سبعون عاما في حضن اللغة العربية 38

سبعون عاما في حضن اللغة العربية

الحلقة الثامنة والثلاثون

وقفة مع قلمي من ستين عاما

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

أحمد الله ــ سبحانه وتعالى ــ أن عشت عمري في حضن اللغة العربية عاشقا ، وفيا ، مخلصا في حبي ووفائي ، يجري قلمي بما ينبض به قلبي ، وينشغل به فكري وكنت في المرحلتين الابتدائية و الثانوية أتقن كتابة موضوعات التعبير ، وكانت تسمى في تلك الأيام "الإنشاء" .

وكدت أطير من الفرح حينما عثرت على كراسة " الإنشاء " التي كتبتها من قرابة ستين عاما أي سنة 1951 ، كنت طالبا في مدرسة أحمد ماهر الثانوية الأميرية بالمطرية دقهلية ( مع ملاحظة أن مراحل التعليم كانت : المرحلة الابتدائية أربع سنوات ــ والمرحلة الثانوية خمس سنوات ) ، ومن إعجاب مدرس اللغة العربية بما أكتب كان يكلفني أن أقرأ على الطلاب كل موضوع أكتبه ، حتى يتأثروا ما أكتب .

وفي هذه الحلقة أعرض على القارئ موضوعين من موضوعات " الإنشاء " التي كتبتها سنة 1951 :

الموضوع الأول : "

صفر 1371                    (الموضوع الأول)               نوفمبر 1951

يزور مصر الآن الزعيم الإيرانى المجاهد مصدق، رحِّب به ، وصور ما يحدثه لقاء المجاهدين في كفاح الشرق ونضاله .

الموضوع

في ركب الجهاد تحف بك الملائكة يا مصدق .. وفي معية الملائكة تشرق أنوارك على مصر يا مصدق .. صدقت الجهاد فصدقتك أمتك .. وأصبح لاسمك من مسماه كل نصيب ، فأنت الصادق المصدق ، والراعي المحكك، فنزلت أهلاً وحللت سهلاً يامصدق .

 يا مصدق : إنك أمة برمتها تبلورت فيك الآمال .. وانعكس فيك الرجاء ، فغدوت كعبة للحجيج الذين نهبهم اللصوص ، وأنهكهم الانتهازيون .. ففي ظلك يطمئن الركب ، ويركن الحجيج .

 إيه مصدق : المعروف في تاريخ الأمم أن الثورات يندلع لهيبها في ميادين الوغى وحلبات النزال .. ولكنها في هذه المرة انطلقت من سرير حمل عليه رجل أو حطام رجل أنهكته السنون ، وبرحت به الآلام .. إنه جسم ضعيف ولكنه ينطوي على قلب كبير .. وإن هذا الجسم الواهن هو الذي أرعب الغرب بأجمعه ، وجعله يعمل لإيران ألف حساب وحساب

 النسور الحوائم في سماء العجم تتلمظ له لانتهاشه .. والأسود الروابض تتحلب أفواهها لافتراسه .. وإذا بـ (دارس)([i]) ذلك اللئيم يحصل على امتيازات الذهب الأسود في لحظات ولأعوام وأرداح ، وإذا بتلك الثروة الدفينة تحت أرض العجم أضحت في غمضة عين لقشاعم الإنجلير وأسود الإمبراطورية .. وغدا كسرى في بطن التاريخ فتيلا أطفأته الهوج الثوائر .. وإذا بتاريخ فارس تخدشه مخالب القشاعم وبراثن الأسود .. يا للعجب : لقد أرسلت الأقدار لمرء في بيته ــ دون عمله ــ بكنز لا ينفذ

فليذهب "دارس " إلى الجحيم .

 إيه مصدق : ويأبى الضيف الثقيل أن يكون الكنز مناصفة ، بل يختص به نفسه، ويصبح صاحب الكنز الحقيقى في بطون الأساطير .. وتدور الأيام فإذا بالضيف الثقيل يستولى على كنوز وكنوز ، ويسخر أصحابها في استخراجها حتى إذا ذاقت طعم النور صارت نهباً . حلالا للصوص وأبناء اللصوص ..

