البكور والبركة
ناديا مظفر سلطان
عندما أقف لصلاة التهجد قبيل الفجر بساعة يطالعني موكب السيارات يدلف إلى قلب مدينة تورنتو متفرعا من طريق السيارات السريع ( الهاي واي)
يبدأ الموكب بالتدفق يوميا (عدا أيام العطل) مستقبلا ولادة اليوم الجديد لا تمنعه عاصفة عاتية ولا إعصار جامح ولا يحول دونه ثلج هاطل ولا مطر دافق حتى إذا حانت الساعة السادسة بلغ الموكب أوجه ، فينطلق المهرولون لرياضة الصباح ، وتباشر وسائل المواصلات العامة نشاطها ، وتفتح المراكز الرياضية أبوابها وتدب الحياة في المدينة.
هذا المشهد المكرر كل يوم يجعلني أستحضر حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لأمتي في بكورها)
والبكور هو الساعة الأولى من الصباح والتي تسبق شروق الشمس وهو الأنفاس الأولى التي تطلقها رئتا الصبح الوليد
وفي القرآن" والصبح إذا تنفس " والله يقسم بالصبح وأنفاسه الأولى وفي آية أخرى" والفجر وليال عشر"
وهكذا فالبكور وقت مبارك للعمل والإبداع ولا بد للدين أن يتفق مع العلم في هذا المجال فالعلم الحديث قد أثبت أن هنالك طاقة عظيمة تهبط من السماء إلى الأرض وتدخل عبر نقرة الإنسان وهي المكان المقعر كالمرآة والتي تستقطب وتركز الضوء وتجمعه وهي متواجدة عند التقاء الرأس مع العنق في الخلف
كما أن الجو في ساعات الفجر الباكر يكون ممتلئا بأعلى نسبة من غاز الأوزون الذي يتناقص تدريجيا حتى يضمحل عند طلوع الشمس ويكون الكورتيزون في أعلى نسبة في الدم وهو المادة التي تزيد من فعالية الجسم.
وللوقت إجمالا قيمة عظيمة لا تضاهيها أية قيمة أخرى في الإسلام والله بجلاله وعزته قد أقسم بالفجر كوقت مبارك وأقسم بالوقت كقيمة لا تضاهى "والعصر"
ولفظة "العصر" أبلغ من أي لفظة أخرى ترادفها لغويا مثل الزمن أو الوقت قهي تفيد إعطاء الوقت اليومي حقه من سحور وبكور وضحى وقيلولة وغسق وليل ..وهذه المفردات الزمنية قد أتى ذكرها في القرآن وكل وقت كان له توظيفه ونشاطه
و لفظة العصر تفيد إعطاء الزمن حقه من سنين متعاقبة وأزمان متفاوتة ولكل زمن أدواته ولكل عصر لغته
و المنظور الإسلامي قد ربط بين العمل والزمن ك سمة من سمات الحياة الدنيا
والإنسان في تنافس خاسر أمام الوقت فهو مهما ابتكر واخترع لن يستطيع أن يدفع عقارب الساعة إلى الوراء ولو ثانية وكل ما في الحياة قابل للخسارة والربح إلا في الوقت إنه خاسر لا محال وسورة العصر في موجز آياتها ومختصر أحكامها ومفرداتها المنتخبة تعبر عن هذا الصراع بين الإنسان والوقت في هذه الحياة الموجزة " إن الإنسان لفي خسر".
"إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"
و"إلا "تفيد الاستثناء لأولئك الذين
" آمنوا" وهو حض على العمل العقلي وعلى التفكر والتأمل ونتيجته الحتمية من إيمان وهو الشرط الأول واللازم ولكن الغير كاف ثم تتابع الآية
"عملوا الصالحات" وهو حض على العمل الجسدي وفي الحديث(من بنى بنيانا من غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجر جار ما انتفع به من خلق الله تعالى)
تواصوا "وهو حض على العمل الشفهي
والرابط الموحد بين العقل والجوارح هو" الحق "كمنهج للعمل الذي يحتاج بدوره إلى" الصبر" للمتابعة.
والعمل بكل أشكاله له في الاعتبار الإسلامي قيمة عظيمة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم"
والإنسان كلما سخر جوارحه في لعبة السباق أكثر كان أقل خسارة مع هذا الخصم القوي الذي لا يقهر
ومن الناس من سخر عقله فقط للعمل وهم العلماء والمفكرون
ومنهم من سخر يده للعمل فقط وهم الحرفيون
ومنهم من سخر بيانه للعمل وهم المعلمون مثلا...
