خواطر حول الإفراج عن المنشد (أبو راتب)

المنشد أبو راتب

نجدت لاطة

[email protected]

الحمد لله على خروج منشدنا الكبير ( أبو راتب ) من السجن في أمريكا، بعدما تمّ تبرئته مما اتهموه.

 ونحن تألمنا كثيراً حين تمّ اعتقاله، ليس لأنه أخ عزيز علينا، وعلي شخصياً، وإنما لأن أبا راتب هو أبو النشيد الإسلامي، وهو المحرك له.

 ولكن مع ذلك فأنا لم أتضايق كثيراً من سجنه، أو لنقل إن السجن له سلبيات وله إيجابيات.. وأنا أحب أن ينزوي الداعية عن ساحة الدعوة قليلاً، سواء أكان هذا الداعية فناناً أو واعظاً أو عالماً أو سياسياً أو مجاهداً أو أي نوع من أنواع الدعاة، ليس ليأخذ راحة لنفسه ولجسده، وإنما ليقوم بمراجعة للعمل الدعوي الذي يقوم به.

 والسجن هو أفضل الأمكنة للخلوة والانزواء والمراجعة.. ففي السجن ينقطع السجين عن العالم الخارجي، وترتاح أذنه من سماع رنات الخلوي، وما أكثرها بالنسبة إلى الداعية المهم، ويبتعد عن مشاغل الأهل والأولاد والأقرباء والأصدقاء وعن العمل المعيشي وغير ذلك من أمور الدنيا التي لا طائل منها.

 وهناك في غياهب السجن حيث الصفاء والهدوء يقوم الداعية بالمراجعة للعمل الدعوي الذي يقوم به دون تشويش ودون انشغال ودون هموم، فتكون هذه المراجعة جادة وشاملة ودقيقة.

 وفكرة الانزواء في سجنٍ أو في غيره للمراجعة للعمل الدعوي ليست مبتدعةً من ذهني، ولا بد من نسب الأفكار إلى أصحابها. وإنما سمعتها من الشيخ أحمد الكبيسي الداعية العراقي المعروف الذي يظهر في القنوات الفضائية. فقد ذكر خلال حوار معه أنه سُجن مرةً في السجون العراقية، وتبيّن له أن الفائدة الحقيقية للسجن بالنسبة إلى الداعية هي قيامه بالمراجعة للعمل الدعوي، أي تفسح له المجال للمراجعة، أما خارج السجن فلا يوجد وقت للمراجعة. وقد نصح العلماء والدعاة والمشتغلين بالعمل الإسلامي أن يخلوا بأنفسهم في كل حين بعيداً عن الناس وعن العمل الإسلامي لمراجعة لِما يقومون به. لأن الاستمرار الدائم في العمل الدعوي دون الوقوف للمراجعة والتقييم يجعل الدعاة يقعون في أخطاء جسيمة من حيث لا يشعرون.

 وليس شرطاً أن يكون الانزواء في السجن، وإنما يكون في كل مكان ينقطع فيه الداعية انقطاعاً تاماً عما حوله، أي هو يتعمّد هذا الانقطاع، ويبتعد عن بيته وأهله وعمله.. فكما أن الناس يأخذون إجازة من مشاغلهم الدنيوية، فيذهبون إلى المصايف للاستجمام والراحة. فكذلك الداعية ينبغي عليه أن يأخذ إجازة، ولكن ليس ليستجم ويستريح، وإنما ليقوم بالمراجعة والتقويم لِما يقوم به.

 وتكون مدة الإجازة أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً، وتكون كل سنة أو سنتين.. والداعية هو الذي يقدّر ذلك بحسب حجم العمل الإسلامي التي يقوم به.

 وأنا لا أعني بكلامي هنا الداعية الصغير صاحب المسؤوليات الصغيرة أو القليلة، وإنما أعني الداعية الذي بحجم المنشد أبي راتب، وبحجم الداعية عمرو خالد، وبحجم الشيخ يوسف القرضاوي، وبحجم الدعاة الجدد الذي يظهرون في القنوات الفضائية، وغير ذلك من الدعاة والمشايخ والعلماء والإعلاميين والفنانين..

 لأنه بصراحة أنا أشعر أن كثيراً من دعاة اليوم، لا سيما الدعاة الجدد، يقعون في أخطاء كبير في العمل الإسلامي دون أن ينتبهوا لذلك، وبعد ذلك تتراكم الأخطاء وتكثر، ويظن الداعية أنه على صواب. بينما لو قام بالمراجعة لِما يقوم به لتبيّن له الأخطاء التي يقع بها، وبالتالي يستطيع أن يتداركها، وبذلك يستقيم العمل الإسلامي ويزداد بركة وتوفيقاً من الله.

 وكما نعلم أن العمل الإسلامي عمل مقدس، وهو عمل لله، فهل يُعقل أن نترك هذا العمل المقدس دون مراجعة ودون تقييم؟ ألا يعلم الدعاة أن الفلاحين المتخصصين بزراعة البصل في فرنسا يعقدون اجتماعاً سنوياً لمراجعة ودراسة كل المستجدّات الخاصة بالبصل، أي ما استجدّ في طرق زراعته وحصاده وتسويقه، فهم يقومون بمراجعة شاملة لكل ما يخص البصل.