 وجاء "رازماراه" الخائن فمالأ الأعداء ، وتغافل عن اللص ، وإذا به تأخذه الغواية ، وإذا بالجانى يستأنف من جديد جنايته .

إيه مصدق : لقد أراد رازماراه أن يفجع الشعب في أعز ثرواته فإذا "بالخليل" ([ii]) – بوركت يداه – يردى الشيطان صريعاً .. وإذا بتلك الرصاصات المباركات تكتب لإيران قاموساً خالداً على الأيام . إنهم الخونة ـ، يا حبيبي مصدق ــ كثيرون في كل أمة ، ولكن مصيرهم دائما إلى بوار .

 وإذا أنت يا مصدق في برلمان الأمة – أيام كنت رئيساً للمعارضة – يرعد صوتك كالهزيم مطالباً بتأميم يغنى الفقير ، وطرد الدخيل ..وإذا بالشعب تشنف آذانه تلك الأنشودة الخالدة ، ولكن يا لحرمان من يسمع أناشيد عالم يهواه ، وهو عنه في منآه السحيق .. لقد كنت رئيساً للمعارضة ولقد ظُن أن مطالبك كانت أحلاماً وأماني ليست أكثر من ذلك .. إذ أنى للمعارض أن يحقق مطلباً وأنصاره أقلية من كثرة، ولو فرضنا جدلاً أنه صار ذا أغلبية ساحقة فإنه في العادة يوارى مطالبه - التى طالب بها غيره – التراب هذا هو ديدن المعارضين وعادة الحاكمين، ولكنك يا مصدق كنت أمة تصدت بالجهاد فصرت صادقاً مصدقاً .. وأصبح لاسمك من مسماه كل نصيب .

وإذا كان هناك ما يسمى أحلام اليقظة لسمى التاريخ ما رآه .. مصدق على سريره يحرك الوطيس بيده الكليلة .. وآية الله يلقم الكلاب أحجاراً من سجيل .

 وسارت إيران في معيتك يا مصدق .. ومشت الملائكة في ركبك الميمون يا مصدق ، وقرأ شعبك أيتك الخالدة عنوانها التأميم ، قرءوها باسم الله ، فإذا الشياطين تولي لا تلوى على شيء ، وإذا الغمرة تنجلي ، والظلمة تشل، والغمائم تندثر وتنقشع.

 لقد حاول الغرب أن يعرض عليك العروض ويساوم على حق شعبك يا مصدق، ولكنك لم تعط الدنية في حق أبلج .. ولله درك حين علمت أن باطل انجلترا كباطل أمريكا سواء بسواء ، لأن الشياطين لو اختلفت أسماؤها لن تكون في يوم من الأيام في زمرة الملائكة .. فانجلترا وأمريكا كلاهما مستغل مستبد، وكلاهما في أكل الحقوق ليس له نظير، ولله درك يا مصدق حين وضعت يدك في يد "الكاشانى" ، ووضع الكاشانى يده في يدك ، فحضنت السياسة الدين ، واحتضن الدين السياسة.

فقدرت مبدءاً خالداً أنزله الله على نبيه أن الإسلام دين ودولة وعبادة وسياسة.

 إيه مصدق : لقد حاولت أمريكا أن تمنع زيارتك لمصر ، وأبلغ السفير الأمريكى شاه إيران بأن زيارتك لمصر لن تكون لها نتائج طيبة بين امريكا وإيران.

فاعجب لأمريكا كما أعجب لها يا مصدق ، وكيف تنتظر من زيارتك خيراً لها ونتيجة طيبة لشعبها ؟ وكان لها الحق في أن تطالب بمنع زيارتك لأرض الكنانة لأن ذلك خنجر مسموم في سويداء قلبها ، وإيذان بانتهاء سطوتها. يوم خرج الشعب المصرى الكريم عن بكرة أبيه يستقبل بطلاً صنديداً ترتاع له نفوس الجبناء من انجليز وأمريكيين.

