نحو تربية قويمة للطفل وسط الأسرة
ياسين سليماني
يقول أحد الكتاب: " عالم الأطفال عالم ملئ بالجمال والدهشة والبراءة، عالم يمكن أن يحقق فيه الإنسان إنسانيته، ويمكن أن يحلق في سمائه ويسير على أرضه(1). ومرحلة الطفولة تعتبر أهم مرحلة في حياة الإنسان، ففيها بداية التشكيل والتكوين، وعليها سيكون الإنسان بعد ذلك سويا أو مريضا، فجميع الأمراض النفسية – تقريبا- تنشأ لسوء فهم طبيعة هذه المرحلة ومتطلباتها، إن أسئ إلى الطفل فيها ولم يعامل المعاملة التربوية السليمة(2). وتهتم هذه الورقة بالحديث عن المجال الحيوي الأول الذي يعيش فيه الطفل، ويأخذ وقته ويشغله وهو المنزل، والأسرة التي ترعى الطفل داخله.
1- الأطفال وحاجاتهم:
أب يعمل خارج المدينة، ويعود إلى بيته وأبنائه مرة كل أسبوع أو أسبوعين، لا يتصل إلا نادرا، ولكنه مع ذلك يترك مصروف البيت والأولاد كاملا غير منقوص، الأطفال يعيشون حياة مادية جيدة ...لكن...؟
أمثال هذا الأب كثيرون في مجتمعنا، ينظرون إلى حاجات الطفل على أنها تنحصر في توفير الغذاء واللباس، دفع مصاريف العلاج في حالة المرض، دفع مصاريف الدراسة، تلبية كل طلبات الأطفال المادية، وإذا كان هذا الجانب في غاية الأهمية، فإنه لا يكفي لتربية قويمة للطفل.
والواقع- كما يقول د. عبد الرحمن الوافي، أن التعرف وفهم حاجات الطفل الأساسية يؤدي بالمربين إلى مساعدة الطفل البريء للوصول له إلى أفضل مستوى من النمو النفسي والاجتماعي والثقافي الذي يؤهله إلى التوافق السوي ذاتيا(3) وأهم هذه الحاجات هي:
أ- المحبة: وهي الحاجة الانفعالية العاطفية التي يجب توفرها وإشباعها للطفل، حيث أنه يحتاج إلى أن يشعر بأنه محبوب، مرغوب فيه، هذه الحاجة: " الحب المتبادل المعتدل بينه وبين والديه وإخوانه"، حاجة لازمة للصحة النفسية(4)، ويمكن تأكيد هذه المحبة من خلال عادات تكرسها الأسرة مثل قبلة الصباح وقبلة المساء، وتمني التوفيق له، وغيرها من الآداب التي يمكن ممارستها داخل الأسرة(5).
ويؤكد علما نفس الطفل على أن كبت هذه الحاجة أو إحباطها يؤدي بالطفل إلى أن يصبح مستوحشا خائفا من كل شيء من الناس ومن المنافسة والإقدام والمغامرة والابتكار ومن الجهر بالرأي، وتحمل التبعات، ويبدو ذلك في صور شتى منها: الخجل والتردد والانطواء والارتباك، أو يبدو أحيانا في شكل تحد وعدوان ولا مبالاة ويجمع علماء التحليل النفسي بخاصة "إريك فروم"، على ضرورة إشباع هذه الحاجة لأن أثر عدم إشباعها يبقى دائما كمؤشر للشعور السلبي في التوجيه الذاتي للفرد(6).
ب- الاستماع: إن من أهم وسائل التعبير عن المحبة للطفل أن يبدي له المربي اهتمامه به وبكلامه، فيعطيه فرصا للكلام ويحسن الإصغاء له، وفن الاستماع للطفل هو أهم قناة تنقل أواصر المحبة بين الوالد وابنه، وتعبر للطفل عن الاهتمام والانتباه له، ويجعل الآباء قادرين على فهم أبنائهم في مراحل عمرهم المختلفة، مع الإشارة إلى أنه "إذا استمع الوالدان للولد وهو صغير، يصغي إليهما عندما يكبر"(7).
ج- عدم المقارنة: المقارنة بين شخصين، علميا ومنطقيا سلوك غير صحيح، وغير مقبول، لأنهما عالمان مختلفان، ولذلك فإن المقارنة عادة تتم بين سلوكيين وليس بين شخصين، وفي المجال التربوي فإن المقارنة بين طفلين لها من السلبيات أكثر من الايجابيات، حيث تصيب المقارن الضعيف بالإحباط وتولد لديه شعورا بالرفض والنقص(8) مثال: أنظر ذلك أفضل منك، أطول...أجمل...أذكى.
