الهجرة النبوية

عبقرية الحدث وإنشاء الدولة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

تحل مناسبة من المناسبات الإسلامية المتوهجة مثل الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، أو غزوة بدر، أو فتح مكة، فيشحذ الكتاب أقلامهم، ويكتبون عن هذه الأحداث الجليلة، مبرزين ما فيها من مظاهر الجلال والعظمة، مستخلصين منها ما تعكسه من دروس وعبر وقيم أخلاقية، ونفسية، واجتماعية، وإنسانية.

 ونحن ـ بلا شك ـ أحوج ما نكون إلى مثل هذه الكتابات، ومعالجة هذه الأحداث العظيمة بصورة تشد الشباب المسلم حتى تحقيق أنبل الأهداف وأسمى الغايات.

غير أن هناك أمرًا استوقفني في أغلب ما كتب من مقالات عن هذه الأحداث في المجلات، والصحف السيارة، وأعني به الحكم بأنه "أعظم حدث في تاريخ الإسلام والمسلمين. بل تاريخ الإنسانية جمعاء.. ولولا الهجرة لكان كذا .. وكذا .." وتأتي ذكرى "بدر" و "الخندق" و "فتح مكة" فيخلع الكتاب في مقالاتهم الحكم نفسه على كل واحدة من هذه الوقائع، فيكرر وصف كل منها بأنها "أعظم حدث في تاريخ الإسلام ... إلخ" وهذا "الحكم الواحد" وراءه ـ ولا شك ـ حسن نية وحماسة للإسلام متدفقة.

 ولكن هذا الشعور ـ مهما بلغ من التوهج ـ يضع الكاتب في مواجهة، بل معارضة غير موفقة مع أوليات المنهج العلمي السديد؛ "فأفعل التفضيل" في الحكم السابق ـ الذي يجعل من الحدث أعظم أحداث التاريخ ـ يفيد الإطلاق في التفضيل، ويفيد "الاستغراق" بالنسبة للمفضل عليه، وكل ذلك لا يسمح لحدث آخر بالاشتراك مع الحدث المحكوم عليه في "الأعظمية والتفرد".

 وهذا المسلك ـ من ناحية أخرى مع افتراض حسن النية في الكاتب ـ يعد جناية على "التاريخ الإسلامي". وتوضيح ذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل.

 **********

عبقرية الحدث في الإسلام:

الإنسان .. الزمان .. المكان.. الحدث: هذه العناصر الأربعة تتفاعل: تأثرًا وتأثيرًا.. أخذًا وعطاءً. شكلاً وتشكيلاً ، فتصنع "نسيج التاريخ".. وببساطة شديدة: يقوم الإنسان "فردًا أو جماعة" بعمل أو بحدث ما، في مكان معين، وزمان محدد، فيصنع بذلك "خيطًا" في "نسيج التاريخ البشري" ، ومن تضام هذه الخيوط وتلاحمها وتفاعلها، يتكون ويتطور النسيج الحضاري الإنساني الذي تسهم في صنعه كل أمة بقدر إمكاناتها وطاقاتها.

 والأمة الواعية هي التي تخطط لمسيرتها على أساس من بعد النظر وحسن التقدير، وقوة الإعداد ، وسلامة التهيؤ، بحيث يكون لكل "خطوة" حسابها ، ولكل عمل مكانه وزمانه اللذان لا يغني عنهما غيرهما لهذا العمل.

 وفي إيجاز شديد نقرر ـ في يقين ـ أن كل الوقائع والأحداث التي وقعت في تاريخ النبوة استوفت كل هذه الشرائط ، فكان ترتيبها وتتابعها ـ بالأشكال التي ظهرت فيها ـ عملاً عبقريًا وراءه توفيق الله سبحانه وتعالى. وباستقراء هذه الوقائع خرجنا بعدد من الحقائق تتلخص في ثلاث هي:

الحقيقة الأولى: هي مراعاة مقتضى الزمان والمكان: ولننظر مثلاً إلى الوقائع الآتية: تحمل أذى الكفار في مكة قبل الهجرة، ونهْي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرد على عدوانهم ـ الهجرة من مكة إلى المدينة ـ غزوة بدر ـ غزوة أحد ـ غزوة الخندق ـ صلح الحديبية ـ رسائله إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام ـ فتح مكة وتكسير الأصنام ... إلخ.

