إنهم يتكلمون بلغتنا والمصيبة لا نفهمهم ولا يفهموننا
إنهم يتكلمون بلغتنا
والمصيبة لا نفهمهم ولا يفهموننا
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
الوهم والحقيقة كلمتان إحداهما تلغي الآخر , فلو كان الأمر وهما لقلنا بعد أن كان يبدو حقيقة لتبادر للذهن عندها , أن الوهم قد ألغى حقيقة كنا نعتبرها موجودة , ولو بدا لنا عكس ذلك لقلنا كنا مخطئين في تقبل الأمر وهما , بنينا عليه فكرا معينا , بحيث لم يكن له قيمة في واقعنا ولكن الحقيقة أظهرت خطأنا ولغت الوهم الذي كان مبنيا في فكرنا
فعندما نطابق المفهوم السابق على واقع الشعب العربي والحكام , فمن الحقيقة نستطيع أن نبرهن أن الوهم مسيطر على الجميع , أو يمكن القول الوطن والحاكم ,ولا يوجد أوطان ولا يوجد حكام ولا شعوب حتى !!!!!
إن الإنسان عندما يستغرق بالنوم , تحط عليه الأحلام وتسيطر عليه ليعيش متسعا في عالم لا يجده على واقعه , أو يرى أموراً غريبة تكاد تصل لربع الوقت الذي يستغرقه في نومه وبعد أن ينهض من نومه قد لا يتذكر شيئاً مما رآه في منامه
عندما كنا صغاراً فقل قبل أربعين سنة كنا نحلم ونحن جالسين أو ونحن نمشي وعيوننا مفتوحة , حدائق جميلة , أزهار من جميع الأنواع ثمار وخضار يحيط بنا في كل مكان , معامل ومصانع وطن واحد وحرية
واشوي اشوي صارت كلمة وحده نقصد فيها بنت وعشيقة , والحرية صارت أغنية من التراث القديم
والآن حلمنا هو بوطن , أو بقطعة صغيرة حفرة من الوطن ليكون اللحد الأخير
لقد أصبح الوطن حقيقة وهمية , حقيقته في كتب التاريخ القديم , وفي عصرنا وهم وحقيقة , قد يكون حقيقة في عقولنا كشعب ومواطنين ووهم في عقول الأنظمة
لنقرب المسألة اكتر , الإنسان كائن اجتماعي بفطرته , لا يستطيع أن يعيش منفردا لذاته , يحتاج في حياته للآخرين كما يحتاجه الآخرون في حياتهم
يبدأ الإنسان من تكوين أسرة , هذه الأسرة تكون مكونة من أفراد ينتمون إليه , يسعى طوال حياته في تأمين مستلزمات العائلة العاطفية والمادية , ويتنازل بعد ذلك عن بعض أموره خدمة للصالح العام , لتكون هذه التنازلات متشابكة مع بعضها من جميع أفراد المجتمع لاستمرارية الحياة بشكل أفضل للجميع
فكيف ينظر الرئيس أو الملك أو الحاكم بصفة عامة لوطنه؟
فلو كان في عقله قناعة بوجود وطن ويسكنه شعب لكان تنازل عن بعض رغباته خدمة للصالح العام
ولكن المحير في الأمر لو استعرضنا مسيرة أي حاكم ودخلنا عميقا في داخله وقارناها مع تصرفاته
يشتركون في نقاط كثيرة هذه النقاط تجتمع وتشكل ركيزة واحدة مفادها :
يسعى كل حاكم لتفريغ وطنه من كل خير , ومن كل نعيم , يسعى جاهدا وقد لا ينام إلا القليل من التعب والإرهاق والتفكير في أنجع الطرق والوسائل الممكنة لتحقيق المكتسبات الآتية :
1- إن الشعب والوطن هي أفكارٌ خيالية في عقل الحاكم فقط , يتلاعب فيها ويصنع أدوارها برغباته هو , وينقل أدوارها بذهنه , ينفذها على الواقع ليتحول الوطن بكامله , إلى صورة ذهنية مرت بسرعة في الخيال , لم تتأكد ملامحها بعد ولن تتأكد كونها مجرد صورة
