سبعون عاما في حضن اللغة العربية 39
سبعون عاما في حضن اللغة العربية
الحلقة التاسعة والثلاثون
ووقفة ثانية من ستين عاما
أ.د/
جابر قميحةوالآن نستكمل بقية موضوعات الإنشاء ( التعبير ) التي كتبتها وأنا تلميذ في الصف الرابع الثانوي سنة 1951 .
23 من المحرم 1371 ( الموضوع الأول ) 24 أكتوبر 1951م
نفضت الأمة عنها عار الذل ، ولكن بقي عليها أن تثبت للعالم أنها جديرة بما أقدمت عليه.
الموضوع
هل درى الباغى الأثيم أن عقبى الظلم نارْ
آخر الطغيان هدم آخر الظلم انهيارْ
يالصوت الحق دوى الصو ت في الدنيار وثارْ
وأخيراً جلجل صوت النحاس باشا في البرلمان ، معلناً للعالم أجمع أن الشعب المصرى قد أشعل الضرام في معاهدة الذل والخنوع، وتعاقد الدخان كثيفاً يزكم أنوف الأعداء، وسرى في الآفاق، وصعَّد إلى السبع الطباق.
ووقف العالم بأسره حائراً لا يريم ، لأنه علم أن الشرارة لن تندلع من إيران أو كوريا، ولكن في مصر سينفجر البركان ليطيح بكل ظالم كفّار، وفي مصر سيرفع "مارْس" هامته ، وسيولي السلام هارباً لا يلوى على شيء، وفي مصر سيردم النيل بأشلاء الكلاب، ولن تغيض الأرض من الدم، إلا إذا كان السوس ينخر في عظام آخر كلب بريطانى.
قالها رئيس الوزراء كلمة مدوية تنطق عن الحق الصراح ،وتهزم الباطل اللجْلج، وكان جميلاً من اليد التى أمضت المعاهدة بجأش ثابت ونفس هادئة أن تكون هى اليد الى مزقتها بعزم صادق ونفس كريمة ثائرة، وكان جميلاً أيضاً من اللسان الذى وصف تلك المعاهد بأنها معاهدة الشرف والاستقلال أن يكون هو اللسان الى ينعتها اليوم بأنها معاهدة الذل والاستغلال.
لأنها معاهدة تعقد بين قوي غاشم مستبد وضعيف مُسْتَعْبَد . فباطلهم لا يباركه إلا شيطان من ظهر شيطان.
***
ألغيت المعاهدة وكان الواجب أن تلغى سنة ست وثلاثين ،لا سنة إحدى وخمسين ، ولكن الأسد الذى نتف شاربه مصدق وآية الله يأبى إلا أن يستأسد في مصر ، بعد أن كان كلباً يطلب العفو في إيران، وليعلم هذا الأسد المنتوف الشارب أن زمجرته لم تعد ترعب إلا "الإنجليز السمر" الذين باينوا الوطنية فطلقتهم الوطنية ثلاثاً.
ألغيت المعاهدة وبارك الشعب هذا الإلغاء، وفتح التاريخ صفحة جديدة من صفحات الفخار، سيسجل التاريخ بمحروف من ذهب جهاد شعب ، ونهضة أمة أبت إلا أن تقابل العواصف الهوجاء بالقوة والثبات ، سيسجل التاريخ اليوم بالدماء ما عز عليه أن يسجله لنا بالمداد ، سيُكتب التاريخ عن الشعب المصرى بعد أن كادت ترفع الأقلام وتجف الصحف.
وإن أنظار العالم اليوم لتتطلع إلى مصر كنانة الله ،يتساءل : أيقف الأمر عند إلغاء ملف فاسد ببيان ، وإلقاء خطبة ؟ إذن يا لشقوة العقل ويا لذلة البيان . أم ستعلنها مصر حرباً شعواء ذات لهب ، وترفع قضيتها أمام محكمة التاريخ العليا، يترافع عنها عنها فيها الجهاد والدم ؟، إننا الآن محط انظار العالم وضعنا أنفسنا أمام التاريخ ليحكم وأمام العالم ليشهد، وأمام السيف ليتكلم.
