كان يا ما كان وطن اسمه لبنان

مادونا عسكر

كان يا ما كان وطن اسمه لبنان،

كانت فيه الشّمس تصحو على تغريد أطياره المحلّقة فوق أكمّات خضراء تهفو لعناق الأودية، وتغفو على هدهدة الموج المرتحل نحو البعيد، المسافر إلى دنيا الأحلام، حيث الحبّ موطن النّفوس الطّاهرة والسّلام مسكن الملائكة والأرواح المتحابّة. وكانت جباله المتسامية تقرب الصّلاة كلّما أعلنت أجراس السَّحَر موعد تجلّي الإله، وترنّم سفوحه ترانيم الحبّ والعطاء كلّما هلّل النّسيم أناشيد الشّتاء الخاشعة. كان السّنونو يتشوّق للمبيت في كنف أوراقه الرّقيقة فيرجو الرّبيع أن يمكث أبداً حتّى لا يفارق أغصاناً تضمّ بكائرها بحنان وعطف.

 جداول  حريريةّ، كانت تنساب فرحةً تشقّ طريقها بين الكروم والبساتين، تجود بعبقها  على سنابل بيضاء ترنو إلى فوق، إلى الأثير الواسع الممتد من اللّابداية إلى اللّانهاية،  تحرس الرّيح وتناجي القمر إذا ما هجرته النّجوم في ليال دكناء.

من أرزه المصغي إلى صوت الرّبّ صنع سليمان مضطجعه. من أنفاسه عبّت عليسة الدّفء وبنت  قرطاج ومن حريره الأحمر اكتسى الملوك وتباهوا وتفاخروا. في أوديته الجليلة صمت القدّيسون ولجّ بهم الشّوق إلى الإله إذ لفحتهم نسائمها العليلة وبثّت في قلوبهم عطور السّماء المقدّسة.  هناك، في تلك الأودية الواجمة كانت تجتمع الأرواح الطّيّبة تتضرّع للرّبّ أن ينزل كلّ حين ليفتقد بنيه ويرحمهم ويبني لهم هياكل نورانيّة يختبئون فيها من ظلم الأرواح المأسورة في الظّلمات.

كان النّور يتغرّب في الأرض ولا يجد ملاذاً آمناً إلّا في لبنان. وكانت الرّيح تجول في المسكونة كلّها، ولمّا يباغتها التّعب تهرع إلى كنفه كي تستريح وتهنأ. واليوم هجره النّور وتجاهلته الرّيح وارتحلت الأطيار مرتاعة، مغتربة عن مساكنه الخطرة. حتّى الثّلج الأزهر فارق قممه العالية، ولكم آلم بونه صوامع النّسك المتوحّدة  والمنعزلة والمحتجبة عن ضوضاء العالم والملتحفة هدوء السّماء.

أيّ لعنة حلّت عليك  يا لبنان، فأذبلت اضطرام شعلتك وخنقت توهّجها؟

أيّ بلاء أصاب قلبك الصّغير الكبير، فاستحالت نبضاته متقطّعة وأنفاسه خائرة واهنة؟

أيّ عقاب أُنزل بك حتّى عبثت بك أيادٍ سوداء لا تكلّ ولا تتعب من زرع الفتن وإشعال نيران الفرقة والشّقاق.

أيّ برد قارص جمّد شرايينك واستولى على اخضرارك فأنهك قواك واختلس دفء المحبّة ورقّة الحنان؟ 

لبنان يا لبنان، ما عاد في الأفق شعاع يبشّر بعودة قدموس، وما برح طائر الفنيق يستعيد قواه حتّى يحلّق من جديد، لكن دون جدوى. فتكت العواصف بجناحيه وانتزعت حرّيّته من جذورها، وقسى الدّهر عليه حتّى تبدّلت ملامحه، وخفت النّور في عينيه، وقصرت المسافة بينه وبين السّماء البعيدة...

أيّ خطيئة ارتكب عاصي ومنصور وفيروز يوم نسجوا لنا لبنان الحلم، وبنوا لنا لبنان الأخضر الحلو الشّامخ المتعالي الّذي يستحيل أن يطاله أحد؟ هل كانوا يتحدّثون عن لبنان الوطن العظيم، أم عن أسطورة خلقها الخيال وشيّدها الوهم؟ أم أنّهم عاينوا ذلك الوطن البهيّ الممسك بيديه الشّرق والغرب، فنقلوا إلينا بهاءه واستهزأنا بجماله ونقائه وقتلناه؟  أم أنّها خطيئتنا نحن المغرورين المتكبّرين والمنهمكين بتمزيق ثوب لبنان الأبيض؟

لبنان يا لبنان، ما عاد لأبنائك أمل في استعادة الوطن، أو بناء دولة، فهم اليوم منشغلون بمحاربة الإرهاب! فهل يجوز الجمع بين الاثنين؟! بنوك اليوم مخدّرون، كلّ ينادي أنا لبنان، ولا يعرف الواحد منهم لغة الآخر، ولا يشعر الواحد منهم  بلبنانيّة الآخر.  بنوك اليوم، تائهون، مستسلمون لواقع مرير، لثغور تتفوّه اللّؤم والعبث، لقلوب  لغتها الحقد والكبرياء والتعالي...

خدعونا فقالوا لبنان لكم، وإذا بالأمم تتقاسمه حتّى لم يبق منه إلّا بضعة أمتار يتنازع عليها ما تبقى من لبنانيين. خدعونا فقالوا لبنان بلد الحرّيّات والعيش المشترك، وإذا بنا متأهبون أبداً للاقتتال.. خدعونا فقالوا لبنان بلد السّلام والمحبّة والأمان، وإذا بهم يحاصرونه من كلّ حدب وصوب تاركين لنا البحر منفذاً للموت!

خدعونا بالدّيموقراطيّة، وإذا بهم يغذّون فينا العبوديّة والذّلّ! ما أقبح هذه الكلمة، "الدّيموقراطيّة"، وما أسهل استهلاكها في التّنظيرات السّخيفة، وما أيسر أن توهم شعباً بها حتّى تستحكم به وتحوّله إلى آلة تجترّ أقوال الزّعماء!...

كان يا ما كان وطن اسمه لبنان،

ابتهج باستقلاله إلى حين، وهنئ بسيادته إلى حين، واستبشر بسواعد أبنائه، تقلّب الأرض وتنثر البذور من جديد وتحصد المواسم الوافرة إلى حين.  وما لبث أن عبثت به أقدام الأمم ثانيةً ودمّرت كلّ شيء فيه، واستحال الاستقلال حلماً والحرّيّة وهماً والعدالة منالاً بعيداً. وبات الإنسان فيه  ورقة خريف تحملها الرّيح أينما شاءت، ثمّ تلقي بها على أطراف المدن الغريبة. 

لبنان الحقيقي الآتي  يبقى حلماً مستمرّاً إلى أن تنتفض بعلبك وتثور على اجتياح الكره والجهل والخمول، وتحطّم صور وصيدا وبيبلوس أصنامها البشريّة وتصرخ بيروت من الأعماق حتّى يوقظ صراخها ما بقي فينا من كرامة وعنفوان، وحتّى يخرج صنّين من صومعته ويعلن أنّ الرّبّ استجاب لصلاته وسيغدق عليه من ثلجه الطّاهر النّقيّ.  عندها  سيزهر الحلم مروجاً خضراء تبشّر بعيد لا ينتهي ولا يزول.