 فليعلم الاستعماريون أن أرواح المسلمين متجاوبة ولو تباعدت الأبْوان ،لقد دقت طبول الثورة في إيران فاستجابت لها طبول ا لثورة في مصر، وغدا تستجيب لها طبول الكفاح في الأردن والمغرب ، وليعلم الاستعماريون أن يومهم قد حان ، واننا سننال حقنا الرجيح ولو كان دون ذلك أشلاء وموت زؤام.

 إيه مصدق: لله در خيامكم حين قال :

 فما اطال النوم عمراً ولا       قصر في الأعمار طول السهر

فناضلت المرض والمستعمر، وكانت أيامك كلها سهرا متواصلا ، فحققت لك ولأمتك النصر المؤزر المبين.

 إيه مصدق: لقد فاضت عبرات الفرح من عينيّ يوم رأيتك تركب الطائرة يسندك الرجال مودعا من الشعب المصري الذي ورث الكرم كابرا عن كابر

وفاض خاطرى وكأنني بروحي قد خرجت من بين جوانحى ، وانفلتت من ثنايا أعطافي.. وحلقت في أجواز اللانهاية ، حيث طرت تكلؤك العناية الإلهية. فـلنستمع معاً للحن الخالد – لحن الحرية تعزفه أوتار اللقلوب فتخرج منه أفراح النفس ، وتنطلق منه زغاريد الضياء ، ولتسثمعي إليه يا إيران في عهدك الجديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) أول من حصل على امتيازات البترول .

[1] ) قاتل رازماراه الذى ينتمى إلى فدائيان إسلام وبعدها قال الكاشانى " إننى أبارك قتل رازماراه وأبارك يد قاتله".

 ********** /span>

أأما الموضوع الثاني :

7 من ربيع الأول 1371                (الموضوع الثاني)              6/ 12/ 1951م/span>

عهد الشباب خطير الأثر في غرس الأخلاق وتوجيه السلوك فما واجب دور التثقيف والأسر نحو شبابنا في هذه المرحلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموضوع

ككان الشباب في صباهم كما قال أمير الشعراء:

حَليون من تبعات الحياة         على الأم يلقونها والأب

وأما الآن وقد دار الفلك دورته، وشب الصغير عن الطوق وخرج من ذلك الحيز الضيق المحدود، إلى الآفاق اللانهائية الممتدة أمامه تكاثرت أمامه المسئولية وأصبح إنساناً يطبق عليه ناموس الأناس، وثار عقل اليوم على عقل أمس /span>

 فأصبح يفكر بتفكير الرجل الكامل.

& فالشباب ما هو إلا ذلك المعبر الذى يعبر عليه المرء من جنة الطفولة وأحلام الصبا إلى أرض الواقع المر والحقيقة المؤلمة، وكثيراً ما تلعب المقادير بذلك المعبر المسكين ، فقد تطيح به العواصف الهوجاء ، فيهوى من عليائه إلى غيابة الأغوار.

وقد يستقر في مكانه المكين حتى يعبر المرء في سلام وهدوء./span>

& إنها سن المراهقة التى يقول المربون عنها أنها أحط سن في تاريخ الإنسان.

فلا الصبا برعونته ولا الشيخوخة القاسية بأمراضها تعادل قيد أنملة في تلك المرحلة الفاصلة في تاريخ المرء، ففي هذه الفترة يتقرر مصير الإنسان، فإما نجاح باهر باسم يرقى بالإنسان سماء المجد في سلام ، وإما فشل ذريع يلقي بالمرء إلى أعماق الحنادس.

 وفي هذه السن يتغير مجرى الحياة : فإما حياة مستقيمة لا أساءة فيها ولا ركود ، وإما حياة معوجة كلها ركود وأساءة، ولقد علم الزعماء المناكيد ما لهذه السن من أثر في الحياة، فاستغلوها أسوأ استغلال واغتر الشباب بالزعامة الزائفة، فانضووا تحت ألوية خرقاء ،فهذا يلوِّح لهم بـ "وفدية" تبعث سعدا حيا، وذاك يناديهم باسم اشتراكية تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وذاك يعرض "سعدية" تفرش الأرض ذهبا بعد ان غرست قتاداً وشوكاً . ولوعلموا الحقيقة ما كان غير الإسلام عزا وسعدا.