2- المال العام هبة بيده حقيقة له ولزمرته , وهمية الصورة التي ينقلها له ذهنه في أن الوطن والشعب ليس لهم وجود لتكون تلك الأموال مدفونة في البنوك الغربية والشرقية , المهم أن لا تكون نافعة لأصحابها الحقيقيين
3- الكرامة والعزة والنخوة والشجاعة كلمات ليست لها معنى , وكيف يكون لها معنى في وطن ليس له حدود ولا وجود , وشعب قد تبخر وأصبح شعباً أثيريا قد يلتق بماهيته مع مخلوقات لا نراها كالجن والشياطين , وإن تمرد عفريت منهم فكل إمكانياته توجه لطمث وجوده وخنق صوته , وتظهر هنا النخوة والكرامة والشجاعة متمثلة بإضعاف الشعور القومي
4- لافتتة مكتوب عليها كل ما في الوطن للبيع , من القمة إلى القاعدة , وحتى ما تمتلكه الأرض في أعماقها فهي للبيع أيضا
5- كرامة الحاكم تظهر للوجود عندما صوت يخرج من مجتمع الوهم , عندما يتمرد أحدهم ويقول أنا لست فكرة في عقل الحاكم , إنما أنا بشر حقيقي وموجود هنا بكل جوارحي وأفكاري باحثاً عن ماهيتي ووجودي هنا في هذا الوطن وعلى هذه الأرض
6- وتتلاشى الكرامة تلك وتحل محلها ذل وخنوع وتسليم , حتى لا يكون بنظرهم وهما كما هو حال المجتمع في عقله
فعندما نراجع تاريخ البشرية , ونتابع حياة الحكام في العالم أجمع
نجد أنواع مختلفة من أنظمة الحكم , منها العادل ومنها الوسط ومنها الأنظمة الاستبدادية والقمعية والشمولية , ولكنها تشترك في نقطة واحدة على اختلاف صورها أنها تكون حريصة على الوطن وعلى شعوبها , وقد تكون ظالمة أو مستبدة ولكنها مع ذلك , لا تحيد عن أن الوطن هو حقيقة والشعب كذلك وهم ليسوا منتجات من خيال الحاكم
إلا في الأنظمة العربية فهذه الصفات غير موجودة
فعلى سبيل المثال كان الإسكندر قبل الميلاد حاكما مستبداً ولكنه استطاع الانتصار على الفرس وغيرهم
هتلر ونازيته كانت تعبر عن أن شعبه هو الذي يجب أن يقود العالم
عبد الملك بن مروان مع استبداده وجبروته لكنه بنا دولة وإمبراطورية كبيرة استمرت عدة قرون من بعده
والحاكم عندنا مع ظلمه وجبروته واستبداده وتأليه نفسه , وسرقة بلده وبيع وطنه , فليس عنده شيء في ذهنه , ينميه لخير البلاد التي يحكمها , وإنما العكس فقط
فهل من الممكن بعد هذا أن يفهموننا , أو نحن يمكن أن نفهمهم ؟
نعم يمكن أن نجبرهم على الفهم , يمكن لنا أن نثبت لهم أننا لسنا مجرد وهم وخيال وأفكار في ذهن الحاكم وزمرته العفنة
فلن يكون هذا الإثبات بالكلام فقط , يجب أن يتم إثبات وجودنا الحقيقي وأن وطننا حقيقي , وأن الحاكم وزمرته ما هم إلا وهم سيطر علينا ,سحرنا بقوته وجبروته وتحريكه لنا في عقله كما يحلو له حتى كاد يصل بنا الأمر في فناء وجودنا كاملا
كثير من الشعوب وصلت لحالنا الذي نحن فيه , ولكن عندما شعرت أنها تسير للفناء , نهضت وقلبت الأوضاع وصارت حقيقة خرجت إلى الوجود بعد أن كانت خيالا في أفكار الأنظمة
ألم يحن الوقت بعد حتى نرى البشر والبشر يروننا ونتفاعل معهم ويتفاعلون معنا في إثبات أننا حقيقة وليس خيال؟