عن النصف المهمل من الخطاب الديني
والعلاقة الخفية بين المدارك والاختيارات
الأخلاقية للبشر
حارثة مجاهد ديرانية
إنك إذا سألت المسلمين عن سبب تخلف أمتنا هذه الأيام، أتاك الجواب نفسه دائماً ودون أي إبطاء: "سبحان الله، أوتراه سؤالاً يحتاج إلى البحث عن إجابة! إن السبب هو –بالطبع- بعدنا عن دين الله". فما الذي يقصده من يجيبك بمثل هذا الجواب؟
إنك لا تني تسمع المسلمين يتذمرون من بعدنا عن الإسلام، وكأننا صرنا –والعياذ بالله- من الكفرة من حيث لا ندري، فإذا ذهبت تتبين الأمر رأيت المسلمين من المتمسكين بحبل الدين ورأيتهم من المصلين، ورأيتهم يصومون ويتصدقون ويؤمنون بيوم الدين، فما لنا نَصِمُ أنفسنا إذن بأننا بعيدون عن الدين ومن أين دخلت علينا هذه الفكرة الغريبة؟
من الطبيعي أن تفوتنا غرابة هذه الفكرة لأننا نربى عليها منذ طفولتنا المبكرة، وما يزرع في تلك المرحلة الحساسة من العمر يختلط بالحقائق ويغدو من المسلمات. ولكن لهذه القناعة سبباً يفسر مصدرَها من أين جاءت، نجد ذلك في قول نبينا –ص- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وإنه لحق أن الإسلام يدعو إلى الخلق النبيل الكريم، ولكن هل هذا ابتكار جاء به الإسلام أم أن مكارم الأخلاق مغروسة في نفوسنا غرسها الله وإنما رسالته تذكير لنا؟ نعم إن الإسلام يحض على الأخلاق، ولكن هذا الحض لا علاقة له بالانتساب إلى الإسلام من عدمه، فإنما يقوم الانتساب الديني –لأيِّ دين- على المعتقدات الغيبية أولاً ثم على المواظبة على الشعائر الطقوسية ثانياً وليس قيامه على الأخلاق، لم يدّع أحد خلافه لا في ديننا ولا غيره. ومثال ذلك أنك إن أتاك آت فأعلن الشهادتين ورأيته يحافظ على الصلاة في المسجد شهدت له بأنه مسلم من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا يحق لأحد بعد ذلك أن يقدح في إسلامه وانتمائه إلى الأمة المسلمة مهما بلغ سوء أخلاقه وانغماسه في أبشع أنواع الفواحش، وأما من أبى أن يشهد لمحمد بالرسالة فإنه لا يدخل الإسلام أبداً ولو كانت أخلاقه كأخلاق الصدّيقين. فهل نحن مصيبون إذن حينما نقرّع الناس ليل نهار بدعوانا -التي لم نكلف أنفسنا حتى أن نقيم الدليل عليها- أننا إنما ساءت أحوالنا لأننا بعدنا عن دين الله؟ هل نحن نطلب من الناس حقاً أن يعودوا فيتمسكوا بدين الله –وكأننا كفرنا يوماً والعياذ بالله- أم أننا نطلب منهم شيئاً آخر غير هذا؟
لا، ليس الذي نطلبه من الناس أن يعودوا إلى الإسلام الحقيقي (فهم مسلمون متدينون موحدون)، إنما علّقنا –دون شعور منا- أملنا في خلاص هذه الأمة على أن تغدو للناس كافة أخلاق كأخلاق الصديقين؛ أي إننا –يا سادة- نطلب من الناس أن يصبحوا ملائكة[1]، وهيهات!