 وبذلك استيقظ الفساد الأعمق ليغرس فيهم أسوأ المثل، فعرفوا الحقد كيف يكون بعد أن كانوا أنقياء السرائر، وتعلموا الحماس الحزبى الأهوج بعد ان كانوا براء كالملائكة الأطهار، فضربوا بذلك أسوأ مثال للشباب الخنع الناكل.

 لذلك كله كانت مهمة إصلاح النبات الأعوج صعبة .. وجد صعبة .. قد يقتضى ذلك الرى المساغ والعناية الفائقة ، وقد يحتاج إلى التهذيب والتشذيب واجتثاث الطفيليات، وقد يضطرنا هذا إلى استئصال النبات من الشأفة لأنه عنيد خرج على قانون الأرض، ولم يرض إلا بقانون الشيطان.

 فمهمة المربى الفاضل أن يكون مواطناً صالحاً في عالم المثل، قبل أن يدعو غيره إلى التجنس بهذه الجنسية الغالية، وإن المربى الذى يحث تلاميذه على الفضيلة وهو ابن شرعى للرذيلة فمثله كمثل شيطان مثل دور الملاك إلى حين.

أعرف أستاذاً كانت دروسه لا تخلو من سب "للحشيش" ومدمنيه .

وفي ليلة من الليالى رأيته مندمجاً وسط السوقة والرعاع ، يدخن ذلك الحشيش الذى ظلمه في الفصل، وأقسط له أمام الدهماء من أبناء القصبة.

 وفي اليوم التالى سألته " ما رأيك يا سيدى في أستاذ يدمن تدخين الحشيش في نفس الوقت الذى يشرح لتلاميذه ضرره وأدواءه ؟" فأجاب وقد أخذ منه التلعثم كل مأخذ : "إننى لا أصدق أن يكون ثمة أستاذ بتلك الذمائم التى ذكرْت" . وبهذا ارتكب الأستاذ الفاضل جرائم ثلاثا : تدخينه الحشيش ، وكذبه على تلاميذه ، وغشه ضميره على مشهد من الجميع ، بعد، قال ما لا يفعل ، وفعل ما لا يقول.

 **********/span>

& والإسلام الحائر في أوطانه يجب أن يجد من العناية ما يخول له أن يأتى أكله في الدنيا، وليكن الإسلام مادة أساسية للنشء تدرس دراسة عميقة لا سطحية، فيصبغ الشباب بالصبغة الإسلامية الحقة { صِبْغَةَ اللَّـهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴿١٣٨﴾ } [البقرة] .. ولنخرج للشباب من أغوار التاريخ الأمثلة الحية للشباب الناضج الذى هزم الغواية هزيمة نكراء. وانتصر على الشر انتصاراً مؤزراً، فهذا "يوسف" ذلك الملاك الطاهر وقد أسكت به شطيانه ... أعني امرأة العزيز التي أخذت ترادده عن نفسه ... فتنة وجمال وصبا وإغراء ، كل ذلك اجتمع في امرأة من النار تفجرت ينابيع أنوثتها أمام "يوسف" ، ولكن أنى لها ذلك والله يعلم خافية النفس وما تخفي الصدور ؟!! .

وإذا نظرنا إلى الدولة الإسلامية وجدناها قامت على أكتاف الشباب : فخالد وأسامة وعكرمة وغيرهم كل أولئك كانوا فتية آمنوا بالله فآمن بهم النصر ، وآمنوا في قرارة أنفسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، لذلك جاب صوت الإسلام الآفاق . فالدولة الإسلامية لم تقم على سواعد ملساء من كثرة ما عانقت ، أو على أكتاب ناعمة من كثرة ما لاصقت، ولكن على أكتاف قوية وسواعد بريئة طاهرة، بينما نجد قائدا مثل نابليون أفاقاً عربيداً ، لا يستهجن ترك الميدان من أجل عربيدة، فسرعان ما انطوت إمبراطوريته وانكمشت انكماش القنفد.. وضاعت أماله في بحور اليأس وابتلعتها الحيتان.