د- عدم الإفراط في الحماية: إن إحاطة الطفل بحماية زائدة تشل قدراته ولا تسمح له بتنميتها ولا باكتساب مهارات جديدة في الحياة، ولذلك يرى بعض المختصين أن الإقلال من حماية الطفل أقل خطرا من الإفراط فيها، فالإفراط في الحماية يقضي على حب المغامرة والمبادرة لدى الطفل، وقد تصيبه بالإشكالية القصوى والاعتماد الدائم على الغير، والطفل يفهم الحماية الزائدة على أنها انعدام ثقة الآخرين (خاصة الوالدين)، في إمكانياته وقدراته، وبالمقابل يرى أنه مرفوض من والدين يمنعانه من تحقيق استقلاليته وذاته، والتعبير عن نجاحه في مراحل نموه المتعددة(9) هذا ما يؤدي بنا للحديث عن النقطة الموالية.
هـ- الحاجة إلى الحرية (منح الطفل استقلالية):
- أنا أعرف مصلحته أكثر منه، أنا أخاف عليه، هو لا يعرف، هو لا يزال صغيرا،...إلخ.
مثل هذه التعبيرات كثيرا ما يكررها الأولياء، ويطبقونها على أطفالهم بالحد من تحركاتهم، وهذا يعيق الطفل عن التعلم والاستفادة، فالطفل بحاجة إلى حرية الحركة والمشي والجري والكلام والحفر، والفك والتركيب والهدم والبناء واللعب بكل مظاهره مع نفسه ومع الصغار ومع الكبار، ويجب ألا يمنع الخوف على الطفل أحدا من أن يتركه بحريته غير مقيد بالتوجيهات الصارمة أو بالمساعدات الدائمة حتى مع تقدم سنه، فعلينا أن نعطي للأطفال المزيد والمزيد من الحرية المنضبطة بالتوجيه والإرشاد فنكون بذلك مربيين معلمين ولسنا أعداء معنفين(10).
و- الحاجة إلى التشجيع:
قدرات الكفل مهما صغرت تجعله يحقق انجازات تتناسب وإمكانياته الذاتية ومراحل نموه، فما يراه الكبار صغيرا هو في عرف الطفل انجاز. وكلما اعترفنا للطفل بانجازاته شعر بالرضا عن نفسه واكتسب ثقة في قدراته واستشعر فعلا أنه مقبول، ولنعلم أن "الانجازات تقوي الطفل وتهيئه لمواجهة مصاعب الحياة وتحديات المستقبل، والطفل حين يسقط يحتاج لمن يساعده على النهوض إلا لمن يعنفه ويحبطه بالتعليق السلبي والتعنيف والتنقيص، لا تظهر نفسك وكأنك كامل، فإن كان طفلك يجد صعوبة في مادة ما فلا تحبطه بأنك كما كنت في سنه كنت متفوقا، بل قل له أنا أيضا كنت أجد صعوبة"، بدل أن تنعته بصفات سلبية ( أنت فاشل، غبي، أبله) تحبطه ولا تقدمه خطوة واحدة إلى الأمام(11).
كيف نتعامل مع أسئلة الأطفال؟
تحدثنا عن احتياجات الطفل، وتناولنا موضوع الاستماع أحد أهم هذه الحاجات، والاستماع يكون أيضا لأسئلة الأطفال فكيف نتعامل مع هذا الشأن؟
قد يكون الدافع للأسئلة حب الاستطلاع أو القلق أو الخوف أو محاولة جذب الانتباه من الآخرين، ويجب على المربي ألا يكبت الطفل أو يمنعه من السؤال، وألا يرفض الإجابة أو يتهرب منها، أو يجيب عنها بطريقة خاطئة وبدون تأكد (بدعوى أنه لا يصح للكبير أن يظهر جهله أو عجزه أمام الصغير)، وخذا حتى لا تتزعزع النظرة التقديرية للطفل تجاه مربيه، بسبب ذلك، خاصة إذ أن المربي يعتبر قدوة للطفل ومصدر ثقة، لذلك يجب الإجابة على أسئلة الطفل في حدود ما يفهمه ويستوعبه دون تشويه للحقائق وتسذيج لعقل الطفل الذي يسأل، خاصة إذا كانت الأسئلة فيها إحراج للبعض والأمثلة كثيرة على هذه الأسئلة(12).
