رحلة في الظلام
ناديا مظفر سلطان
موضوع الظلم في القرآن موضوع هائل الاتساع ، وقد ورد في قصص كثيرة وجاء في أمثلة متنوعة كما أخذ صورا مختلفة .
فالقرآن الكريم لا يعرض صورة الظالم –كما يتبادر إلى الذهن-أنه شخص مكفهر السحنة منتفخ الأوداج يحمل العصا أو الكرباج ويتربص بالمظلوم لينهال عليه ضربا وجلدا، بل يصوره أنه في بعض الأحيان يمكن أن يكون حليق الشارب، طويل اللحية ،يعتلي منبر الوعظ بين الأنام، و ينشر الفتاوى بين العباد،يحفظ عن ظهر قلب آيات من الذكر الحكيم، ويتلوها دون أي تذكر أو تدبر... يحمل سبحة بيد وبالأخرى إناء الوضوء.
ففي السياق القرآني أن الأمن والهدى ليس فقط لمن آمن ...ولكن لمن آمن وحافظ على نقاء إيمانه:
"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"82-6
وللظلم في القرآن صورة معكوسة على خلاف ما يتخيل المرء فإذ بالظالم هو المظلوم لأنه في النهاية قد ظلم نفسه... وهو ما وصفه الحق سبحانه
" ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما"110-4
وهل هناك ظلما للنفس أشد، وخيبة أدهى وأمر من الخيبة عند الحساب، وانقطاع الأمل بالنجاة؟
والآية من سورة(طه ) تنشر ظلالا عميقة من الأسى والكآبة تناسب أجواء الظلم وما فيه من ظلمات:
وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما"111-20
وفي قضية الظلم يصعب أحيانا التمييز بين الظالم والمظلوم وهي قضية حساسة وشائكة وحتى الأنبياء سقط بعضهم في محاذيرها فكثير من الأحيان يخيل للناس أن الظالم هو المظلوم والعكس صحيح ولذلك فإن إلقاء الأحكام جزافا بين العباد فيه ظلم وأي ظلم.
و النبي داوود خر ساجدا، طالبا المغفرة من ربه بعد أن تسرع في حكمه بين الأخوين المختصمين فأعلن :
"لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه"24-38
والقصة تقول أن أحد الخصمين يملك تسعا وتسعين نعجة والآخر لا يملك إلا نعجة واحدة وللوهلة الأولى يبدو أنه من الظلم حقا أن يغلظ هذا الأخ لأخيه بالقول حتى يستولي على نعجته اليتيمة، ولكن التوجيه القرآني يفيد أن لا يؤخذ الحاكم بظاهر القول وأن يمنح الخصم الآخر فرصته للدفاع مهما كان موقفه ضعيفا ومتهما .
والحقيقة أن المختصمين ما كانا إلا ملكان سرعان ما اختفيا وراء سور المحراب
وكانت الغاية من دخولهما على داوود امتحانا وفتنة له لصواب أحكامه بين العباد.
والغريب أن يتعرض النبي للفتنة، ولكن الأغرب حقا أن الفتنة لا يتعرض لها الظالمين البتة:
"واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"25-8
والمؤمن أكثر تعرضا للفتنة وأشد عرضة للظلم
في قوله سبحانه أن
"ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما "112-20
فإن القرآن لا ينفي عن المؤمن التعرض للظلم ولكنه ينفي عنه( الخوف ) من الظلم طالما أن الوعد من الله
" إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير" 39-22.
والمجالات التي يمكن أن يقع فيها الظلم كثيرة فهي ليست فحسب بين الشركاء في المال بل يمكن أن تكون أيضا بين الشركاء في القفص الذهبي الذي يمكن أن يستحيل إلى سجن صدئ القضبان تسوده الظلمات من الظلم والأذى عوضا عن أجواء( المودة والرحمة) التي تعاهدوا عليها، وكانت ميثاقا غليظا أمام الله سبحانه فإذ به لديهم خيطا واهنا،بل أوهى من خيط العنكبوت.
هناك أيضا الشركاء في العلم، والقرآن هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه لم يغفل الظلم في المجال العلمي :
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم" 188-3
ونوبل جائزة تأسست عام 1901 وقد فاز بها منذ ذلك الحين وحتى اليوم أكثر من سبعمائة وثمانين شخصا ولكن اختيار أسماء العلماء الذين سطعت أسماءهم عاليا في سماء الشهرة والإنجاز العلمي لم يخل من بخس لعلماء اكتنفتهم ظلمات الغبن والظلم فلم يسمع بهم أحد .
وعالمة الكيمياء (ليز ميتنار) تجاوزتها جائزة نوبل للكيمياء للعام 1944 واستأثر بها أستاذها أوتو هاهن رغم أن رسائل ميتنار العلمية لأستاذها قد ساعدته كثيرا في اكتشافه للانشطار النووي آنذاك.
وألبرت شاتز مكتشف المضاد الحيوي (ستريبسومايسسين)تخطته جائزة نوبل للفيزيولوجيا عام 1952 وسبب تخطيه كان صغر سنه وشكوك لجنة الجائزة في عمق خبراته إذ كان يبلغ من العمر23 ربيعا وهكذا فوجئ المجتمع العلمي بفوز ووكسمان مؤسس المختبر الذي عمل به (شاتز )بجائزة نوبل كما اقتطع لنفسه ظلما الحصة الأكبر من مردودات حقوق ملكية الدواء
ولما قدم (شاتز) ومناصريه تظلما للجنة الجائزة مطالبين بحق الشاب في اقتسامها مع (ووكسمان) لم تستجب له اللجنة إلا بعد أربعين عاما فمنحته قلادة فخرية كنوع من تطييب الخاطر في العام 1994...!!!
و(فاروق الباز) عالم مصري دخل تاريخ ناسا وكالة الفضاء الأمريكية وأوكلت إليه مهمتين رئيسيتين في أول رحلة لهبوط الإنسان على سطح القمر،الأولى اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر، والثانية تدريب طاقم الرواد على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية وجمع العينات المطلوبة.
وتقديرا لأستاذه بعث (نيل آرمسترونج )برسالة إلى الأرض باللغة العربية واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من (د. فاروق الباز) تيمنا منه بالنجاح والتوفيق .
والعالم الباز ظلمته الأنظمة السياسية في بلده والمؤتمرات الإسلامية في العالم فلم يتألق اسمه فيها قدوة للأجيال الفتية من المسلمين ، بينما فتحت له أمريكا ذراعيها مرحبة لأنه كان اليد الخفية التي غرست علمها عاليا في كوكب القمر ...في ذات الوقت الذي غرست به سورة الفاتحة في أرض الكوكب.
ليس الباز وحده.. فهنالك في ناسا 350 عالما عربيا.
والمؤتمر الإسلامي في تورونتو استضاف الفنانة( حنان الترك) ربما للتحدث عن معجزة ارتدائها الحجاب كقضية تحتل الأولوية في الاعتبار الإسلامي.
بينما وفي القصة الأولى عند خلق البشرية صدر الأمر المطلق من الخالق سبحانه للملائكة بالسجود لآدم سجود التكريم( للعلم )الذي زوده الله به وميزه عن الملائكة المخلوقات المسخرة للطاعة
"وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين *قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم...."31-
والعالم الإسلامي يقف اليوم برمته في قفص الاتهام ويشار إليه بالبنان كإرهابي تتخذ ضده أعتى الإجراءات وأقسى أساليب الوقاية ، لجهل أو لتجاهل بما أوصى به القرآن كأولوية ، وما اشتغل له العلماء المسلمون.
وفي سورة النحل "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"118