إيه أيها السيف ما أصدق كلمة وما أروع بيانك، إيه أيها السيف حنيناً إليك من قديم ، وشوقاً إليك من بعيد، أنت الذى قيل فيك، بحق وصدق أنك أصدق أنباء من الكتب.
***
بقى أن نثبت للعالم أننا جديرون بما أقدمنا عليه ؛ لأن المسألة لم تعد مسألة معاهدة ألغيت ، وصوت ارتفع يتلوه الصمت العميق، ولكن المسألة جد خطيرة لأنها مسألة أمة تنبعث من أغوار الماضي السحيق، وتخرج من أعماق الخلود لتقرر مصيرها ، فإما حياة كريمة لا تشوبها أوراق الذل ، وإما موت عميق لا قيامة بعده.
فإما حياة تملأ الأرض عزة وإما ممات يترك الطير ناعياً
بقى أن نثبت للعالم بأننا نستطيع أن نكون عند حسن ظنه بنا، فنعيد أيام عكرمة وابن الوليد، ونطرد الشبح البريطانى البغيض عن حياض الكنانة ، ونذبه بعيداً .. بعيداً .. فإما رجعة إلى الجزيرة النائية .. جزيرة اللصوص الحمر .. وإما كفاح مرير ونضال تذهب له أنفسهم شعاعاً .. وليذكر رئيس الوزراء أننا عشرون مليوناً ، لو مسخنا أسماكا وتعلقنا بجزيرة القراصنة الحمر لهوينا بها إلى الأغوار حيث الموت والظلام.
بقى لنا أن نثبت للعالم بأن مصر حرة عن بكرة أبيها، ورثت العزة والإباء والكرامة عن أسلافها العرب كابراً عن كابر، فلنقطع عن الأعداء كل مؤونة ، ولنوقف ركبهم ونسحب العمال ونقاطع بضائعهم، ونخرج إليهم بالفئة المجاهدة والصف المكافح في هذه الأمة، حواريي الله وأبناء الإسلام وإخوان الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الفتية الآن ألمحهم في خيالى قادمين ..يردون هذا الدين جديداً كما بدأ، يقاتلون فىسبيل الله فيقتلون ويقتلون، مؤمنين في قرارة أنفسهم بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، هؤلاء الفتية الذين لا أشك لحظة في أن روح الإسلام القوية قد بعثتهم من ماضى الأجيال إلى هذه الأجيال ، ليحقوا حقاً أحقه الله، ويبطلوا باطلاً أحله الشيطان.
فلننفِ عنا خبث المهانة والخور، ولنترك للشعب الحرية للجهاد وحمل السلاح ،
وقبل أن نخرج الإنجليز من بلادنا لنخرجهم من قلوبنا أولاً ، ونستأصل الطابور الخامس ، فنكون بذلك قد ربأنا كل صدع ، وأوصدنا الباب فلا يلجه شيطان.
إن الحوادث التى وقعت في القتال لتصم الكلب البريطانى المستأسد بكل عار وشنار وإن دلت على شيء فإنما تدل على أن نهاية الاستعمار وشيكلة الوقوع ، وأن النذالة قد وصلت بالإمبراطورية المحتضرة إلى حد الاعتداء على الأطفال وانتهاك الحرمات، فلنشهر في وجوههم كل سلاح ، ولنضرب منهم كل بنان ، وإن كانت تنقصنا العدة فسنخطهاا من أعدائنا ونرمى بها في أعماق البحار، فالبازى إذا كان مهيض الجناح ، مسلوب البراثن فليس له القدرة على إرهاب العصافير الآمنة لأنه مجرد من كل سلاح.
