هديتي.. في يوم مولدي
سحر المصري
طرابلس - لبنان
حين نكون صِغاراً.. ننتظر ذكرى ميلادنا لنشعر أننا نكبر ونعي وننضج.. فكانت تلك الذكرى تُثير في أنفسنا شغفاً للحياة وللإنطلاق على جناحيها لنثبت أنفسنا فيها ونحقق طموحاتنا التي تبلغ عنان السماء!
وكلما تقدّمنا في العُمُر شعرنا بنقصان رصيدنا –الزمني- في هذه الحياة.. وبدأنا نشعر أننا نتجه إلى الموت بسرعة أكبر.. والسعيد من حاسب نفسه: ماذا جنيت وماذا قدّمت للعرض بين يدي ربي جل وعلا؟!
كانت تتجاذبني مشاعر شتّى حين يزورني يوم مولدي كل عام.. وكانت الغصّة تكبر في داخلي كلما رأيت أكواماً من الذنوب والغفلات وأستصغر الأعمال الطيبة التي أنجزتها.. حتى شعرت أن الشيطان يدخل من هذا الباب فأغلقته! وأصبحت ذكرى مولدي محطة سنوية لجردة حسابية كبرى أقوم بها حتى إذا ما انتهيت عاتبت نفسي –بإشفاق- على إساءاتها وأثنيت عليها –بحب- على ما قدّمته مخلِصة لله جل وعلا في المسير إليه.. وأصبح الموت حبيباً.. "فأنا عند حسن ظن عبدي بي".. شعورٌ سائغٌ طعمه إن مُزِج بالعمل الصالح والنيّة الصادقة!
سمعتها يوماً تطلق صرخة ذئب يعوي في داخلها: "كيف يحتسبون عليّ سنوات لم أكن حيّة فيها؟! ثم يجمعونها مع رصيد سابق كنت نابضة فيه؟! لقد توقّفت حياتي عند الثانية والعشرين وأنا لا أعترف بسنواتي العشر بعدها!".. فأجبتها: ولكن لولا تلك السنوات العجاف لم تكوني "أنتِ" اليوم بنضجك ووعيك وحتى سعيك!
كم هي كثيرةٌ الدروس التي نكتسبها من مصاعب تحرقنا.. أو علاقات تمزقنا.. أو تجارب تشلّنا! ولكن الأساس في كل هذا أن نخرج من كل تلك وقد زدنا وعياً في الحياة ورغبة باستثمار كل ما هزّنا يوماً لنحوّله لحِكَمٍ نخطّها على جبين الحياة ونهديها لذواتنا وللآخرين.. نستفيد منها ونرى الحياة من خلالها بشكل أفضل وأسمى! فلا يخدعنا بعدها بريق زائف أو حبل الهوى السريّ الجارف!
واليوم.. وأنا على أعتاب سنة من عمري جديدة.. أقلّب صفحاتٍ طويتها وأفتح باب ذاكرة ختمتها بالشمع الأحمر.. هي مرة كل عام أدخل كهفها.. أنظّف الأوحال.. أرتّب الخزائن وأعود لأغلقها.. وأنشر الحِكَم على جدران الذاكرة الخارجي لأستقي منها ما يليق بالحياة.. فهل ترغبون مقاسمتي "بعضها" –وإن تكرر- علّها تفيد؟!
فلنستغل كل مرحلة من الحياة لِما هي له ولا نحرق الأوقات لنصل إلى ما نحن قادمون عليه أصلاً فتفوتنا فرصة الاستمتاع بدرر كل مرحلة..
فلندع البكاء على ما فات فقد رحل وانقضى.. ولا نقل "لو" فلو عدنا لما أمكننا أن نفعل إلا ما فعلناه.. فيومها لم نكن بالفهم الذي اكتسبناه بعد ذلك وإن عدنا عدنا لنفس الفِعل!
الأوقات هي الحياة.. فلا نضيّعها بما لا طائل منه.. حتى في الهوايات التي تسعدنا.. فإن كثرتها –خاصة إن لم تكن شرعية- تقتل الوقت والجهد والروح!
ولنكثِر من القراءة ولنتشبّث بالكتب ففيها غذاء للعقل والفِكر..
لماذا نتحامل على من أساء.. فلنترك الزمن يقتص ممّن طعن..
قراران في الحياة هما أخطر القرارات: التخصص الجامعي والزواج.. فلندرس هذين المشروعين بكل جدية واهتمام وحذر.. لأننا إن أسأنا الاختيار فيهما فسنعيش في همٍّ دائمٍ.. وسندفع العمر كله ثمن القرار الخاطئ وما أغمّه من كدر!
