الرابطة الدولية للغة العربية
د.يحيى جبر*
بداية، أعتذر من غير العرب الذين يظهرون على شاشات التلفزة في الجهات الأربع يكتبون بالحرف العربي في الوقت الذي يتباهى فيه بعض العرب يالكتابة بالحرف الأجنبي، ومن أولئك الذين يُجهدون أنفسهم بتعلم العربية فيقاربون تارة ويلحنون تارات، ومن أولئك الذين يتهجون القرآن الكريم في أواسط آسية وأدغال إفريقية وجزر النحيط الهادئ؛ بينما أصبح كثير من العرب يرون في لغتهم عبئا ثقيلا يستخفون دونه أعباء هذه اللغة الأجنبية أو تلك.
ثم، أثني على تلك الدول التي تحترم حضارتها ممثلة في لغاتها باعتبارها الحامل الشعوري لتلك الحضارات، والبوتقة التي تحتضنها، أعني بريطانيا ومنظمة الكمن ولث، وفرنسة والفرنكفونية، والرابطة الدولية للغة الروسية، ونحوها.
وتحية بعد ذلك لمجامع اللغة العربية بالرغم من قصورها دون أهدافها المعلنة، باستثناء بعضها المقعد بإدارته، والمختطف بيد من تولاه لأجل فانفرد به.
ولعل العربية أوسع لغات العالم انتشارا في الزمان والمكان، نعم ربما تقدمت عليها الإنجليزية اليوم، ولكن الإنجليزية حديثة عهد بالانتشار، لو كانت المسألة بعدد الناطقين بها، فهذه العبرية لا يتكلم بها أكثر من أربعة ملايين ولكنها مع ذلك ذات حضور واسع، بل لقد باتت بهدد العربية في عقر دارها، وتحظى بمن يتعهدها ويرعاها ويفتح أبواب مؤسساته لتعليمها. فالمسألة إذن مرتبطة بالفعل الحضاري الذي يمارسه الناطقون باللغة، ولو كان مبنيا على البغي والعدوان كما هي الحال مع اللغة العبرية والناطقين بها، والإنجليزية والناطقين بها وغيرها,
وربما كان لبعض المؤسسات دور بالغ في خدمة العربية في الوطن العربي وخارجه، أعني الأزهر الشريف على وجه الخصوص وقسم البعوث الإسلامية بالتحديد الذي أتاح عبر القرون للملايين من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها تعلم العربية والقرآن وعلوم الدين بعيدا من النزعات المذهبية الضيقة التي طغت على بعض المؤسسات الحديثة الموازية، ولكن الأزهر لم يعد كما كان عليه من قبل واعترته شيخوخة السياسة، إلا أنه ما زال مناط أمل كبير.
نشعر بالألم والحسرة على أمجاد الأمة المضيعة في زواريب السياسة، ونشعر بما هو فوق ذلك عندما نرى أولئك الذين ما زالوا يكتبون لغاتهم بالحرف العربي وهم ليسوا عربا...مسلمون تعلقوا بالقران ولغته فاستعربوا، سواء أكانوا في دول جنوب الصحراء الكبرى حيث تنتشر المدارس القرآنية / الكتاتيب التي ما تزال تُرى فيها ألواح الكتابة، إلى جانب المحاضر المنتشرة في مالي وموريتانيا وغيرها، أو كانوا في أواسط أسية أو في سيبيرية، أو كانوا في جزر المحيط الهندي المحاذية للسواحل الآسيوية الجنوبية: في لاكديف ومالديف (مال الذيب).
وربما كانوا مسيحيين اضطرهم القهر إلى الرحيل فهم هنا وهناك لا سيما في أمريكا اللاتينية، تغربوا بعيدا عند مغرب الشمس ولكنهم حافظوا على لغتهم، وظلوا يحنون إلى أوطانهم، ولا يفّوتون فرصة لتجديد العهد بها. بل ذهبوا الى ما هو أبعد من ذلك فأسسوا الروابط القومية والأدبية, وخدموا لغتهم وهم من العالم في ركن قصي.
