الاقتصاد الإسلامي تجاوز مؤامرة الصمت

الاقتصاد الإسلامي تجاوز مؤامرة الصمت

د. عمر عبد العزيز العاني

[email protected]

قبل ثلاثين عامًا – ما زلت أذكر – وأنا طالب في كلية الشريعة / جامعة بغداد كنا ندرس بعض المفردات التكميلية التي تدعم التخصّص وتوسّع الثقافة وتفتح أذهان الطلاب إلى آفاق معرفية أوسع

لا تغيب عن مخيّلتي حصة الاقتصاد السياسي ، ولا يغيب عن ذاكرتي الأستاذ الوقور الأشيب الذي لا ينقطع عن سرد معلومات غنية ومكتنزة في الفكر الاقتصادي ، لا تقطعه عن مواصلة بث المعرفة إلا دعابات طبع عليها باسترسال غير متكلّف

يا أبنائي وبناتي هذا الفصل من الكتاب غير مقرّر عليكم .. وتلك مكرمة يفرح بها الطلاب ... في بيتي دفعني الفضول لقراءة الفصل الذي تركه الأستاذ خارج خطة التدريس ... رأيت مقدّمة تاريخية للاقتصاد يبدأها المؤلف من عهد التقاط الثمار والصيد وبوادر الطبيعة الإشتراكية في حياة الإنسان القديم ، ثم يستمر السرد ليقف على آراء إفلاطون وأرسطو وإكنسيمانس وغيرهم من فلاسفة اليونان .. ثم يأتي فرع عن الفكر العربي الاقتصادي لا يتجاوز ثلاث صفحات رأيتها مظلومة مهضومة وقد طبّقت عليها عقوبة النبي سليمان للهدهد في حبسه مع الغربان

أنهيت الجامعة ولم أدرس أيّ مقرّر في الاقتصاد الإسلامي ، لكني درست وبمقارنة متخصّصة مباحث في فقه البيوع والربا والصرف والسلم والوكالة والحوالة مباحث مجرّدة لم تجد سبيلها للتطبيق والمعاصرة

وأذكر من بقايا ذلك الجيل من أساتذتنا في صورة قريبة ليست ببعيدة في عام 2002 م وكنت يومها مدعوًّا لمؤتمر اقتصادي  في جامعة إربد في مملكة الأردن، وكان لي بحث بعنوان :

 ( مدخل إلى التجارة الخارجية من منظور إسلامي ) قابلني أستاذ علم وبلهجة المنكر كان يذهب إلى أننا نحمّل الإسلام أكثر مما يحتمل بهذه الأبحاث ، لكنه حين استمع إلى ضوابط التصدير والاستيراد وانفتاح الفقه الإسلامي على الآخر ، وأخلاقيات تحصيل الضرائب ، ومعاهدات رفع الحواجز الجمركية ، والموقف من فكرة المزايا النسبية التي يبحثها الاقتصاد المعاصر وكيف قعّد لها الفقهاء القواعد، وحدّدوا لها الضوابط بذكاء متقن كان له رأي آخر.

والعجب يشدني بانفعال أمام هذا التجاهل بينما أجد المستشرقين من أمثال المستشرق الفرنسي بروفنسال يحقّق لنا ثلاث مخطوطات مما خلفته مكتباتنا التراثية عن نظام الحسبة وهي تدير رقابة الاقتصاد في الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك ، وتنظّم الخدمات العامة ومشاريع الاستهلاك الجماعي والصحة والتعليم وخطط البناء والعمران .. وأثبت المحتسبون في محاضر واقعية جرائم الغش والتدليس ، وحدّدوا مواصفات الجودة والتقييس والسيطرة النوعية للإنتاج الضروري والحاجي والتكميلي

وللتمثيل نجد النويري في موسوعته نهاية الأرب يعقد لنا مائة صفحة يفردها للعطور والندود والنضوحات والغوالي وكيفية إتقان صناعتها وأساليب الغش فيها الشائعة والخفية التي مارسها المجتمع آنذاك

يتجاوز الاقتصاد الإسلامي مؤامرة الصمت في مباحثه البالغة في الدقة عن فكر الحرية الاقتصادية والتدخل الحكومي المباشر ومدياته من قبل الدولة بمقارنات أثبتت سبق الاقتصاد الإسلامي لمميزات حرية الرأسمالية وتدخّل الإشتراكية  وتجاوز أخطائها التي تراجع عنها آدم سمث وكينز وساملسون في الاقتصاد الرأسمالي، ولينين واشتراكية الصين الشعبية وغورباتشوف في نظرية البريسترويكا وإعادة النظر في حتمية الحل الإشتراكي لأزمات العالم الاقتصادية .

الآن ومنذ أكثر من ثلاثة عقود فجّر الاقتصاد الإسلامي براهين صلاحياته في التطبيق المصرفي، ولم يثر إشكالات عقائدية حوله عند الآخر كما يثيرها القانون الجنائي الإسلامي مثلاً

الآن نجد المصارف الإسلامية في عواصم ليس لها انتماء للإسلام لكنها آمنت بجدواه الاقتصادية ، وبإنسانيته بعد الأزمة العالمية المعاصرة ، ولهذا حديث آخر.