وما أريد أن أصرف الناس عن تذكير إخوتهم المؤمنين بأصول الخير والأخلاق، فتلك مهمة عظيمة نبيلة سيجدون ثوابها إن شاء الله، ولكن المشكلة أننا في خضم حماسنا لتذكير الناس بمكارم الأخلاق فقدنا قدرتنا على أن نحيط بجملة الرسالة الدينية، فصارت مؤسستنا الإصلاحية مثل رجل مشوه المقاييس ذي ذراع يسعها أن تصرع أعتى الرجال وأما الأخرى فضعيفة ضامرة عاجزة لا تقدر على شيء. ذلك أن مكارم الأخلاق ليست كل ما يدعو إليه الإسلام وحسب، وإنما دعا الإسلام كذلك إلى الاعتبار بأحداث الزمان ودراسة نواميس الله وتوسيع المدارك، فتذكرنا الأولى ونسينا الثانية ودفعنا ثمن نسياننا غالياً، وضعيف الإدراك لا محل له في هذه الدنيا القائمة على المنافسة. وحينما أتحدث عن الإدراك فإني أعنيه بمعناه الواسع، وهو أن ترى شيئاً لا يراه غيرك وتفهم ما لم يفهمه، ولأن هذا الموضوع موضوع مستحق للتوسع وذو شجون فإني سأزيد فيه تفصيلاً في مقالات قادمة وسأعتبر هذه المقالة مدخلاً للفكرة ولأبين فيها العلاقة بين سعة مدارك الإنسان واختيارته الأخلاقية، فالظاهر أننا فاتنا من العلم أن مدارك الإنسان لها آثار جوهرية على اختياراته الأخلاقية بغض النظر عن دافعه الداخلي للتضحية من أجل الآخرين. وكلما فكرت في هذا الموضوع حضرتني قصة عن خلاف قديم وقع بيني وبين أخي الأصغر سارية لما كنا نتشارك في غرفة نوم واحدة، إذ مر علينا عهد في تلك الأيام وحاسوبنا في غرفة النوم وأنا أنام قبله، فكان كثيراً ما يزعجني بضوء الشاشة وضوضاء حاسوبه وهو ساهر وأنا أريد أن أنام، فتحصل بيننا المهاترات. وكل هذا طبيعي ويحصل في كل بيت، ولكن المثير في القصة أن قابس الكهرباء الذي وصل فيه الحاسوب كان بجانب سريري تماماً، أي إنه كان يكفيني –لكي أطفئ الحاسوب وشاشته- أن أمد يدي وأنا مستلق في سريري فأنتزع السلك من مكانه، ولكني لم أفعل ذلك قط، وكنت ألجأ إلى أي حل ممكن إلا هذا فإني لا أصنعه، لا أصنعه لا لأنني أردت أن أتحلى بالأخلاق الملائكية –إن كان هذا ما فكرت فيه-، بل لأني كنت أدرك أني سأجني على نفسي إن أقدمت على ذلك بأن أرفع الخلاف إلى مستوى أعلى (وهذا ليس في صالح أي واحد منا)، ذلك أن الأمر ما كان ليتوقف عند حد أن تكبر المشكلة في اللحظة نفسها بعدما كانت السيطرة عليها من قبل سهلة ممكنة، بل إنه كان سيعطي أخي دافعاً (بل وذريعةً أيضاً!) أن يطفئ حاسوبي انتقاماً مني حين أستعمله أنا في المرة القادمة.
كما ترون، لقد كان خيار سحب سلك الكهرباء حالة خسارة جماعية لا يربح فيها منا أحد[2]، والذي يظهر لي اليوم أن الرجل الأبيض قد قطع أشواطاً أبعد منا بكثير في إدراكه لهذه الحالات التي يخسر فيها الجميع، فقاتلها ولم يعد يرضى أن يستبدل الذي أدنى بالذي هو خير بعدما تعلم كيف يعيش في مجتمعات كبيرة بلغ فهمها من الرقي أن الأنظمة تصاغ فيها بحيث يربح الجميع ويعم الخير كل الناس.