لننظم صفوف الشباب ولنعطه السلاح ولنعلن الجهاد ضد المستعمر، فالشعب اليوم صار كالبركان الجهنمى الثائر الذى يغلى بالحميم ويرمى بالحمم، ويا ويل من يقف في طريق هذه الثورة العارمة التى تدمر من يلاقيها، وياويل من يحاول أن يهدئ البركان ويخمد أواره بصب الماء البارد عليه، فلتوجه الحكومة هذه الثورة العارمة الوجهة التى تعود على البلاد بالحرية والاستقلال ، ولا تحاول أن تكبت الشعور، وتعقل ثورة الشعب، لأن الزمام قد أفلت من يد القادة والزعماء الذين كان يضحكون على ذقون الأمة بالكلام المعسول، ولم يعد أمام الشعب إلا طريق مضرج بالحمرة القانية . وصدق شوقي إذ قال : وللحرية الحمراء باب = بكل يد مضرجة يدق
وإننا اليوم لنقدم رؤوسنا قربانا رخيصاً إلى نذبح الحرية .. ولتتقدم قافلة الفدائيين الذين يحبون الموت كما يحب الملوك الحياة .. أحباب الله وأنصار الرسول ... لنتقدم تلك القافلة المباركة لتغسل هيكل الحرية العظيم بالدم الزكى الطاهر، لبيك .. لبيك .. أيها الموت ، وأهلاً أهلاً بالأبطال الذين سيكتبون التاريخ بدمائهم على أرض الوطن.
كم أنت غالية عزيزة أيتها الحرية ؛ لأنك لا تنالين إلا بالدم والتضحية والجهاد .
**********
8 من صفر 1371ه (الموضوع الثانى) 8/11/1951
ضحى العمال المصريون الأمجاد بمستقبلهم في سبيل وطنهم..
تحدث عن وطنية هؤلاء العمال، وما يجب على الأمة نحوهم.
الموضوع
ومضت الأعوام عاماً يركض في إثر عام، ومصر مكبلة بأغلال العبودية، إلى أن جاء اليوم الذى مزقنا فيه صك الاحتلال بعد أن أمضيناه برضائنا ومزقناه بمحض إرادتنا.
أجل .. جاء اليوم الذى يحتاج إلى العمل .. العمل المتواصل ؛ لأننا في طور انسلاخ .. انسلاخ أمة من أغوار سبعين عاما قضيت في ذل .. وانطلاقها إلى أدواح طوال تقضيها في عزة وكرامة..
وهانحن نمهد السبيل الذى سيسير فيه موكب الحرية إلى معقل الأحرار، البررة الأطهار.
وإن مصر التى كانت أستاذة حدبه للعالم، أخذت بيده يوم أظلمت الدنيا وطرحت عنه أستار الجهالة الصفاق.. لتطالب أبناءها بالوفاء والإخلاص في هذه الأيام العصيبة التى لا تحتاج إلا إلى الوفاء والإخلاص والوطنية والوفاء . فلا عجب أن يجد الوفاء والإخلاص والوطنية والوفاء صدرا رحيبا من العمال البررة ، فيشرق نور الإيمان في قلوبهم ، وتنبثق أقباس الإخلاص في صدورهم .. ويملك عليهم الوفاء كل مشاعرهم، وتهتز أعطافهم للنشيد الخالد: لبيك مصر لبيك .. دم الشباب وقف عليك .. فَضَموا إلى السفر الخالد صفحة من الوطنية الرائعة كانت نوراً بدد غيوم الشك في أعماق المتشككين، وناراً اندلع لهيبها يأكل قلوب المستعمرين.
إن العمال في جميع أنحاء المعمورة هم السيل الجياش العرم الذي يحطم جلاميد الاستعباد وصخور الاستعمار .. فوجدنا عمال إيران يأخذون على أنفسهم عهداً بالنصر أو القبر .. فكان الأول .. هالته تأميم البترول الذى كان بمثابة خنجر مسموم في ظهر الإمبراطورية المحتضرة .. وقال الإيرانيون أيها الكلاب أخرجوا من بلادنا، فخرج الكلاب تحت أستار الظلام خوفاً من العار الذي يلاحقهم في كل مكان.