ولا يتوقف الأمر عند حد الحرف أو آيات القرآن الكريم بل تعدى ذلك إلى أسمائهم وأسماء بلدانهم، ،بل لقد كان ما هو غير ذلك... فقد أسسوا بلدانا وممالك كمملكة بروناي التي آلت فيها الزعامة لآل بلقية وهم أصلا من اليمن، وذلك النفوذ اليمني الواسع في جزر إندونسية والملايو، وفي أدغال إفريقية حيث أسس المغامر العماني حمد بن محمد بن جمعة المرجبي الملقب ب( تيبو تيب ) أمارة عربية إسلامية قرب شلالات ستانلي في الكونغو أواخر القرن التاسع عشر، وفي ممالك وسط وغرب إفريقية بورنو والهوسة وكانم وسواها. وأنا هنا لا أباهي بقومي وبما قد يكونون قد ارتكبوه من خطأ هنا وهناك، ولكنني أستعرض واقعا قائما يسترعي النظر ويدعو للاعتبار والمبادرة إلى استغلاله على وجه إيجابي من شأنه أن يشد أزر الأمة وينهض بها من جديد، بدلا من أن تظل هكذا؛ عرضة لأقدام الراكلين أومطية للخائرين الذين لا يدرون أشرّقت هي أم غرّبت، وإن دروا فهم لا يبالون ما دامت مصالحهم المادية بخير، هم والمصفقون لهم.
والمحزن في الأمر أن كثيرا من اللغات عزفت عن الحرف العربي، ولجأت الى اللاتيني أو الروسي، فهل نلوم أهلها على ذلك؟ لو فعلنا فسنجد فيهم من يقول: ولكن منكم من ترك الحرف العربي الى غيره، وقد دعا بعض أعضاء مجامع اللغة العربية الى نبذ الحرف العربي الى اللاتيني.... فنصاب حينئذ بالإبلاس والإفلاس، تماما مثلما رد بعض الساسة الأفارقة من غير العرب على بعض الزعماء العرب حين أبدى استنكاره لما تقدم عليه بعض الدول الإفريقية من اعتراف بإسرائيل أواخر السبعينات، فصفعه بقوله: قدوتنا في ذلك أختنا الدولة الإفريقية الكبرى... ذات الشأن؛ يعني مصر.
ولعل أبلغ ما يمكن أن يقال في حال الأمة الراهن من الهوان الاستخذاء ما ذهب إليه ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: "يُفيد لغةَ الأمة وعلومَها وأخبارَها، قوةُ دولتها ونشاطُ أهلها وفَراغُهم. وأما مَنْ تَلِفَتْ دولتُهم، وغلب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذلِّ وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موتُ الخواطر، وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علمهم". ولعمري لقد ماتت الخواطر، وأوشكت شمس اللغة أن تغيب لولا ما قيضه الله عز وجل لها من عز بالقرآن الكريم، وقد نسي الناس أنسابهم، ولم يعودوا يعرفون شيئا عن آبائهم إذ اشتغلوا بالطرب واللعب وتكريس مقولة بالخبز وحده يحيا الإنسان...
وانطلاقا من كل ما تقدم فإنني أدعو إلى تشكيل " الرابطة الدولية للغة العربية" مفتوحة لكل من يعنيه الأمر، بحيث تتولى رفع شأن العربية حرفا وكلمة ولغة وثقافة وتراثا وحضارة، بعيدا من المذهبية والعرقية والطائفية، ومن أي شكل من أشكال التمييز. وأتمنى على المهتمين أن يبادروا بكل ما من شأنه إنجاز المهمة على أكمل وجه وأحسنه، آملا في أن نتعاون جميعا في التخطيط الفعال، آخذين بعين الاعتبار أن التقصير الرسمي لا يعفي أحدا من مسؤوليته.
* رئيس قسم اللغة العربية بجامعة النجاح الوطنية نابلس فلسطين
الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية الفلسطيني