 جاءت هذه الوقائع بهذا الترتيب الزمني التصاعدي، وكل منها أدى دوره وأفرز نتائجه الطيبة؛ لأنه جاء في مكانه المناسب، وزمانه المناسب، ويتأكد صدق هذه المقولة لو قمنا بعملية "إحلال" بعضها محل بعضها الآخر: سنفرض أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الهجرة أمر عشرة أو عشرين من أصحابه بالزحف تحت ستار الظلام، وقاموا بتحطيم كل الأصنام التي كانت تدنس بيت الله الحرام. إننا نستطيع بسهولة أن نتصور النتيجة: قريش ستأخذها العزة بالإثم، وتهب هبة رجل واحد في غضب مسعور لتثأر "لآلهتها"، وسيُذبح المسلمون ـ وهم مائة أو مئات ـ جهارًا نهارًا على رؤوس الأشهاد.

 ومن الناحية العقدية ـ ستزداد قريش إصرارًا على كفرها، ولن تعجز عن استحضار عشرات أو مئات من الأصنام لتأخذ أماكن من جديد في بيت الله الحرام ، وإذا كان المسلمون ـ اعتمادًا على هذه الفرضية ـ قد حطموا الأصنام "الحجرية" فهم لم يحطموا بعد "الأصنام النفسية" ، فقد كان في قلب كل كافر صنم يتمثل في عقيدته الوثنية وكفره وإشراكه.

 فليصبر المسلمون إذن، وليصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيت الحرام، وقد تناثرت فيه الأصنام. إلى أن حان الوقت المانسب.. فتح مكة.. يوم جاء الحق وزهق الباطل، وحطم المسلمون الأصنام كلها، ويومها لم يعترض قرشي واحد؛ لأن "الأصنام النفسية" كانت قد تلاشت وتطايرت من قلوبهم.

 وفرضية أخرى ـ نمر بها سريعًا ـ وهي أن تقع أحد .. قبل بدر، ويكون استهلال المعارك انكسارًا عسكريًا. يسقط فيه عشرات من خيرة المسلمين على رأسهم حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ . إن هذا الانكسار لو كان هو البداية لزحف العرب جميعًا يساندهم اليهود ومنافقو المدينة للقضاء على هذا "المهاجر" الطارئ وأصحابه الفقراء المستضعفين.

 ونكتفي بهذين المثالين لتأكيد الحقيقة التي ذكرناها آنفًا، وهي مراعاة مقتضى الزمان والمكان، بتوفيق من الله كبير.

 **********

والحقيقة الثانية: أن كثيرًا من هذه الوقائع ـ إن لم يكن أغلبها ـ كان له أبعاده وملامحه ونتائجه الفارقة، وإن كان هذا الحكم لا يلغي ما بينها من صفات مشتركة وخصوصًا في الهدف الرئيس، وهو القضاء على الكفر وإعلاء كلمة الله، فغزوة بدر مثلاً وقعت في ميدان مفتوح ، وحرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يكون للمهاجرين دورهم الفعال في هذه الموقعة، وكانت نسبة حضورهم أعلى من نسبة حضور الانصار "اعتمادًا على الوجود الفعلي لعدد المهاجرين والأنصار في المدينة".