دقت الطبول في إيران فاستجابت لها أختها طبول مصر، ولم يكن عمال الكنانة أقل وطنية من إخوانهم عمال إيران، فانسحبوا كراماً من العمل في معسكرات الأعداء، لأنهم علموا أن كل مسمار يدقونه في صناعة للإنجليز، إنما هو مسمار محمي يدقونه في نعش مصر، وتيقنوا أن كل عَرَق يهرقونه في معسكرات الأعداء إنما هو خيانة لماء النيل الذى أخرج هذا العرق، وأن كل جهد يبذلونه في سبيل الإنجليز إنما هو إنكار لحق مصر التى كست عظامهم لحماً ، وخلقت فيهم الرجولة ، وبعثت فيهم هذه القوة . فحرام وألف حرام أن أكون ضيفاً على مضيف كريم اطعمنى من جوع ، وكسانى من عري ، وسقاني من ظمأ، ثم بعد ذلك أتحالف مع المتآمرين عليه ، وأكون عوناً عليه لا له .
عرف العمال هذا فآمنوا بحق مصر عليهم، فأرادوا ان يؤدوا بعض ما في رقابهم من دين ، فانسحبوا وبصقوا على يد الإنجليز التى امتدت إليهم بالنضار البراق.
ووضعت النعامة الإنجليزية رأسها في الرمال خزياً وخجلاً ، لأنها لم تصدق عينيها :ذلك العالم الفقير الذى ضرب الفقر الموجع أطنابه في بيته لا يرضى بالذهب الرنان على خلو وفاضه.
ذلك العارى الحائر يلوح له بالكساء والمسكن الصحى فيأبى كل الإباء، ولا جرم أن نار الوطن خير بكثير من جنة المستعمر.
ونهقت الإمبراورية المحتضرة العجوز نهقة كادت تؤدى بحياتها ،ولم ينفعها طب أمريكا وفرنسا وتركيا ؛ لأن الصيدلى المصرى البارع لم يرض أن يسلمهم الدواء الشافي والبلسم العجيب.. وبدأت معدة السمتعبد تقرقر من الجوع بعد ان جف اللبن في أثداء المرضعات ، فخرج يأكل مما يسرق ، ويشرب مما يلص .. ويسكت نداء بطنه مما ينهب .
***
وقفل معسكر "التل الكبير" أبوابه بعد أن رحل العمال وتركوه ينعى من بناه.
وتعطلت سفن الأعداء ؛لأنها لا تجد مرشداً يرشدها في ظلام البحر ،
أو معيناً يعينها على تفادى الرياح الهوج.. أو من يمدها بالماء والزيت كى تستأنف السير.
حتى النيل أقسم على مائه ثلاثاً بان يكون حراماً على من يريد أن يفصم عرى واديه ويشقه شطرين.. شطر في الشمال وشطر بمنأى عنه في الجنوب .. واستقدم الإنجليز ماء الشرب من قبرص، وهكذا أصبحت حياة العدو على أرض الوطن ضرباً من المحال بعد أن تعطلت مصالحة وجاعت بطونه وأغلقت كثير من معسكراته .. وهذه الخدمة الجليلة أداها العامل المصرى كعربون لكفاح طويل مديد، ولكن بقي على الحكومة المصرية – يعضدها الشعب المصرى – أن تسد كل منفذ إلى معسكرات الأعداء ، وتثبت للإنجليز أنها بمقدورها إيواء أبنائها وإطعامهم وإحلالهم المحل اللائق بهم.. والوطنية تهيب بنا ألا نترك هؤلاء العمال خلوا من كل عمل .. ولا يكفي تقييدهم في مكاتب الأعمال ، بل يجب أن تتخذ الحكومة الخطوات الإيجابية الآتية:
أولاً: تصادر الحكومة أموال المصارف... تلك الأموال التى تراكم عليها الغبار من طول ما ركنت ، ولتفتح بها المصانع المختلفة لتستوعب هذا العدد الضخم من العمال.