والحقيقة أن الأنبياء فئة من الناس سخرت كل جوارحها في عملية السباق هذه مع الزمن
فنبي الله داوود كان يصنع الدروع وإدريس كان خياطا وزكريا كان نجارا ومحمد كان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة
والله سخر للإنسان الأرض والبحار والأنهار والأنعام ولكن هذه الموارد والطاقات المسخرة للإنسان لا قيمة لها مالم تمسها يد الإنسان وذهنه أي مالم يضاف إليها العمل الإنساني وأمس احتفلت سويسرا بتدشين أطول نفق لسكة الحديد في العالم بطول 57 كم
والعمل كقيمة يختلف من حضارة إلى أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة تبعا إلى ثقافة الشعب وتطلعه و الإسلام قدم صورة للعمل على أنه عبادة وفي الحديث "من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له"
وحياة الآخرة تختلف عن الحياة الدنيا ففي الآخرة حيث لا قيمة للوقت وليس هنالك إحساس بالزمن في عالم الخلود، ولذلك فإن تقييم العمل مختلف و التباين بين الصورتين شاسع . وبينما أتى الأمر الإلهي واضح وحازم للعمل والجد في الدنيا "فإذا فرغت فانصب"
فإن العاملون في الدنيا هم في الآخرة في حالة قصوى من الاسترخاء والكسل لأنهم
" على الأرائك متكئون"
ومع ذلك فإن بعض الناس يستطيبون حياة الكسل ويستعجلونها وهكذا وكما أن هنالك أنواع للعمل فإن الكسل له انواع بل وفلسفة
وألبير قصيري مثلا قدم ل فلسفة هي فلسفة الكسل" وهو كاتب مصري كتب بالفرنسية ولقب بفولتير النيل وأوسكار وايلد الفرنسي وباستر كيتون العربي ويقال عنه أنه قد ورث الكسل عن جده وأبيه الثريين اللذين لم يعملا أبد وكان يردد دائما متكلما بلسان العرب "نحن حين نملك في الشرق ما يكفي لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين تملك الملايين تستمر في العمل"
وعلماء جامعة كامبريدج أثبتوا أن الذكاء ينخفض بعد خمسة أيام من الكسل بنسبة 5% وبعد ثلاثة أسابيع بنسبة 20% في حين أن علماء هونغ كونغ أكدوا أنه حوالي 20% من كافة الوفيات التي حدثت لأشخاص بعد سن 35 عاما يمكن أن تعزى إلى الكسل!
وفي بلادنا يعاقب المتهم بالأشغال الشاقة بينما في اليابان يعد "المنع من العمل " عقوبة قصوى للمتهم!
واليوم يفخر المسلمون ب" صحوة" إسلامية شاملة في الوقت الذي يصحو فيه معظم المسلمون بعد أذان الظهر وقد أضاعوا وقت السحر بالسمر، و البكور في الخدور!
بل إن الكثير من الأثرياء وأصحاب الأملاك لا يتوافدون إلى مخازنهم إلا لجمع الغلة ،بينما الأجير هو القائم على العمل.
وجولدا مائير حين سئلت متى سينتصر المسلمون علينا أجابت إذا رأيت المسلمين في صلاة الفجر كما هم في صلاة الجمعة فهذا يوم هزيمتنا وانتصارهم.
والأمة اليوم لم تضيع البركة في وقت البكور فحسب ، بل إن الزمن كقيمة مفقود فالمواعيد قابلة للتمدد بلا حدود ،
و"اختراع العصر" الحديث الموبايل، هو أفضل وسيلة لترقيع الثقوب في المواعيد واستدراك ما فات من وقت مهدور
و " لغة العصر" اليوم الكومبيوتر وشبكة الإنترنت وأدوات التخاطب العصري قد قدمت على صفحاتها السحرية اليوم تصويتا عالميا عن أهم رجل في العالم من بين عشرة مرشحين ومن بينهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الرابط
وهكذا فإن المسلمين الغيورين على مكانة نبيهم المصطفى ليس عليهم إلا ضغطة زر لمؤازرته صلى الله عليه وسلم
في حين أن رسالته و تعاليمه وسنته كان من شِأنها أن تجعل من المسلمين مالكين أقوياء لزمام العصر بلغته واختراعاته وأدواته وهو الجزاء الأوفى لكدحه ص طوال ثلاث وعشرين عاما أدى فيه الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة ... و دعا لها ببركة البكور .
وكارين أرمسترونج في كتابها " محمد" وفي الفصل الأول منه " العدو محمد" تحاول أن تشرح قدر المستطاع كيف ينظر الغرب إلى نبي الإسلام محمد نظرة مجحفة ملؤها الكره وقوامها الجهل
"كان من أحد أسباب غضب العالم الإسلامي أنه اكتشف تدريجيا مدى العداء والازدراء لنبي الإسلام وللدين الإسلامي وهي من المشاعر التي تضرب بجذورها في الثقافة الغربية"
وهذا العداء تنبه له المسلمون واستفاقوا من سباتهم "عند العصر" فلطموا الخدود وذرفوا الدموع غيرة على حبيبهم المصطفى
والأمة التي أضاعت دعاء نبيها بالبركة في سبات البكور ترى هل ستستعيد ما أضاعت بضغطة زر على جهاز الكومبيوتر؟؟؟