التشريع منظور فيه التربية 20

رضوان سلمان حمدان

التشريع منظور فيه التربية

النداء العشرون

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)

]النساء[

المعاني المفردة1

تَأْكُلُوا: كلمة " أكل " معناها: الأخذ؛ لأنّ الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمركن وتلبس جلباباً كل ستة أشهر، ولكن أنت تتناول الأكل كل يوم.

بِالْبَاطِلِ: بغير حق يبيح أكلها.           

تِجَارَةً: بيعاً وشراءً فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ البضاعة.

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: أي: تزهقوا أرواح بعضكم بعضاً. ولا يقتل الإنسان نفسه.

عُدْوَانًا وَظُلْمًا: اعتداء يكون فيه ظالماً.

نُصْلِيهِ نَارًا: ندخله نار جهنم يحترق فيها.

في ظلال النداء2

     إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معاً - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .

وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس؛ وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة ، ومس النار! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير ، والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء .

وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا ، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن ، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليماً . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء ، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوباً بأن الله كان على كل شيء شهيداً . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع ، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان ، وتكوينه النفسي ، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .

النداء للذين آمنوا ، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيداً للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .

واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :

{ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . .

وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : { إنما البيع مثل الربا } وردَّ الله عليهم في الآية نفسها : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا!

والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .

فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً .

وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .

والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام!

فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل .

{ ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيماً } . .

تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها!

وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار!

والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!

ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة :

{ ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً ، فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك على الله يسيراً } .

وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .

هداية وتدبر3

1.     قال ابن عباس : هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيت أخذته وإلاّ رددته ورددت معه درهماً.

2.     ذكر اللّه تعالى هنا قاعدة التعامل العام في الأموال، بعد أن بيّن أحكام بعض المعاملات: وهي معاملة اليتامى، وإعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ووجوب دفع مهور النساء. والسبب واضح وهو أن المال قرين الرّوح، والاعتداء عليه يورث العداوة، بل قد يجرّ إلى الجرائم، لذا أوجب اللّه تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.

3.     سعة فضل اللّه ورحمته: إذ أنه تعالى يبيّن لخلقه أمر دينهم ومصالح دنياهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم. وهو دليل على امتناع خلو واقعة عن حكم اللّه تعالى، كقوله سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] .

4.     نهي الناس عن أكل بعضهم مال بعض، ويدخل في ذلك الربا والأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم، ويدخل في ذلك أخذ الغني والقادر القوي المكتسب الزكاة، وكذلك التعدي على الناس بغصب أموالهم وسرقتها والخيانة فيها وأخذها عن طريق الغش أو الخيانة في الوديعة أو العارية، والتحذير من عقود الربا وقيمة الملاهي والمنكرات من فيديوهات وسينمات وتلفزيونات، وما جاء عن طريق الميسر والقمار وكمرات التصوير ذوات الأرواح، وصور ذوات الأرواح والدخان، وشيش الدخان، وكل ما أعان على إهلاك النفس، وما جاء عوضًا لكتم حق وإخفائه أو لإظهار باطل، وإعلانه ونحو ذلك من المحرمات، وكل ما أعان على الصد عن طاعة الله.

5.     كل معاوضة في مباح فهي تجارة حتى إن الله تعالى سمى ثمن طاعته وطاعة رسوله تجارة في قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ...} الآية.

6.     حرمة مال المسلم، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا.

7.     إباحة التجارة والترغيب فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل.

8.     تقرير مبدأ " إنما البيع عن تراض" ، و "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".

9.     حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين؛ لأنهم أمة واحدة. جاء في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحدة»(4)

10.         الوعيد الشديد لقاتل النفس عدواناً وظلماً بالإصلاء بالنار. ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة" . رواه الجماعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلدا أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".

11.         متى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل . وهذه التكاليف التي جعلها الله قِواماً لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها . وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع ، وجُعل الإيمان عمودها وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته . فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح ، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع ، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها . وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة .

12.         قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن دماعكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".

13.         إنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل , وقيل يدخل فيه أكل ماله نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي , وقيل يدخل في أكل المال الباطل جميع العقود الفاسدة.

14.         ليس كلّ تراض معترفا به شرعا، وإنما يجب أن يكون التراضي ضمن حدود الشرع، فالرّبا المأخوذ عن بيع فيه تفاضل أو بسبب قرض جرّ نفعا، والقمار والرّهان وإن تراضى عليه الطّرفان حرام لا يحلّ شرعا.

15.         ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوماً، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد.

                

1.       أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. تفسير الشعراوي.

2.       في ظلال القرآن

3.       الكشف والبيان. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير. الأنوار الساطعات لآيات جامعات. التحرير والتنوير من التفسير. تفسير الخازن. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.

4.       نص الحديث: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.