ثانياً: تستخدمهم الحكومة في المشاريع التى تقيمها كمشروع خزان أسوان وغيرها ، وفي العمال – ولله الحمد – فئة ممتازة من الفنيين قلما تتوافر في أمة أخرى.
ثالثاً: تصرف لهم الحكومة أجوراً عالية تساعدهم على رفع مستواهم وشق طريقهم.
رابعاً: الاستعانة بهم في بناء مصانع للذخيرة والسلاح وفتح الباب لهم لإظهار نبوغهم.
خامساً : إفساح الطريق أمامهم لكى ينخرط منهم من يريد في سلك كتائب التحرير.
وأحذر الحكومة كل الحذر من ترك هذه الفئة الكبيرة من أبناء الأمة بلا عمل لأن ذلك سيؤدى إلى الجوع، والجوع الذى يقلب المؤمن كافراً لن يتورع عن أن يحول المواطن خائناً .. ولتحذر الحكومة من ثورة البطن .. تلك الثورة التى غيرت بعض مجريات التاريخ .. فقتلت قيصر بعد أن نادى رعاياه ومنهم "بروتس" صديقه الحميم "أخرجوا الكمثرى من بطن قيصر" .
وأسأل الله أن يجعلنا في زمرة المؤمنين بالله وبالوطن، وأن يحي إيماننا بالأمل، وأن يعضد أملنا بالعمل، وأن يجزينا على عملنا بالنصر، وأن يجعل نصرنا مؤزراً مبينا..
**********
15 ربيع الأول 1371 ه (الموضوع الثالث ) 13 ديسمبر 1951م2
استشهد صديق لك في ميدان الجهاد من أجل الوطن ، فوقفت ترثيه فماذا أنت قائل ؟
الموضوع
إلى أخي عبد السميع قنديل ([1]) رسالة متواضعة من ميت في دار الفناء إلى حي في عالم الخلود والبقاء
أخي .. ومن في الناس مثل أخي ؟ لقد كنت وأنت حي رسول بهجة إلى القلوب ، فصرت وأنت ميت رسول الدموع إلى العيون، وإن نضب السخين الهتان، فلتتقرح المآقي بالأحمر القاني، لقد عرفتك بطلاً حياً وميتاً ، وعرفتك كبيراً في حياتك، وأكبر من الذكرى بكثير في الخالدين.
إن كان جسدك قد فارق الأرض بماديتها الصماء، فأنت في حواصل عصافير الجنة، تقيل في قنادل العرش تسبح باسم ربك آناء الليل وأطراف النهار.
وتركتنا أخي .. في خضم ماديتنا العاتية .. وذهبت إلى ربك لتصير في عداد الخالدين .. أكبر من الذكرى.. لأنك لست ملكاً لأبيك ، ولا ملكاً لخلانك وإخوانك ولا ملكاً لنفسك، ولكنك ملك خالص لله .. فذهبت إلى .. الله .
لقد أكرمك الله بالشهادة وهو مكرمك يوم تبعث حياً .. سأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل (( من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم في قوله { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ..} [الزمر 68] . فقال: ( هم شهداء الله) .
وقال رسولنا الأمين (( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ))
فغدوت أخي ورحت في سبيل الله .. وفتحت أصماخك لصوت الجهاد يرعد في آفاق السماء .. فذهبت .. ذهبت وجلت وصلت وبعثت نفسك الحارة المؤمنة تكتب التاريخ بدمك على حومة الوغى ، فصرت نغماً يتيماً عزفته قيثار الخلود ، وغدوت في الخالدين أكبر بكثير من الذكرى.
