من أساليب التربية في القرآن الكريم 43
من أساليب التربية في القرآن الكريم
التجريب (43)
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
طريقة تربوية ، عمليّة ، تفيد في عدة أمور :
أولها
: تثبيت الفكرة أو الأمر في النفس ، وتأكيدها .
ثانيها
: اختبار المرء في أمرٍ ما ، للحكم على مقدرته .
ثالثها
: تعويده على شيء يخافه ليطمئنَّ قلبه ، فلا يخاف استعداداً لما قد يستجد .
رابعا
: كشف سريرة المدّعي ، وفضحه .
خامسها
: تنقية الصف من شوائبه .
سادسها
: التوصل لأمر جديد لم يكن موجوداً سابقاً .
ـ
فمثال الأمر الأوّل : تثبيت الفكرة
وتأكيدها :
أ ـ
قصة عُزَير الذي أماته الله مئة عام ، وحفظ طعامه وشرابه ، فلم يفسُدا وجمعَ عظام
حماره ثم كساه لحماً ، ونفخ فيه الروح فعاد كما كان . قال تعالى :
((
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟.
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ؟
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ
فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا
(1)
ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
))(2)
.
ب ـ
وقصة إبراهيم عليه السلام الذي أراد أن يزداد بصيرة في قلبه ، وعقله ، فسأل الله
تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ، مع العلم أنه شديد الإيمان بربّه وقدرته
((
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
(3)
إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
))(4)
.
ولم يَشُكَّ إبراهيم عليه السلام في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفيّة الإحياء ،
ويدلُّ عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال ، ويؤيد هذا المعنى قول
النبي
ـ
ومثال الأمر الثاني : اختبار المرء :
قوله تعالى : ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ
بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
))(5)
.
فاختبر الله تعالى المؤمنين في إحرامهم بالحج بشيء من الصيد يمكن إمساك صغاره
باليد ، واقتناص كباره بالرمح . . ومع أن العرب تتلذَّذ بالصيد واقتناصه إلا أن
المسلمين لم تمتدَّ أيديهم إليه . . وهكذا كان المؤمنون عند حسن ظنِّ ربهم بهم إذ
امتنعوا عن الصيد وهم مُحرِمون وكانوا من الصادقين .
وقال سبحانه عزّ من قائل : ((.
. . وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
))(6)
، فهو سبحانه يختبرهم بالمصائب والنعم ليرى الشاكر من الكافر ، والصابر من القائط ،
والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال . . . يختبرهم بما يحبون ليرى كيف شكرهم ، وبما
يكرهون ليرى صبرهم . فهم إليه راجعون فيجازيهم بأعمالهم .
ـ
ومثال الأمر الثالث : التعوّد على الشيء
والاطمئنان إليه :
قوله سبحانه وتعالى :
((
وَأَلْقِ عَصَاكَ
فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
(10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ (12)
))(7)
.
إن
الله سبحانه وتعالى حين أراد لموسى أن يكون رسوله إلى فرعون ، وأمام فرعون سيلقي
عصاه وتنقلب ثعباناً ، ويخاف موسى من الثعبان ويهرب وعندئذ يكون سخرية لفرعون وقومه
حينما يهرب ، جرّب الأمر ، بعيداً عنهم ليعتاد عليه ، فحين ألقى العصا أمام فرعون
كان هذا سهلاً عليه ولم يفاجأ ، وكذلك الأمر في إدخال يده إلى فتحة ثوبه ، وإخراجها
مضيئة ساطعة تتلألأ كالبرق الخاطف دون مَرَشٍ أو بَرَص .
ـ
ومثال الأمر الرابع : كشف سريرة المدعي
وفضحه :
أـ
قول الله سبحانه مخاطباً رسوله الكريم :
((
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
))(8)
.
