أسرار الحياة 56
المقالة السادسة وخمسون
ترجمة: د. خالد السيفي
الحقيقة خارج الـ أنا والـ هُوَ والـ أنت
هناك قصة: جاء نفر من الناس لرؤية بوذا، وبقي أناندا – التلميذ المقرب من بوذا – ينتظر في الخارج. وقد أطالت الجماعة اللقاء مع بوذا، فانزعج أناندا وقلِق. مما اضطره إلى إلقاء النظر عدة مرات والاطمئنان على معلّمه، وهو ما زال يرى القوم هناك.
وأخيرا وبعد طول تفكير وتردد قرّر أن يدخل ليتبيّن طبيعة النقاش الدائر ويتحرّى حقيقة الأمر. وكم كانت دهشته عندما لم يجد احدا هناك غير بوذا وقد جلس وحيدا، فتسائل أناندا: " أين القوم، أنا لم أرَ أياً منهم يغادر، وأنا احرس الباب الوحيد للخروج، ولا من مخرج الاّ عبري، فأين هم ؟ ماذا حدث؟.
فقال بوذا" إنهم يتأمّلون".
إنها قصة جميلة. جُلّهم دخلوا حالة التأمّل، تلك الحالة التي لم يكن قد تعرّف إليها اناندا بَعد. فهو لم يكن من المتأمّلين حينها. لم يكن على دراية بهذه التجربة ولم يَخبُر الظاهرة العملية منها.
إنها ظاهرة تحوّل الطاقة عند المتأمّلين.
لم يكن القوم موجودين كأجساد أو كعقول. هي حالة التحوّل من الوجود الجسدي والعقلي إلى الوعي الروحاني الكوني الموحَّد والموحِّد المتجاوز والمفارق للمادة. لقد تركوا مادّياتهم وانطلقوا، كانوا في حالة اختفاء الـ "أنا". أناندا كان يبحث عنهم من زاوية الـ"هو". والحقيقة في بُعْدٍ وإحداثياتٍ خارج نطاق الـ"الأنا" والـ"أنت" والـ"هو".
جاء احد الملوك الى بوذا. فقد أقنعه رئيس وزراءه بذلك. لكن هذا الملك كان شكاكا.. لأنه مثل السياسيين يبقى خائفا.. والملوك عادة هم كذلك.
كان الملك كارها أن يأتي لمقابلة بوذا في البداية، فهو ملك وبوذا شحّاذ. إلاّ أنّ المرحلة أصبحت لا تحتمل أن يستمر بتجاهل بوذا، فقد سرت إشاعة أن الملك ضد بوذا، في الوقت الذي أصبح فيه كل الشعب بوذيا.
قرر الملك الذهاب لرؤية هذا البوذا..من باب الدبلوماسية فقط، وتجنبا للحرج السياسي أمام الشعب.
عندما اقترب الملك من البستان الذي كان يُقيم فيه بوذا وتلاميذه العشرة ألاف، ارتعدت فرائصه فاستلّ سيفه متجمدا في مكانه ومخاطبا رئيس وزراءه: لقد اقتربنا كثيرا من الغيض، وأنت ذكرت أن عشرة آلاف من أتباع بوذا يعيشون في هذا البستان، أنا لا اسمع أي صوت، فعشرة آلاف شخص كفيلون بان يسمعوك همهمتهم من على بعد أميال، بل أن عشرة أشخاص ليصخبون صخبا يصل الينا في مكاننا هذا، نحن اقتربنا كثيرا ولا اثر لضجة....انه هدوء قاتل...لا بد أن في الأمر مكيدة...واعتقد أن هناك كمين لقتلي".
ضحك الوزير مجيبا "ضع سيفك جانبا، إنهم لن يقتلوك، انت لا تعرف بوذا ولم تتعرف على جماعته، فهم لا يؤذون حشرة، لا تخف، فقط تقدّم ليس هناك أي خيانة أو مؤامرة ولا يحزنون."
لكن كسياسي وقلِق وشكاك..دخل الملك البستان متأهبا لأيّ طارئ ويده على مقبض سيفه في غمده ...
فجأة بانَ ما لم يكن في الحسبان، عشرة آلاف تلميذ جالسون في صمت وفي حالة تأمل، كأن لا احد هناك.
قال الملك مصعوقا "يا الهي!! عشرة آلاف شخص؟ ماذا حدث لهم، أخطبٌ ألمَّ بهم؟ أما زالوا أحياء؟! إنهم يبدون كالتماثيل في سكونهم وسلامهم هذا، وماذا يفعلون هناك؟ لا بد أنهم يفعلون شيئا".
فقال بوذا " نعم إنهم يفعلون، لكن هذا الفعل ليس له علاقة بالخارج، إنهم يعملون شيئا في عالمهم الداخلي. إنهم خارج ماديّاتهم، وخارج أجسادهم، وخارج عقولهم. إنهم في مركز وجودهم، متحدّين مع مصدر طاقتهم وروحهم، إنهم في بؤرة الحياة.
في الحقيقة هم ليسوا بعشرة آلاف من الأفراد الآن، إنهم شخص واحد في وعيهم.