عندها فهمت السبب، السبب الذي من أجله إذا قدم الرجال البيض إلى بلاد عمّها الظلم والفساد وأكل الأموال، يتصرف حكامها في أموال الأمة وخيراتها وكأنها أموالهم التي ورثوها عن آبائهم ويتحكمون بمصائر الناس وكأنهم أملاك خالصة لهم، يصنعون كل ذلك لا في الخفاء وهم مستحيون مستخفون عن الناس، ولكن يصنعونه والمجتمع كله واقف يشهد عليهم ما يصنعون، فإنهم إذا قدموا –أي الغربيون- تلك البلاد شعروا بالتقزز الشديد من الوضع برمته ثم لم يبدوا مهتمين بأن يصنعوا مثلنا حين نلقي باللوم على "الأشرار" ("ذي باد غايز"، وإنها لتسلية الناس في الدول التي سادها الظلم وارتفع عنها العدل أن ينشئوا –أي في أذهانهم- زمرة من الناس يسمونها زمرة "الأشرار" ثم يصنفوا حكامهم في زمرتهم فيجعلوهم شماعات يلقون عليها باللوم كله)، بل تراهم يتعجبون من "نفسيات" الناس، تلك النفسيات التي مات فيها "التقزز" والاشمئزاز من المجتمع الذي يسمح للظلم أن يمارس فيه صراحاً بواحاً، وإني أقول بكل أسى إن المجتمع الذي يصل إلى تلك المرحلة من الذل يستحق أن يحل عليه البلاء، بل إنك لو دققت النظر جيداً لرأيت أن البلاء في تلك البلاد ليس إلا صنيع أهلها في الواقع، وكأنه القانون الإلهي الخالد الذي يعاقب الله به الناس الذين يفقدون اشمئزازهم الفطري من الظلم.
لماذا يرضى الناس لأنفسهم هذا المصير الأليم؟ لقد جلبوا الشقاء لأنفسهم بأيديهم، فعلوا ذلك لا لأنهم شياطين ولا لأنهم سيئون، فما هم بسيئين ولا شياطين، ولكن لأنهم "قوم يجهلون"، قوم لم تزل أفهامهم قاصرة عن أن تدرك حجم ما يخسرونه جميعاً حينما يقبلون –طائعين مستسملين، بل ومشجعين مطبّلين- بأن ينغمسوا في لعبتهم التعسة الظالمة، ولو أنهم علموا لثاروا على قواعد اللعبة وأرادوا نظاماً يكسب فيه الجميع (حيث توضع الحدود الواضحة لحقوق الناس ومسؤولياتهم ولا تترك عائمة يقتتلون عليها اقتتال الأنعام) بدلاً من آخر يفترس الناس فيه بعضهم بعضاً كما تصنع الكلاب (على الملأ والملأ راض غير منكر)؛ نعم، ليست مشكلة ذلك المجتمع الظالم أن قلة من أهله قد نزعوا للظلم فعمَّ فيه الظلم، فهذه النزعة للظلم والسيطرة موجودة عند البشر في كل مكان وزمان، وفي الشرق والغرب، بل المشكلة أن الناس لا يطالبون بأن يعم العدل النظام كله، بل يستغرقهم الأشخاص الذين نالهم منهم أذى شخصي (وما أجمل كلام المفكر العبقري مالك بن نبي في هذا السياق لما قسم محتوى الإدراك إلى عوالم ثلاثة هي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار! لقد أدرك ابن نبي بذهنه الحاد أننا قوم تستغرقهم الأشياء والأشخاص، ولكن هذا العالم المعقد يحتاج لكي يُفهم إلى استعمال القدرات التجريدية للذهن البشري، أي إنه يحتاج إلى "أفكار"، وحينما نتحدث عن مفاهيم مثل "النظم الاجتماعية" و "الثقافة السائدة" فإن هذه كلها هي مفاهيم تجريدية ليس لها وجود حقيقي مادي، ولكنّا لا غنى لنا عنها في فهم هذا العالم رغم ذلك، والقدرات التجريدية جزء من الإدراك الذي نتحدث عنه).
يوجد فرق كبير بين أن تكره الحاكم الظالم وتحقد عليه حقداً شخصياً لأن ظلمه لذعك أنت بأذاه، وبين أن تشعر بالتقزز من مجتمع مشوه يسمح لأهله أن يجهروا بالظلم. فالأول لا ينكر الظلم لذاته، بل لأذاه الشخصي المباشر فحسب، فإن سلم منه عاش ضميره مرتاحاً، وأما الثاني فلا يهنأ بالعيش في مجتمع يُظلم فيه أمثالُه من البشر على الملأ، حتى وإن لم يمسسه هو بسوء[3].
