الشفافية والمساءلة ودورهما في التقدم والازدهار
الشفافية والمساءلة ودورهما في التقدم والازدهار
م. أسامة الطنطاوي
إن ظاهرة التخلف و التدهور الاقتصادي والسياسي و البيئي الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والاسلامية في الوقت الراهن على الرغم من توفر الموارد البشرية والكفاءات الفنية والذروات الطبيعية إنما يعود في معظمه الى استشراء ظاهرة الفساد بكافة اشكاله و تغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة ، وقد أدركت أغلب المجتمعات أن ظاهرة الفساد من أبرز المشكلات التي تواجه خطط التنمية ، وخاصة في المجتمعات والدول النامية ، واتفقت تقارير الخبراء والمتخصصين على ضرورة مكافحته وتطويقه للقضاء عليه حيث هناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته منظمة الشفافية الدولية على أنه كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة أي أن يستغل المسؤول منصبه وسلطته من أجل تحقيق منفعة شخصية ذاتية لنفسه أو لجماعته.
وتعرف الشفافية بأنها حرية تدفق المعلومات بأوسع مفاهيمها ، أي توفير المعلومات والعمل بطريقة منفتحة تسمح لأصحاب الشأن الحصول على المعلومات الضرورية للحفاظ على مصالحهم واتخاذ القرارات المناسبة ، واكتشاف الأخطاء.
ونستخلص مما سبق أن الشفافية هي نقيض الغموض أو السرية في العمل ، وتعني توفير المعلومات الكاملة عن الأنشطة العاملة للصحافة والرأي العام والمواطنين الراغبين في الإطلاع على أعمال الحكومة وما يتعلق بها من جوانب ايجابية أو سلبية على حد سواء دون أخفاء ، وكذلك يتضح أن الشفافية تتعلق بجانبين الأول يتعلق بوضوح الإجراءات وصحة مصداقية عرض المعلومات والبيانات الخاصة بالوحدات والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة والعامة ووضوح العلاقات فيما بينها من حيث ( التخطيط – والتمويل – والتنفيذ ) للوصول للغايات والأهداف المعلنة مسبقاً .
وهناك عدة أساليب وإجراءات لتحسين رفع مستوى الشفافية في أداء الوحدات والمؤسسات السياسية والاقتصادية في مجتمع ما طالما توافرت الإرادة الحقيقية لتحقيق ذلك لدى الجهات المعنية ، ومن أهمها دعم وتطوير النظام القانوني والجهاز القضائي بالمجتمع بشأن محاربة للفساد.
وإنشاء وكالات لمحاربة الفساد وذلك بأن تكون قوانين الدولة تسمح بإنشاء وفتح الهيئات والمؤسسات والجمعيات الحكومية والأهلية المختصة في مكافحة الفساد ومنحها الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها أو على أن ينصب جوهر عمل هذه الوكالات في الحصول على المعلومات وإجراء التحريات اللازمة ، وإعطاء التوصيات الخاصة بتوجيه الاتهام للأفراد المسؤولين عن الفساد الإداري في المؤسسات فضلاً عن تقديم النصح لرؤساء الإدارات والأجهزة المختلفة فيما يتعلق بالتغيرات التي تطرأ على الأداء المؤسسي التي يمكن أن تساعد في القضاء على وقوع الفساد الإداري مستقبلاً.
وكذلك تنمية القيم الدينية والتركيز على البعد الأخلاقي في محاربة الفساد بسبب ان معظم حالات الفساد تتم بسرية وبطرق عالية المهارة فيكون من الصعب وضع تشريعات وقوانين تقضي على أنماط الفساد بصورة تامة في ظل هذه السرية واستغلال التقدم التقني في تغطية الفساد ، وبذلك يتضح جلياً دور القيم الدينية في مكافحة الفساد والقضاء عليه ، فلا شك أن القيم الدينية في جميع الديانات السماوية تدعو إلى الفضيلة والالتزام بالأخلاق في جميع نواحي السلوك البشري ، ويقوم جوهر تلك القيم على فرض رقابة ذاتية على الفرد في كل أعماله ، ففي حال التزام كل فرد بهذه الرقابة الذاتية والتي تقوم على الخوف من الله سبحانه وتعالى فأن ذلك يعد الأسلوب الأمثل لمنع حدوث الفساد بكل صوره وأنواعه.