 **********/span>

& و مشكلة الفراغ خليقة بكل عناية وتدبير ، فشبابنا لا يتجه إلى التيار الفاسد والمبادئ الهدامة إلا لأن أمامه فراغاً متسعاً لا يعرف كيف ولا بماذا يشغله ، ولا يجد أمامه إلا الداعين للشيطان فينخرط في ذلك السلك الأعوج، ولا يفيق من غفلته إلا في أعماق السجن وغياهب المعتقلات، إن هذا الشباب لم يجن على نفسه ، ولكن جنت عليه الدولة ، لأنه يجتاز معركة حامية الوطيس بغير سلاح ، فلابد أن توفر له الحكومة ذلك السلاح البتار الماضي ، ليقطع به الوقت فيما يجدى وينفع، قليل من المدارس هى التى تفتح مكتباتها للطلبة ينهلون منها، ونزرها اليسير تجد فيه نادياً يجمع شمل الطلبة بعد انتهاء اليوم الدراسى.

 وواجب الأسرة نحو التربية أثقل مما يتصور الجميع ، لأن المنزل هو المدرسة الأولى التى يهيئ الشباب فيها نفسه قبل أن يخرج إلى معترك الحياة.

فلا يكن الجو خانقاً في المنزل حتى لا يخرج الشاب ناظراً إلى الحياة بالمنظار الأسود القاتم، وليكن الأب نبراساً مضيئاً أمام الابن، فلا يدمن التدخين ويأمر ابنه بالاقتلاع عنه، ولا يكن شرس الأخلاق، ويعلم ابنه أصول الأدب ، ويترعه آيات الأخلاق، والأب الصالح قلما يتنكب ابنه طريق الصلاح ، وكيف يكون شيطاناً إنسان طول حياته في فراديس الملائكة، والرجل الذى يستطيع أن ينظم منزله في مكنته أن يفتح العالم بأبنائه كما يقول " جنخيز خان" .

 وقليل من الآباء هم الذين يراقبون أبناءهم مراقبة جادة فقد ينغمر الابن في لجج الغواية دون أن يدرى، وقد يأتى الإبن منكراً وهو يظن أنه فعل الخير كل الخير، وقد ينخرط الابن في صحبة دلفت فيها الشياطين وولجتها الأباليس، وليكن الأب مرشداً أميناً لابنه وضمير ابنه، يرشده دون أن يكون في ذلك مساس بكرامته أو تصغير لشخصيته، ولو علم الآباء مقدار الجرم الذى يأتونه في توجيه أبنائهم على الطريقة التقليدية المتبعة عند الآباء الشرقيين لتواروا خزياً ، لأنهم في أغلب الأحيان يأتون بعكس ما يرجون دون أن يدروا.

 فإذا رسب الابن في الامتحان لا يحاول الأب في مرة من المرات أن يبحث عن السبب – أهو غباء مستأصل – ولو كان في رأيى أنه ليس ثمة ما يسمى الغباء ، أم عقدة نفسية في نفس الابن، أم أن المقادير لعبت دوراً كبيراً وكثيراً ما تلعب؟، ولكن الأب يقابل ابنه بالدعاء التقليدي الساخر "روح جك خيبة ، والله ما أنت نافع". وينطوى المسكين على نفسه ، ويحطم آماله على صخور اليأس ، ويتلاشى من نفسه اعتداده بنفسه ، وربما ختم حياته بانتحار مريع.

 وما زلت أكرر أن يكون الأب أميناً ليكون أبناؤه أمناء ، وليكن الأب مرشداً رقيقاً ليغدو أبناؤه صالحين نافعين، وليكن الأب ملاكاً حتى لاينخرط أبناؤه في زمرة الشياطين.