ليسا سواء، وسيبقى الظلم قائماً حتى يتعلم الناس كيف يفرقون بين الأولى والثانية.
فهل ما زلنا نحسب أن الغربيين يعيشون في نظم عادلة لأنهم أقدر على التضحية منا، أم أننا سنفهم أخيراً أنهم يشعرون باشمئزاز حقيقي (غائب في حالتنا نحن) من الأنظمة التي تشجع على الظلم والاستبداد لأنهم يدركون حقيقة ما تفضي إليه من خسارة جماعية تنقلب على كل من رضي بها وأذعن لها؟
هذه هي الرؤية التي تطرحها هذه المقالة إذن: إن مدارك الناس تفرز واقعهم الذي يعيشون فيه بشكل لا يختلف كثيراً عن الطريقة التي تفرز فيها المرارة عصارتها الهاضمة! ذلك هو الجسر السحري الذي يربط بين عالم ما يدور في أذهاننا من أفكار وافتراضات وبين العالم الخارجي المادي، وهو جسر عجز أكثرنا حتى هذا اليوم عن فهمه (وهو من النقاط الرئيسة في كتابات عملاق الفكر الإسلامي المعاصر جودت سعيد، الذي لم يملَّ من الاستشهاد من القرآن وسنة الرسول –ص- أن الإسلام يدعو إلى دراسة آيات هذا الكون ونواميسه من الكون نفسه).
كان هذا المقال مدخلاً لموضوع دعوة الإسلام إلى توسيع المدارك بدراسة قوانين هذا الكون من كتاب الكون المفتوح، النصف الثاني من دعوة الإسلام الذي كاد المصلحون أن ينسوه تماماً وهم يركزون طاقتهم كلها على دعوة الإسلام إلى مكارم الأخلاق (لولا نفر قليل من المفكرين عاكفين على توجيه الخطاب الإصلاحي وجهة متزنة تجمع بين الاهتمام بأخلاق الناس ومداركهم جميعاً، منهم –على سبيل المثال لا الحصر- المفكر الإسلامي الذي سبق ذكره في هذه المقالة: جودت سعيد)، وستكون المقالة القادمة –إن شاء الله- عن مثال واقعي يبين أثر سعة مدارك الناس على صحة محاكمتهم العقلية وعمقها (التي تفرز "واقعاً" إنسانياً –إما شقياً وإما سعيداً- كما ذكر سابقاً في هذا المقال).
[1] والنصف الآخر من هذه النظرة المعتلة دعوى تلقى رواجاً عظيماً في أوساطنا الإسلامية ترى أن الغرب إنما تغلب علينا بأخلاقه (أي أننا –وهماً وقلة خبرة بهذه الحياة- نظن غيرنا أقرب منا إلى الملائكية)، وهذه الدعوى ليست بلا دليل يسندها فحسب، وإنما تنقضها المشاهدة الصريحة ومعرفتنا البديهية بطبائع البشر، ويكفيك أن تعايش عينات غربية مدة لا تزيد على بضعة شهور حتى تدرك بنفسك فساد هذا الافتراض: أن الناس في الغرب أحسن منا أخلاقاً وأنهم أصدق وأقدر على التضحية. وسوف تناقش الأجزاء القادمة من المقالة أن ما يبدو لنا ظاهراً وكأنه تفوق للغربيين علينا في الأمانة وخلق التضحية ما هو في حقيقته إلا تبديات لإدراك أوسع وأقدر على النمو.
[2] وهو ما يعبر عنه الإنكليز بقولهم:
“A lose-lose situation.”
[3] ومن الملاحظ أن ثقافة الغربيين تربي أبناءها على الاشمئزاز من الظلم المشهر لذاته، حتى وإن سلم منه الواحد منهم سلامة شخصية.