 وقتل من المشركين في بدر قرابة سبعين ، ومن قتل من هؤلاء على يد علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب فقط يزيد على ثلث هذا العدد، كما ذكر ابن هشام في السيرة النبوية. والقيمة النفسية والسياسية لهذا الحضور العددي من المهاجرين، والحضورالعسكري الفعال المنتج نسف مقولة المشركين والمنافقين واليهود بأن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة إلا للاحتماء والاسترخاء والنجاة، والركون إلى الحياة الوادعة، وكانت بدر شهادة فعلية بنصر مبين أحرزته قوة عسكرية منظمة في جيش له كيانه وقيادته.. ووراءه دولة توافرت لها كل أركانها.

 ومن الناحية الزمنية جاءت بدر في أنسب مواقيتها، وحققت بالانتصار العسكري في العام الثاني للهجرة ما يعد ضميمة لها قيمتها تضاف إلى قيم أخرى أخلاقية وتشريعية وتربوية ، كان القائد الأعلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرسيها تدريجيًا حتى يكتمل بناء الدولة قويًّا راسخًا.

 وإذا كانت غزوة بدر التي خرج إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون معركة دفاعية عن الإسلام والمسلمين في حقيقتها، وهجومية في ظاهرها التحم فيها المسلمون مع المشركين في مواجهة مباشرة، فإن غزوة كغزوة الخندق كانت عملاً دفاعيًا أيضًا بكل المقاييس في مواجهة الأحزاب (في شوال سنة 5 هـ) ، وبإشارة من سلمان الفارسي حفر المسلمون الخندق حول المدينة، ولم يحدث تلاحم بين القوتين باستثناء مبارزة بين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وعمرو بن عبد ود العامري انتهى بمصرع عمرو الذي اشتهر بقوته وفروسيته وفراعته، وبعد حصار امتد أيامًا انسحبت جيوش الأحزاب من قريش، وغطفان ومن عضدهم منكوسين موكوسين، وفي رأيي أن الكسب الأكبر الذي حققه المسلمون من واقعة الأحزاب هو أنها أدت بيقين إلى كشف النوايا والأبعاد النفسية لأعداء الإسلام والمسلمين: فأبانت عن حقيقة كثير من المنافقين، وكشفت عن حقيقة يهود بني قريظة، وقد نقضوا عهدهم مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وساندوا الأحزاب، ومن ثم اتجه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تصفيتهم. وأبانت عن أصالة معدن الأنصار: أوسهم وخزرجهم، وعن قوة إيمانهم، وصدق عقيدتهم، فقد رفضوا، على لسان زعميهم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، مصالحة غطفان على ثلث تمر المدينة لترفع غطفان الحصار عنها. وقالا "والله لا نفعلها أبدًا وقد أعزنا الله بالإسلام، وليس بيننا وبينهم إلا السيف".

 وتطرد القاعدة لو رحنا نستقرئ كل الوقائع والأحداث، إذ نجد ـ كما ذكرنا آنفًا ـ لكل منها أبعاده وملامحه ونتائجه الفارقةالتي تنم على عبقرية التخطيط والتدبير، والتطوير مضافًا إلى كل ذلك توفيق الله وتأييده.

 **********

وثالثة الحقائق.. وآخرها أن الحدث في ظاهره ـ إذا نظر إليه نظرة سطحية عجلى ـ قد يحكم عليه بأنه خلو من الكسوب والدروس والعبر النافعة مما يجعله ـ بناء على هذا الحكم السطحي العجلان ـ متنافرًا أو نشازًا لا يتسق مع انتظام الواقع الإسلامي في أحداثه المطردة، كالحكم على غزوة أحد بأنها كانت هزيمة للمسلمين. ومظهر الخطأ أو القصور في هذا الحكم يرجع إلى اتسامه بالتعميم؛ لأن معركة أحد كانت تمر بمرحلتين: في الأولى انتصر المسلمون انتصارًا واضحًا. وكان رماة المسلمين يقفون على ثغرة بجبل أحد لحماية ظهور المسلمين بأمر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهاهم عن ترك موقعهم مهما كانت الظروف، فلما ظهرت بوادر النصر هبطوا من موقعهم طمعا في الغنائم، وهنا تبدأ المرحلة الثانية حين اقتحم خالد بن الوليد بفرسانه الثغرة الخالية فكانت هزيمة المسلمين.