 فهل يُعقل أن نترك العمل الإسلامي دون مراجعة ودون تقييم؟ وهل يُعقل أن نترك النشيد الإسلامي دون مراجعة ودون تقييم؟ وهل يُعقل أن تمرّ على الجماعة الإسلامية أو على الحزب الإسلامي سنين طويلة دون أن تكون هناك أية مراجعة أو تقييم؟ إن تقصيراً هائلاً نجده من الإسلاميين بخصوص المراجعة والتقييم، فلا توجد مراجعة على الإطلاق عند الجماعات الإسلامية في كافة أنشطتها، وأنا أعيش في صميم العمل الإسلامي، وأتابع باستمرار أنشطة العمل الإسلامي، فلم أجد أية مراجعة جادة، وكم من مرة ومرات عديد نصحت القائمين على العمل الإسلامي على ضرورة المراجعة والتقييم، ولكن دون جدوى..

 ولا زلت أذكر حين سقط الاتحاد السوفييتي، قيل لأحد القائمين على العمل الإسلامي: الاتحاد السوفييتي سقط وقرر زعماء الكرملين البروستريكا (أي إعادة البناء) للحزب الشيوعي وللدولة، فلماذا لا تقومون أنتم في العمل الإسلامي بالمراجعة وإعادة البناء، لا سيما أن العمل الإسلامي لم يستطع الانفتاح على الجماهير العريضة، أي فشل في استقطاب الجماهير، وبالتالي لم يستطع الوصول بالمسلمين إلى المجتمع الإسلامي المنشود؟ فكان جوابه: نحن لا نحتاج إلى بروستريكا، لأن العمل الإسلامي متماسك وليس بحاجة إلى إعادة بناء.

 طبعاً هذا جواب إنسان (خايب) لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان في العمل الإسلامي، فالعمل الإسلامي يحتاج منذ عقود إلى المراجعة والتقييم وإعادة البناء.

 وقلت مرة لأحد المفكرين الإسلاميين: دول الغرب تقوم الآن بمراجعة شاملة للتعامل مع العالم الإسلامي والإسلاميين بعدما ضُربت في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فهل سيقوم الإسلاميون الآن بشيء من المراجعة تجاه ذلك؟ فقال لي: هم ضُربوا (واتلخبطوا) فيقومون بالمراجعة، أما نحن فلا يوجد شيء عندنا من ذلك، فلماذا نقوم بالمراجعة؟

 طبعاً هذا أيضاً جواب مرفوض، لأن الغرب بعد الحادي عشر من أيلول قرر ضمن خطة شاملة تجفيف منابع التديّن عند المسلمين، وهذا أخطر شيء يقومون به، والمتابع للعمل الإسلامي يجد ذلك بشكل واضح وخطير. ولكن ماذا نفعل إذا كان القائمون على العمل الإسلامي نائمين، ولا توجد لديهم أية مراجعة ولا تقييم.

 والغريب في الأمر أننا نجد في ديننا أنه يعلمنا أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين، والإسلاميون في هذا الزمن لُدغوا عشرات المرات دون أن يأبهوا لهذا اللدغ، فكأنهم اعتادوا على ذلك، أو لنقل مات الحس فيهم فلم يشعروا بأية لدغ. والملدوغ يجب أن يراجع نفسه لكيلا يُلدغ مرةً أخرى.

 أعود إلى قضية الانزواء والخلوة والمراجعة..

 إذا كان القائمون على العمل الإسلامي لا يلقون بالاً للمراجعة والتقييم، فلا بأس أن يقوم بها الداعية بمفرده، سواء أكانت هذه المراجعة في سجن أو بيت أو أي مكان آخر.

 والنشيد الإسلامي اليوم بحاجة ماسة إلى المراجعة، وأرجو أن تكون هذه المراجعة لمناقشة قضية الانفتاح على الجمهور غير الملتزم، لأنه ما زال جمهور النشيد الإسلامي مقصوراً على الجمهور الملتزم، والجمهور الملتزم خمسة بالمائة، وصحيح أنه حدثت تطورات كبيرة في النشيد الإسلامي من حيث تقنيات التسجيل والفيديو كليب وإنشاء القنوات الفضائية الخاصة بالنشيد وإقامة المسابقات الضخمة للمنشدين وغير ذلك، ولكن مع ذلك فما زال النشيد مقصوراً على الملتزمين، وما زال النشيد لا يستطيع المشاركة في المهرجانات الضخمة التي تقيمها الدول، كمهرجان جرش في الأردن ومهرجان قرطاج في تونس والمهرجانات الغنائية الأخرى.. فلا بد أن يشارك النشيد الإسلامي في هذه المهرجانات، لأنها المنبر الأوسع للانفتاح على الجماهير العريضة.

 وأرجو من رابطة الفن الإسلامي التي يرأسها المنشد أبو راتب والأستاذ علي العمري أن يعقدوا اجتماعاً لمناقشة قضية الانفتاح على الجماهير، لأن هذه القضية أكبر مشكلة في العمل الإسلامي الخاص بالنشيد الإسلامي.

 همسة في أذن المنشد ( أبو راتب )

 أقول: كفّارة إنشاء الله.. وأرجو أن تعود إلى البلاد العربية، فهي العرين الحقيقي لك، وهي المنطلق للفن الإسلامي، فأنا ما زلت أعجب كيف ترضى بالعيش والسكن في بلاد الغرب، فالداعي الحقيقي لا يقبل بذلك ، لأن البلاد العربية هي محضن دعوته، وهي الأولى بجهده.