فهذا عتاب لطيف للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أذن للمنافقين في التخلف عن
الخروج بمجرّد الاعتذار . فهم سواءٌ أَذِنَ لهم أم لم يأذَنْ لهم فسيقعدون ويتخلفون
عن غزوة تبوك ، فكان الاعتذار وقبُوله ساتراً لهم ، فلم يفضحهم أما المؤمنون فلا
يعتذرون عن الجهاد لأنه سنام الأمر وذروة الإسلام .
ب ـ
وقوله سبحانه وتعالى في المخلفين من الأعراب : ((
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ
أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
))(9)
.
لم
يسمح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمخلّفين عن عمرة الحديبية أن يخرجوا معه
إلى خيبر لفتحها وأخذ غنائمها مع المسلمين ، وهذا عقاب لهم لتخلفهم ذاك . فلما
ادعوا أن المسلمين منعوهم الذهاب معهم لأنهم لا يودون مشاركتهم في الغنيمة قال لهم
: ستدعون إلى حرب قوم أشداء هم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب أصحاب الردّة ، فإما أن
يدخلوا في دينكم أو تقاتلوهم ، فإن تستجيبوا ولا تتخلفوا يعطكم الله الغنيمة والنصر
في الدنيا ، والجنّة في الآخرة ، وإن تتخلفوا كما تخلفتم زمن الحديبية ، يعذبكم
الله عذاباً أليماً في نار جهنّم ، فلا عذر أبداً عن تخلف المسلمين عن الجهاد .
ـ
ومثال الأمر الخامس : تنقية الصف من
الشوائب :
قوله سبحانه :
((
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ . . .
))(10)
.
إن
طالوت أراد أن يعرف جلد جنوده وصبرهم وثباتهم في القتال ، والقائد حين يعرف جنوده
يقدِّر للمعركة ، مكانها ، وزمانها ، وحجم قواتها . . فمرَّ بهم على نهر ، وأمرهم
أن لا يشربوا منه ، ومَنْ كان عطشان فليشرب قليلاً ، لكنَّ أكثر الجنود شربوا
فصرفهم من جيشه ، فلا خير في جنود لا يطيعون قائدهم قبل القتال لأنهم في القتال
سينهزمون ، فلْيتخلص منهم ليكون على بينة من أمره وليكون جيشه من النوع الجيّد الذي
لا شائبة فيه .
ـ
مثال الأمر السادس : التوصل لاكتشاف
جديد :
قوله تعالى على لسان الجن : ((
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
))(11)
.
فمن عادة الجن أن يبلغوا السماء لاستماع كلام أهلها ، لكنَّ رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ حين ولد مُنِعت الجنُّ أن تسترق السمع من أهل السماء بله الاقتراب منها
، فقد ملئت بالملائكة الذين يحرسونها ، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول
الاقتراب منها .
لقد كانوا يأخذون الأخبار ، ويلقونها إلى الكهّان مغلوطة مبتورة ، فيتلقفها هؤلاء
يزيدون فيها ويسرفون ، فمن يحاول استراق السمع بعد الآن يجد شهاباً ينتظره راصداً
إياه ، فيحرقه ويهلكه .
فعملية
التجريب إذاً تجعل الإنسان يلمس بيديه ، ويرى بعينيه ، ويسمع بأذنيه ، فيثبت الأمر
في نفسه ولا ينساه أبداً .
ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم
)) ومعناه : نحن لم نشكَّ ، فلأنْ لا يَشُكَّ إبراهيم
أولى .
(1) ننشزها : نركب بعضها فوق بعض .
(2) سورة البقرة ، الآية : 259 .
(3) صرهنّ : اقطعهنّ واخلطهن بعضهنّ ببعض .
(4) سورة البقرة ، الآية : 260 .
(5) سورة المائدة ، الآية : 94 .
(6) سورة الأنبياء ، الآية : 35 .
(7) سورة النمل ، الآيات : 10 ـ 12 .
(8) سورة التوبة ، الآيتان : 43 ، 44 .
(9) سورة الفتح ، الآية : 16 .
(10) سورة البقرة ، الآية : 249 .
(11) سورة الجن ، الآيتان : 8 ، 9 .