 ومظهر آخر من مظاهر القصور في الحكم يتمثل في الاكتفاء بالتقييم العسكري لغزوة أحد، ويغفل قيمة سياسية، واجتماعية كبرى تتمثل في مبدأ الشورى مهما كانت الظروف، وأيًّا كانت النتائج، لقد جاء في السيرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرى التحصن داخل المدينة، ولكنه تخلى عن رأيه مستجيبًا للرأي الآخر الذي يرى الخروج لملاقاة الكفار، فكان ما كان، وفقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المعركة أحب الناس إلى نفسه، وهو حمزة بن عبد المطلب، وجرح ـ عليه السلام ـ وسال دمه وكسرت رباعيته.

 وعاد المسلمون من أحد مثخنين بالجراح، ولو أنه أعلن في المسلمين أنه بعد ذلك سينفرد برأيه، وأنه لن يشاور أحدًا في سياسة الأمة، لو فعل ذلك ما لامه أحد، وربما راود هذا الخاطر كثيرا من المسلمين.

 ولكن الإسلام ليس دين المعركة الواحدة أو الموقف الواحد، والشدائد لا تعالج بالعصابية والحماسة المسرفة، ولكن بالرأي الناضج والمبدأ القويم. فلا عجب أن ينزل في هذا الموقف العصيب قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159).

 وبقيت قاعدة الشورى من أزهى قواعد الحكم الإسلامي على مدار التاريخ كله، وهي قاعدة تمثل نخاع الحكم السديد في المنشط والمكره، والسراء والضراء، فلا عجب أن يصف القرآن المؤمنين الصادقين في إيمانهم بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).

 **********

الهجرة والحقائق الثلاث:

وفي ضوء هذه الحقائق الثلاث علينا أن نفهم واقع الهجرة النبوية، فلا نزعم أنها أعظم حدث في تاريخ الإسلام، وتاريخ البشرية... إلخ، ولكن على أنها:

حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي والإنساني، وأنه أخذ مكانه وزمانه المناسبين، وأنه يشترك مع غيره من الأحداث والوقائع في تشكيل نسيج التاريخ الإسلامي والحضارة الإنسانية.

 **********

من الصعب إلى الأصعب ومن الرافض إلى القابل:

ذكر ابن إسحق أنه في العام الخامس من بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما اشتد الأذى بالمسلمين أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "لأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق ..." (ابن هشام 1/315).

 فهاجر عدد منهم إلى الحبشة على دفعين على رأس الأولى عثمان بن عفان، وعلى رأس الثانية جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ وكان الهدف من هذه الهجرة البحث عن السلامة والنجاة من الخطر الذي يتهدد حياتهم.

 أما هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة، فلم تكن فرارًا من أجل حماية النفس، وإن كان الحفاظ على الحياة وسلامة النفس مما يدعو إليه الدين، ولكن هجرته كانت لهدف أساسي هو "نشر الدعوة وتوسيع دائرته" . وهو لم يهاجر إلا بعد أن أصبحت تربة مكة قاحلة شمطاء، ترفض البذور، ولا تقبل الماء، وتحاول أن تخنق كل عود أخضر، وتمتص نخاع كل نبات جديد.. نعم لا بد من تربة جديدة، ومعاناة جديدة وعمل متواصل حتى تؤتي الدعوة ثمارها.

 وكانت هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما هو أصلح ، ولكنها لم تكن إلى ما هو أسهل، وآثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتحمل مزيدًا من الأثقال والأعباء في سبيل الوصول إلى نتيجة مثمرة للدين الذي حمل أمانته.. ومن يستقرئ تاريخ هذه الفترة يكتشف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في مكة يواجه عدوًا واحدًا يتمثل في قريش، ولكنه في المدينة أصبح يواجه أعداء متعددين وجبهات كثيرة متعددة.