وتمثل المساءلة مفهوماً آخر برز بوصفه جزءا من الاهتمام المتجدد بالإدارة بشكل عام وتحقيق مطلب الأمانة في الإدارة بشكل خاص ، وهذا المفهوم يعني في الواقع المحاسبة عن المخرجات أو النتائج المتوقعة من الأشخاص والأجهزة بل والحكومة ككل.
إن مبدأ المساءلة يمدنا بالحق في الاستفسار عن تصرفات الآخرين الإدارية كما يمنحهم أيضا في شرح وجهة نظرهم حول سلوكياتهم وتصرفاتهم المتعلقة بأداء أعمالهم ، ومن ناحية أخرى فإن مبدأ المساءلة في الإدارة يقتضي أن تكون لدى الشخص الصلاحيات التي تمكنه من أداء عمله ، والتي من الممكن على أساسها مساءلته عن عمله،
وتعتبر فكرة المساءلة فكرة قديمة في التراث البشري وأحد أسس ترسيخ الأمانة في سلوك أفراد المجتمع ، فلقد بدأت مع الأفراد في مجتمعاتهم التقليدية البسيطة لتمتد فتشمل بعد ذلك مساءلة الجماعات فالمؤسسات التي تمثل اليوم سمة العصر الحديث فيما يتصل بنظام العمل وتقديم الخدمة أو المنتج للجمهور ، بل يمكن القول بأن مبدأ المساءلة لم يعد قاصراً على الأفراد والمؤسسات ، بل أمتد ليشمل الحكومات التي أصبحت تخضع للمساءلة كما يخضع لها الأفراد ، إننا من الممكن أن نتبين قدم فكرة المساءلة وأهميتها من خلال استعراض بعض المواقف التاريخية في التراث الإسلامي ، فقد روي عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل رجلا من بني أسد يقال له عبدالله بن اللتيبة على الصدقة ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا لكم وهذا لي ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول : هذا لك ، وهذا لي ؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه أيهدي له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله في رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي أبطيه ، ألا هل بلغت ، ثلاثاً.
وبعد ذلك ظهر هذا التوجيه في تأصيل المساءلة في الإسلام واضحا في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله حيث أنشئت الدواوين ومنها ديوان الحسبة وهو وظيفة رقابية على الأسواق ونظافة الطرقات والبيع والشراء وجدت المسؤولية والمساءلة عن التصرفات والقصور فيها ، وكذلك أشتهر عنه بالإحاطة المباشرة بشؤون الرعية ومتابعة الولاة ، فقد أستحدث مبدأ " من أين لك هذا ؟ " ، كما عرف عن علي أبن أبي طالب رضي الله عنه محاسبته للولاة ، والتركيز على الحقوق العامة وحقوق الأفراد ، أما عمر بن عبدالعزيز فقد كان مثالاً حياً للحاكم العادل فيما بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين ، فقد كانت إدارته شاهداً على الإدارة الأمنية ، حيث عمد إلى رد المظالم إلى أهلها وتطبيق مبدأ " من أين لك هذا ؟ " كما كان شعاره " لا احتجاب على الناس لا مفاضلة بينهم ، بل مساواة قاطعة لا محسوبية وفي العصر الحديث فإن المساءلة تعتبر إحدى القيم المسيطرة في الإدارة العامة ، بل يمكن القول بأن مبدأ المساءلة في الإدارة العامة سوف يظل من الموضوعات التي تستحق الاهتمام المتجدد خلال موجات الإصلاح الإداري المستقبلية ، إن المساءلة في الواقع هي فكرة يمكن تطبيقها في جميع قطاعات المجتمع الحكومية والخاصة الربحية وغير الربحية ، وخاصة فيما يتصل بمحاسبة الموظفين من قبل الرؤساء السياسيين أو المديرين التنفيذيين أو أجهزة الرقابة والتحقيق ، من ناحية أخرى يؤكد الاتجاه الحديث في المساءلة على دور المواطنين بوصفه عميلاً ومستهلكاً في الوقت نفسه للسلع والخدمات التي تقدمها الحكومة ، لقد نتج عن ذلك ظهور البيئات الموجهة للعمل أو الحاجة لرضاء المواطن المستهلك للخدمات الحكومية.