تذييل

إن المقالين السابقين من "إنشائي" سنة 1951م. وأقدم في السطور الآتية كلمات من إنشائي سنة 1960م، ليرى القارئ مدى التطور في القدرة التعبيرية

إلهي: إياك أسأل، وبك أستعين ، فبك.. بك وحدك تستجلب المنة، وبك.. بك وحدك تستدفع المحنة.. فاجعل أيامي منحًا، واجعل محني ابتلاءً، ولا تجعلها عقابًا وبلاء.

إلهي: امنحني العزم الصادق حتى أشق الطريق، واملأ قلبي بالإيمان حتى أبلغ الغاية، واكتب لي النجاح في البداية والنهاية./span>

إلهي: اغمر نفسي بالثقة.. الثقة بالهدف والثقة بنبل الغاية، والثقة بالنفس إذ تسعى ما شاء الله لها أن تسعى.

إلهي: اجعلني قويًا ولا تجعلني غشومًا، واجعلني سمحًا ولا تجعلني هينًا متهاونًا.

واجعلني أتحصن بالعلم النافع في غير غرور وفي غير مروق.

إلهي: ألقيت إليك زمام أمري، ووكلتك في كل شئوني، فأنت نعم المولى ونعم الوكيل ونعم النصير.

قرأت اليوم حكمة طيبة استحوذت على خاطري ومشاعري: "تعلمت السماح من الزهر.. أدوس عليه ومع ذلك يبتسم ويملأ الدنيا بالشذا".

ووما أحوجنا أن نتعلم المحبة والسماح من النبات بعد أن أعرضنا عن مآصلها ومنابعها في رسالات السماء.

ما أحوج زعماء العالم إلى النظر تحت أقدامهم.. إلى الزهر المدوس، ما أحوجهم إلى استيعاب لغة الزهر إذ تنطق بالكرم والمحبة والتسامح.. حتى يهيئوا للبشرية عالمًا رخيًا سعيدًا يرفرف عليه روح السلام.

ما أحوج خروشوف وإيزنهار وديجول، وماكميلان، أن يعلقوا أنظارهم وأسماعهم وقلوبهم بلغة الأرض بعد أن أعرضوا عن لغة السماء.

"من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، من أمرك أن تسير فرسخًا فسر فرسخين../span>

"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين".

ألا ترى معي أن الزهر إذ تظلمه الأقدام فيرد عليها بأطيب العبق، إنما ينطق بصوت المسيح: "اللهم اغفر لي ولمن ظلمني" ؟.

وبصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" ؟.

... ما أجمل الدنيا حين تضحك.. وما أسحرها وأفتنها حين تغرس طريقي بالورود.. لقد دخلت جنة الدنيا من أوسع أبوابها.. وتمليت ما فيها من سحر آخذ وفتنة آسرة، وظلال ساحرة.. كل شيء هنا في مدرستي هذه مبتسم مشرق.. متفجر بالأمل.. ناطق براحة النفس، وسعادة الروح: الزملاء كما أرى متعاونون متناسقون، لا يعرفون إلى الحقد سبيلاً ولا إلى البغضاء طريقًا، والتلميذات هنا على مستوى عال شكلاً وموضوعًا، والخدم.. ما أجمل إخلاصهم وما أظهر وفاءهم .. إن مدرسة "الليسيه" هي الواحة التي أضنيت نفسي ، وأجهدت روحي حتى نعمت بظلالها بعد هجير، واستعذبت نميرها بعد أوام قاتل وسعيد، فلأنهل ما شاء لي النهل ، ولأعل ما شاء لي العل، ولأحمد ربي عز وجل على ما حباني من نعم.

كثيرًا ما أقارن في ذهني بين ما كنت فيه: في المنزلة وبين ما صرت إليه في القاهرة فيطفو إلى ذهني قول الشاعر:

&  شتان ما نومي على كورها              ونوم حيان أخى جابر

فحمدًا لله بما أنعم، وبما أعطى، وأدعوه أن نكون صادقين في أقوالنا، وفي أفعالنا، وفي ظاهرنا، وفي مخبرنا. إنه نعم المولى ونعم النصير./span>