مثال: طفلة شاهدت زلزالا في التلفزيون قتل فيه الآلاف. سألت أمها:
- لماذا ترك الله هؤلاء يقتلون، وأنت تقولين أنه رحيم؟
مثال: - من أين جئت؟
الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تكون بتبسيط وذكاء(13).
2/ الأطفال وأخطاؤهم (كيف يكون العقاب)؟
بداية ليست كل الأخطاء داعية للعقاب، الخطأ لأول مرة تحتاج إلى تنبيه، أخطاء صغيرة تحتاج إلى تحذير من العقاب، وليس العقاب.
ويرى الكثير من الدارسين أن الأطفال الذين قرر آباؤهم استخدام القسوة في تربيتهم قد أصبحوا أكثر وقاحة وعدوانية كما رأوا أن الأطفال العدوانيين قد استخدم في تربيتهم أسلوب يتميز بالقسوة والشدة المتناهية والمعارضة لرغبات الطفل، والمنع والقهر والإجبار وتحميل الطفل من المسؤوليات أكثر مما يحتمل ويطيق.
والقاعدة الذهبية للعقاب هي أنه يجب أن يقلل العقاب من الحاجة إلى المزيد من العقاب، حيث يجب أن يحد من السلوك السيئ ذاته، وإذا لم تتغير العادة السيئة فإن العقاب لا يؤدي الغرض منه.
يقترف العديد من الآباء هذا الخطأ لأنهم يركزون على العقاب أكثر من تركيزهم على السلوك السيئ ذاته، لو أنك تعاقب أطفالك خمس أو ست مرات في اليوم على نفس العادة السيئة فأعلم أن عقابك لا ولن يؤدي غرضه، ولو أنك تستمر في زيادة العقاب ويستمر السلوك السيئ مع ذلك فإن عقابك لا يؤدي مهمته، ويجب أن تجرب شيئا آخر، وينصح دارسو علم النفس المربيين بإتباع الخطوات التالية في العقاب:
- لا تعاقب وأنت غاضب.
- عاقب طفلك دون أن تحرجه (لا تحتقره، لا تعاقبه أمام أطفال آخرين أو أناس يستحي منهم).
- فسر العقاب: عليك أن تخبر الطفل عن الهدف من العقاب، فإنك حين تفسر له العقاب تحسن من قدرته على الفهم والتعاون، اشرح له أنك تعمل لصالحه، وأنك لست عدوا له، وبذلك أنت تحاول مساعدته لتنمي قدرته على اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل.
- استخدم عقابا منطقيا: فالطفل الذي يحول المكان إلى فوضى عليه أن يرتبه وينظفه، والذي يصل إلى بيته متأخرا لا يسمح له بالخروج للنزهة في اليوم الموالي، العقاب المنطقي أن يكون مكافئا أو موازيا ومساويا للخطأ، لا يعظم الخطأ الهين، ولا يستهين بالخطأ العظيم(14).
- لا تعاقب العقاب ذاته لأطفال مختلفين: إذا ارتكب أكثر من واحد الخطأ ذاته، مثال: اشتركا في الفوضى عليك ألا تعاقبهما العقاب ذاته، كالحرمان من مشاهدة التلفاز مثلا فيمكن أن يؤثر هذا العقاب في أحدهما دون الآخر، لأن الثاني يمكن أن يكون لا يحب المشاهدة، فلا يهمه حرمانك له.
ويبقى التوجيه والتنبيه وفتح مجالات الحوار أفضل السبل للتفاهم والابتعاد قدر الإمكان عن الخطأ.
الهوامش:
* ورقة شاركت بها في الندوة الموسومة بـ" حقوق الطفل في ظل القرآن والسنة" يوم 28/12/2009م بدار الشباب حي المقاومين بعين البيضاء.
1- عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، ص 671.
2- توفيق الواعي، الإبداع في تربية الأولاد، ص11.
3- عبد الرحمن الوافي، مدخل إلى علم النفس، ص 157.
4- نفسه، ص 158.
5- توفيق الواعي، ص 154.
6- عبد الرحمن الوافي، ص158.
7- توفيق الواعي، ص155.
8- نفسه، ص159.
9- نفسه، ص 159.
10- نفسه، ص 164.
11- نفسه، ص ص 161-163
12- نفسه، ص 26.
13- نفسه، ص26.
14- نفسه، ص 133.