أخي ومن في الناس مثل أخي ؟ إن كان للخلال أن تنعي أصحابها فلتبكك الشجاعة والإقدام ، وعلى أمثالك يا أخي فلتبك الأخلاق.
فاستميحها عذراً ؛ فقد كنت فذا في عقدها ، وكنت درة يتيمة عصماء.
ولن يستطيع الغائصون يا أخى أن يبعثوك من الأغوار ؛ فالأغوار شحيحة بأمثالك بخيلة بنظرائك، شيء واحد يا أخى هو الإيمان .. الإيمان بالله وبالحق وبالنصر المبين .. يستطيع أن يبعث الإنسان خالداً في عالمك ، مواطناً أميناً في كونك العلوى.
أخي ومن في الناس مثل أخي ؟ لقد عكفت على طيفك الغالى أستميحه العذر في المثول بين يديه، لأننى كا أشعر دائماً قزم صغير أمام عمالقة الخالدين، عكفت عليه أنشده الراحة والسلام والإيمان ؛ لتنجلى عن عينيَّ غشاوة تلك الحياة الزائفة التى نحياها، فكنت أول من عرف زيفها وطلاءها الكاذب ، وملأك اليقين بأنها كغريق يخبط في لجة الأبد بين ساحلين ، والقبر واحد في كلا الساحلين، او محكوم عليه بالموت أوقف بين سيفين ، والموت واحد على حدى السيفين .. فذهبت لأنك علمت أنها ميتة واحدة ، ولن تكون أكثر من ميتة واحدة فجعلتها في سبيل الله.
لقد مر بى أفواج الناس حسبتهم شيئاً بهياكلهم الضخمة ، وأزيائهم البراقة، فرحت أطلبك عبثاً بينهم ، فإذا هم نشاز وأنت النغم الرقيق.
فكففت عن التماسك بهم، ورحت أطلبك عبثاً في نفسي فإذا هى أجاج وانت العذب المستساغ، فلجأتُ إلى العالم الباقي وطلبتك في الخالدين. . فإذا أنت دائماً عملاق في حياتك ، عملاق مع الخالدين .
أخي ومن في الناس مثل أخي ؟ إن صوتك يا عبد السميع هو المالئ عليَّ أسماعي في كل حين، أسمعه في دعة الأصيل، ورهبة الليل ، وروعة السحر.
وطيفك الغالي يا أخي ملك عليَّ كل مشاعري، وملأ علي بصري الكليل ، أراه في ضميري وفي محرابي .. أينما توجهت لله .. مهيباً بى أن أكون مثلك في الخالدين .. أكبر من الذكرى.
أخي هذه همسة خافتة أبعث إليك بها .. في سماء عليائك .. إنهاهمسة سأتبعها نفسي كي لا تحول بيننا تلك الفوارق الصماء ، ولا أستار المادية الظالمة ، لأننى لاحقك في عالمك الخالد، سأمد يدى لأمسك بذلك الخيط الذهبى الموصل إلى السماء، قبل أن تقطعه في نفسى سيوف الحرص، ومُدى الحب للحياة .. والسلام عليك يا أخي يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حياً .
[1] ) عرفته موظفاً في "متحف فؤاد الزراعي" وبعد أن قدمت له نفسى دون سابق معرفة، قدم إلي نفسه بقوله "أخوك عبد السميع قنديل" من إخوان القاهرة، متطوع لفلسطين ، وستلقى اسمى قريباً في قائمة الشهداء، ولم يمض إلا شهر حتى تحقق ما وعد ، وكان أول شهيد في معركة دير البلح، كان وأخوه وحيدى أبيهما الشيخ وكلاهما يريد التطوع ، وكلاهما مصر على أداء فريضة الجهاد، وأخيراً تغلبت رغبة عبد السميع لأسباب فذهب إلى الميدان واستشهد، ونزل ضيفاً عزيزاً على مضيف كريم هو الله.