ويرجع مصطلح المساءلة إلى لفظ الحساب ، ويعني مضمون هذا اللفظ أن الشخص لا يعمل لنفسه فقط بل أنه مسؤول أمام الآخرين، كما تعرف المساءلة على أنها : مساءلة طرف من أطراف العقد أو الاتفاق للطرف الآخر ، وذلك بشأن نتائج أو مخرجات ذلك العقد ، والتي تم الاتفاق على شروطها من حيث النوع والتوقيت ومعايير الجودة.
- كذلك عرفها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على انها الطلب من المسؤولين تقديم التوضيحات اللازمة لأصحاب المصلحة حول كيفية استخدام صلاحياتهم وتعريف واجباتهم والأخذ بالانتقادات التي توجه لهم وتلبية المتطلبات المطلوبة منهم وقبول ( بعض ) المسؤولية عن الفشل وعدم الكفاءة أو عن الخداع والغش.
وذلك من أجل التأكد من مطابقة أعمال هؤلاء المسؤولين مع أسس الديمقراطية القائمة على الوضوح وحق ذوي العلاقة في المعرفة بأعمال المسؤولين والعدل والمساواة ومدى اتفاق أعمالهم مع قوانين وظائفهم ومهامهم حتى تصل لتطبيق مضمون النزاهة ليكتسب هؤلاء المسؤولين الشرعية والدعم المقدم من ذوي العلاقة التي تضمن استمرارهم في أعمالهم وتمتعهم بحقوقهم.
أما بالنسبة الى الرقابة لايوجد تعريف موحد لها ، فقد عرفها البعض بأنها ( عملية تمارسها هيئة الرقابة على تصرفات أجهزة السلطة التنفيذية بالأموال العامة من خلال التدقيق والفحص والمراجعة والمتابعة والبحوث التقويمية لضمان صحة هذه التصرفات وتحسين كفاءتها سواء في مجال استخدام القوى البشرية أو الموارد المادية ومطابقة الانجازات المتحققة مع الأهداف المجتمعة المرسومة أو المرغوبة وبما يؤدي إلى صيانة هذه الأموال ) ، بينما عرفها آخرون بأنها ( المنهج العلمي الشامل الذي يجمع بشكل متكامل بين المفاهيم المحاسبية والإدارية والقانونية والاقتصادية بهدف التأكد من سلامة الأموال العامة والمحافظة عليها ، ورفع كفاءة استخدامها وتحقيق الفاعلية من النتائج المحققة ، أي فحص الأداء وتحليل أي انحرافات تظهر ، واعلام الإدارة المسؤولة بوجود هذه الانحرافات حتى تتخذ الإجراءات المناسبة لمعالجتها وتصحيحها في الوقت المناسب).
بالنظر إلى ما للرقابة من دور هام في التنظيم الإداري ، فقد اتجهت الدول إلى إيجاد أجهزة مستقلة للرقابة على نشاط الإدارة ووفرت لها من الضمانات والصلاحيات ما يكفل لها أداء مهمتها في الرقابة في جو من الحيادية الكاملة وبعيداً عن المؤثرات السلبية من أي نوع لضمان أعلى قدر ممكن من النزاهة والشفافية وحتى لا تتأثر توجيهاتها أو قراراتها بأي اعتبارات وبذلك يتسنى لها أن تقدم لذوي العلاقة صورة واضحة وصادقة عن التصرفات الإدارية والمالية بالدولة وأن تزودها بالمقترحات والتوصيات التي تمكنها من النهوض بالأجهزة الانتاجية والخدمية المختلفة بالدولة.
وختاما يمكننا القول بأن الشفافية والمساءلة ليستا غاية في حد ذاتهما كما أنهما ليستا علاجاً شاملاً ومضمون بشكل مطلق لحل جميع المشاكل ، بل الهدف منهما هو المساعدة في رفع فاعلية الأداء السياسي والاقتصادي وتحسين وتطوير وتحديث الأداء الإداري بالمؤسسات العامة والخاصة ، وذلك من خلال زيادة جودة اتخاذ القرار ومساهمة ومشاركة الاطراف ذوي العلاقة في صنع القرار السليم والقضاء على الفساد بمختلف أشكاله ، فالشفافية ما هي إلا وسيلة من الوسائل المساعدة في عملية المساءلة والمحاسبة ، كما أن المساءلة لا يمكن أن تتم بالصورة المرجوة والفاعلة دون ممارسة الشفافية وغرس قيمها ، وتظل الشفافية والمساءلة حق من حقوق المواطن تجاه السلطة كأحد الضمانات الأساسية لتعزيز الديمقراطية وترسيخ قيمها بالمجتمع.