**********

أعداء وجبهات متعددة:

فهناك المنافقون، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، الذي استبد به الحقد والنقمة؛ لأن هذا الوافد الجديد ـ في نظره ـ سحب البساط من تحت رجليه، وحرمه من تاج الملك، وكان قاب قوسين منه أو أدنى.

 وهناك اليهود: خيبر وبنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، قبائل غنية منيعة تبحث عن أمجاد مدفونة، وكانت تطمع في أن يمالئها النبي الجديد، وقد ظلوا ـ قبل بعثه ـ يهددون به أهل المدينة والعرب، ولكن خاب فألهم.

 والفرس والروم تتجه عيونهم نحو المدينة ترصد خطوات هذا الوافد الجديد الذي غير موازين القوى وموازين العقيدة في المنطقة.

 وقريش ما زالت على عدائها القديم، بل إن حقدها ازداد تضرمًا، وغضبها ازداد تسعرًا. فقد عز عليها أن يفلت من قبضتها محمد، ومن معه من المستضعفين.

 نعم خرج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأصلح والقابل، ولكنه الأعتى والأصعب.. وهذا هو الفيصل الحاسم بين الهجرة بمفهومها التشريعي الإنساني، والفرار بمفهومه المفزوع المهزوم.

 **********

محمد.. ودولة جديدة ..

الدولة ـ بالمفهوم الحديث ـ "جمع من الناس، ومن الجنسين معًا، يعيش على سبيل الاستقرار على إقليم معين محدود، ويدين بالولاء لسلطة حاكمة لها السيادة على الإقليم، وعلى أفراد هذا الجمع". (د. حامد سلطان: القانون الدولي العام في وقت السلم 343).

 وقد نصت المادة الأولى من الاتفاقية الخاصة بحقوق الدول وواجباتها التي عقدتها الدول الأمريكية في مونتفيديو في 26 من ديسمبر سنة 1933م على ما يلي:

"يجب لكي تعتبر الدول شخصًا من أشخاص القانون الدولي أن تتوافر فيه الشروط الآتية:

1 ـ شعب دائم.                  2 ـ إقليم محدود.

3 ـ حكومة.                              4 ـ آهلية الدخول في علاقات مع الدول الأخرى.

 ودون إسراف أو تمحل نستطيع أن نقول : إن المجتمع الذي استقر على أرض المدينة كان بوجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى مدى عشر سنوات يمثل ـ بكل معنى الكلمة ـ دولة متكاملة توفرت لها كل الشرائط والأركان السابقة:

فالمدينة رقعة من الأرض، أو إقليم له حدوده المميزة المعروفة عند سكانها وغيرهم. والشعب هو "الشعب المسلم" الذي كان قوامه : الأوس والخزرج، أو الأنصار الذين فتحوا صدورهم وقلوبهم للدين الجديد. والمهاجرين الذين تركوا أموالهم وديارهم من أجل عقيدتهم.

 وقد جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين هذه العناصر. وصهرها في بوتقة واحدة، فربطت بينهم قيم الحب والإيثار والإخاء، حتى صاروا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

وكل أولئك جعل لهذه الدولة الجديدة آهلية جديدة في التعامل كشخصية اعتبارية مع الآخرين.

 **********

علاقات متعددة:

وبوجود هذا الكيان الشرعي الجديد وهو الدولة الإسلامية، وجدت مجموعة من العلاقات بعضها جديد لم يكن له وجود من قبل، وبعضها كان له أصوله السابقة.