الأبوان لن يعيشا مدى الحياة فلنسعَ ما أمكننا لبرّهما واستثمار الحسنات بالطواف في خدمتهما..
الرضا بالقضاء سلوى للنفس.. وما منعه الله جل وعلا عنا هو عين الخير.. وكم تمنينا أشياء عرفنا بعدها كم كانت حياتنا ستكون كئيبة لو استجاب الرحمن جل وعلا دعاءنا بتحقيقها!
الحب الحقيقي هو الحب الطاهر المؤطّر بالشرع.. وأي حب دونه هو محض وهم أو سراب أو بقعة خزي تلوّث القلب المسبّح لربه جل وعلا.. وكلما انتفض القلب وأسرع بالتخلّي عن هذا الحب كلما تقلّصت الأضرار النفسية والجسدية والإيمانية.. وإلا فأتونٌ ملؤه الحزن والذنوب والتعب! والنجاة من هذا الحب أصعب من الشفاء من ورمٍ سرطانيّ يقتات العمر.. وأجمل من الشعور ببلوغ السماء!
وفي معاملة أيٍّ كان.. نتعامل لله جل وعلا.. فإن كان هذا الشخص أهلاً لِمعاملتنا الجيدة تلك فالحمد لله وإن لم يكن فقد استبقنا الأجر أجرين!
الأخوّة في الله كنزٌ دفين.. من وقع عليه فليعض عليه بالنواجذ وليرفل بقطعةٍ من الجنّة على الأرض!
العبارات السيئة والاتهامات المجحفة التي يرمينا بها المُحبِطون فلنجعلها وقوداً يغذّي إصرارنا بأن ننجح بشكل أروع.. وبعد كل سوط كلامي أو فِعلي من المسيء أو المدّعي فلنكافئ أنفسنا بوردة لنخبرها كم هي جميلة!
الحياة لم تكن يوماً سهلة.. فلنتسلّح فيها بالإيمان والثبات.. فهي لا تتعدّى كونها دار لعب وغرور.. والكيّس مَن تركها وغرورها للعمل لِما يستحق بعدها!
الانشغال بسفاسف الأمور وصغائرها يفوّت العمل لقضايا الأمّة العِظام وللمساهمة في وضع بصمةٍ تليق بنا..
الارتقاء الإيماني مِداد الروح والقلب وبدونه ستكثر السقطات على الطريق.. ولربما فَقَد القلب الوعي وضلّ..
وفي المسير سنجد خيانة وكذباً وادّعاء وطعنات.. من بعيدٍ أو قريب.. فلنعِش بينهم طالما أنه قدرنا.. ولندعُ الله أن يُبعدنا عن القلوب الظالم أهلها.. ويغفر لهم ما اقترفوه في حقنا.. فإن اهتدوا فنِعِما به وإن أصرّوا فموعدنا يوم لا ينفع مال ولا بنون..
أما السهم المسموم الذي يخترق القلب ممّن أسلمنا له القلب يوماً رغبة وتقرّبا.. فذاك الجرح لا يعالجه حتى الزمن.. ويفور كل وقتٍ وحين.. وحسبنا أننا كنا صادقين وإن خانوا.. وأننا انتهينا من حثالات مفترقات الطرق!
وإن راودتنا أحلام الصلاة في الأقصى ولم نستطع.. فلتكن دافعاً للعمل من أجل القضية لعلنا نُعذر أمام الله جل وعلا.. ويكفينا شرف الحلم والعمل وإن قضينا دونهما..
وأحياناً تكون لدينا فرص نرتقي بها في المجال المهني أو الدعوي أو غيرها فتصيبنا فوبيا الفشل وننكمش عن الإقدام.. وهذا لا شك خطأ جسيم.. فلا ضير من المحاولة وإن لم يحالفنا الحظ في الأولى فسيحالفنا ولا بد في الأُخرى بإذن الله تعالى.. المهم أن نصرع الوهم والخوف!
سعادة النفس في العطاء.. وكلما وهبنا عطاءاتنا الصادقة لمن حولنا كلما نقشت السعادة في قلوبنا ابتساماتها..
وتلك القدرة الهائلة على الحب للغير ستبقى هالة تزيّن فضاءات الحياة الرحبة وإن ضاقت!
وقبل هذا وذاك.. فلنصلِح ما بيننا وبين الله جل وعلا.. فحينها فقط.. تحلو الحياة.. وتنبض السنين بكل حبٍ وسعادةٍ وأمل!
وليكن الذكر والاستغفار والصبر والقرآن لنا وطن!
"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"..
دمنا على الطاعة.. والتقى!