ـ عليه السلام ـ في هذا الكتاب على ما يقتضيه هذا التلاحم ، أو ما يمكن أن نسميه بالتعبير الحديث " وحدة الأمة بكل عناصرها " على الالتزامات الآتية : أ - التزام اليهود بمعاونة المؤمنين في حالة الحرب بالمال والسلاح والمؤن . ب- مناصرة المسلمين لليهود ومواساتهم بكل السبل والوسائل الممكنة.
4- الجهاد واجب على الجميع لا تنفرد به طائفة دون طائفة .
5- المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم.
6- لا تز وازرة وزر أخرى " لا يٌأثم امرؤ بحليفه . "
7- ضرورة رعاية حق الجار .
8- الشعور بالأمان حق للجميع . سواء أبقي الشخص بالمدينة أم خرج منها " إلا من ظلم وأثم " .
9- " على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلهم " أي على كل مواطن أن يتحمل نصيبه الذي يلتزم به لصالح الجماعة .
10- " ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار ( خلاف ) يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ... " .
**********
ومع ذلك وقف اليهود من الإسلام والمسلمين موقف العداء والغدر والتآمر .
ولايستطيع أحدأن ينكر إنسانية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعامله مع النصارى . وقد صدق الله سبحانه وتعالى إذ قال " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) " المائدة 82- 83 .
**********
وعلى دربه سار الخلفاء الراشدون : فمن عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى أهل نجران " هذا كتاب عبد الله أبي بكر لأهل نجران أجارهم بجوار الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأرضيهم وثلتهم ( جماعتهم ) وأموالهم وحاشيتهم وعبادتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وآساقفتهم ورهبانهم وبيعهم ( أمكنة العبادة ) ولا يغير أسقفا من سيقيفاه ، ولا راهب من رهبانيته ... "
ومن وصيته لبعث أسامة بن زيد " لا تخونوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفل صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ... وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ... " .
**********
ومن عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى أهل إيلياء ( القدس ) " ... هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمها ، وبريئها ، وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينتقض منها ، ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ... وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت ( اللصوص ) .... " .
وشبيه بهذا العهد عهده إلى أهل " لدٌ " بفلسطين سنة 15 هجرية :
" ... أعطاهم أمانا لأنفسهم وكنائسهم وصُـلبهم ، وسقيمهم ، وبريئهم ، وسائر ملتهم ، أنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينتقض منها ، ولا من حيزها ، ولا مللها ، ولا من صلبهم ، ولا من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم ... الخ .
وإذا ما نظرنا إلى هذين العهدين نلاحظ ما يأتي :
1- أنهما جامعان مانعان : بمعنى أنهما جمعا كل ما يمكن تصوره من ضمان حقوق النصارى المعنوية ، كحمايتهم من أن يفتنوا في دينهم، والمادية وتعني حماية مبنى الكنائس من أن يهدم ، أو ينقص منه. والعهدان كذلك مانعان من أن يفسرا تفسيرا غالطا .
2- ومن عجب أن ينص العهدان على حظر أن يسكن معهم أحد من اليهود . وكأن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ، ويرى كيف استقر اليهود في فلسطين وأنشئوا دولة إسرائيل ، وطردوا منها أصحاب الوطن الأصليين .
**********
ومن عجب أن يغفل حكامنا هذا التراث الثري الضخم من القيم الإنسانية ، والمثل العليا ، ولا يستثمروا هذه الثروة كمثل أعلى للعدالة والإنسانية بعد أن وقع حادث كنيسة القديسين ، ولكننا للأسف رأينا في الصحف الحكومية ـ المسماة خطأ بالصحف القومية ـ ما يزيد النفوس احتقانا ، بل يعكس الحقد الدفين ضد الإسلام والقيم الإسلامية : فنقرأ في هذه الصحف عناوين غريبة خسيسة منها : " لا إسلام ، ولا مسيحية ، ولكن مواطنة " . ونرى أحد الكتبة يكتب مقالا طويلا بعنوان " دولة القانون هي الحل " ومما جاء فيه : " ... إن بعض القائمين بالتدريس في المدارس والجامعات يستغلون فرصة وجودهم في المدارس والجامعات بعد انفرادهم بطلابهم لكي يقولوا ما يشاءون لإثارة الكراهية دينيا واجتماعيا في عقول الطلاب فتتحول الجامعة إلى جمعية ، والمدرسة إلى زاوية ، ويمثل مقرر اللغة العربية حجر الزاوية في موضوعنا ، ذلك أن شرح دروس البلاغة يتم من خلال نصوص قرآنية ، مع أن لدينا تراثا من الشعر وأدب المقامات بأقلام أدباء من زمن الجاهلية ، ويهود ومسيحين ومسلمين يمكن استخدامها للتدليل بدلا من هذا الإكراه الذي هو ليس من الدين في شيء ... " .
وقد فضح هذا الكاتب نفسه ، وكشف عن حقده على الإسلام والقيم الإسلامية ، زيادة على جهله المدقع :
1- فالبيان القرآني هو قمة البيان والفصاحة . وقد اعترف بذلك الكفار أنفسهم ، فقال الوليد بن المغيرة عن القرآن : " والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى ... "
2- واستثمار الآيات القرآنية كشواهد على قواعد لغوية أو بلاغية إنما هو اختيار للأفضل المطلق .
3- ويخجلني أن يجعل هذا الكاتب من المقامات والشعر الجاهلي البديل الأصيل للبيان القرآني .
ويرى هذا الكاتب " أن إقامة دولة القانون الوضعي هو الحل بمعنى ألا يستمد نصوصه من أية شريعة دينية ، وهذا يستدعي إعادة النظر في النص الدستوري الخاص بأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع ؛ لأنه يؤكد على الطائفية حتى ولو اقتصر تطبيق الشريعة على المسلمين ... ويجب عدم تغليب ثقافة دينية على آخرى ... وليكن القانون فوق الجميع ... " .
مع أن هذا النص ( الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ) لا يدعو إلى كراهية ولا تفريق ؛ لأن هذا وضع طبيعي لشعب 90% منه مسلمون .
وكنت أتمنى أن يذكر هذا الكاتب استبدادية الحكم الذي يخنق شعبنا ، بديكتاتورية لم يعرف لها مثيل . ولكنه الحقد وضيق الأفق والعياذ بالله .