 فمن العلاقات القديمة: علاقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومجتمع الكفار في مكة وما حولها، وإن كانت هذه العلاقة قد تطورت بالهجرة فتحولت من علاقة بين مجتمع كافر وشخصية تحمل رسالة وتتعرض للاضطهاد إلى علاقة مرت بالمراحل الآتية:

1 ـ علاقة بين المجتمع المكي ومجتمع المدينة الذي لم تعترف قريش بمشروعية قيامه تحت قيادة محمد صلى الله عليه وسلم.

2 ـ علاقة بين المجتمع المكي ودولة على رأسها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعترفت بها قريش اعترافًا ضمنيًا يصلح الحديبية.

3 ـ علاقة بين المجتمع المكي والدولة الجديدة مع الاعتراف الصريح بشرعية هذه الدولة، وانضمام سكان مكة إلى جماعة المسلمين أو إلى الشعب المسلم، فصاروا أعضاء وخلايا في هذا الجسد الواحد.

 ومن العلاقات الجديدة علاقة الدولة الناشئة بالعناصر الدينية الأخرى مثل اليهود، وهم عدة قبال وتجمعات حول المدينة لها قلاعها ومزارعها وتجاراتها وذهبها وأموالها.

 ومن هذه العلاقات الجديدة كذلك علاقة السلطة ـ وعلى رأسها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطائفة لم يكن لها نظير في مكة، وهي طائفة المنافقين التي كان على رأسها عبد الله بن أبي بن سلول.

ومنها علاقة الدولة الجديدة بالعالم الخارجي متمثلاً في حكامه وملوكه وشعوبه في مصر، والشام، وفارس، والروم.

 **********

دولة إنسانية:

هذه العلاقات المختلفة كان لزامًا على الدولة الناشئة أن تحددها وتكيفها تبعًا لاعتبارات مصلحية إنسانية تتعلق بالدين والدولة والقيم، والأخلاقيات الجديدة، واعتمد منطق هذه العلاقات على ركيزتين أساسيتين:

الركيزة الأولى: مستمدة من قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) (النحل: 125).

الركيزة الثانية: وهي مستمدة من قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39).

والركيزة الأولى هي الأصل الأصيل في قائمة المبادئ الإسلامية: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدل الشريفة الحر بالتي هي أحسن، دون إكراه في الدين وقهر في العقيدة.

فإذا لم يأت الأسلوب الأول بالنتيجة المرجوة، فإن الدفاع المشروع عن النفس والعقيدة بالقوة المسلحة في مثل هذه الحال أمر يقره الدين، والعقل، والمنطق.

أدعياء .. ومنصفون..

 هذه هي حقيقة الدولة التي أنشأها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة بعد أن هاجر إليها. وهي دولة كما رأينا استوفت كل الشرائط والأركان التي نصت عليها القوانين الدستورية والدولية الحديثة. ولم تكن دولة على نسق اسبرطة، أو دولة أثينا أو بيزنطة وهو يسمى بـ (City State).

 ولكن الشيء المؤسف حقًّا أن نرى من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون لغتنا ويقولون أنهم يدينون بديننا، من ينكر هذه الحقيقة، بل يرفض فكرة أن الإسلام دين ودولة من أمثال: على عبد الرازق في مقاله المطول الذي عنوانه "الإسلام وأصول الحكم" ، وسعيد عشماوي وحسين بن أحمد أمين. مع أن كثيرين من الغربيين الذين لا يدينون بالإسلام يعترفون بهذا الجانب السياسي منه. ومن هؤلاء: فتز جرلد الذي يقول: "ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا" ، ويقول ستروثمان "الإسلام ظاهرة دينية سياسية، إذ أن مؤسسه كان نبيًا، وكان سياسيًا حكيمًا أو رجل دولة". ويقول توماس أرنولد "كان النبي في نفس الوقت رئيسًا للدين ورئيسًا للدولة".

 وهناك مئات من الأقوال تؤكد هذه الحقيقة التي لا ينكرها إلا الأعمى أو المتعامي، وقانا الله شر عمى الأبصار، ووقانا شر عمي القلوب التي في الصدور.