وردة واحدة
نهديها لـ (بدل رفو) في حياته ،
خير من باقة كاملة نضعها
على قبره (بعد عمر طويل)؟
بدل رفو المزوري النمساغراتس |
د. هوار بلّو /العراق |
يحكى أنه عثر ذات يوم في ضاحية المملكة على حمار سائب يحمل كتباً كثيرة على ظهره يحوم حول جثة صاحبه المقتول ، وعندما تلقى الملك هذا النبأ المحزن وبعث إلى مسرح الجريمة من يواري جثة الرجل الثرى ويأتيه بالخبر اليقين ، تبيّن أنّ الفقيد كان في رحلة إلى خارج المملكة ومعه حماره فتعرّض لحادث سطو مروّع على أيدي قطاع طرق غرباء عن المملكة فقتلوه وأخذوا ما بحوزته من أمتعة غير كتب ، وتبين مِن هذه الكتب التي كان الحمار يحملها على ظهره أنّ المملكة قد فقدت جهبذاً من جهابذة عصرها وقطباً من أقطاب زمانها ، ولكنه لسبب أو لآخر آثر عاش في الظلام ولم يتسنّ له الخروج إلى النور .. لقد كان للفقيد على ظهر هذا الحمار المسكين كتاباً يتحدث فيه عن الفلسفة ومدارسها ، و به فصل تناول فيه نظرته الشخصية إلى الفلسفة وتقييمه الخاص لروّادها على مرّ التاريخ .. وكتابٌ آخر يتحدث فيه عن قضيّتَيْ الإلحاد والإيمان وآثار كل منهما على سلوكيات الفرد وتركيبة المجتمع ، وبه فصل تناول فيه القضية بمنظوره الشخصي بعيداً عن نظرة الأديان والشرائع .. وكتابٌ آخر يتحدث فيه عن علم السياسة وأصول الحكم وطرائقه ، وبه فصل تناول فيه فن إدارة الدولة وطرائق التفوق في ممارسته بمنظوره الشخصي .. وكتابٌ آخر يتحدث فيه عن الجبر والحساب وعلوم الطبيعة ، وبه فصل يتحدث فيه عن كيفية استغلال هذه العلوم في خدمة الإنسان .. وكتابٌ آخر يتحدث فيه عن علوم الطب وفروعه ، وبه فصل تناول فيه الوصفات العلاجية التي اخترعها عن طريق تجاربه الكيماوية الخاصة والتي بإمكانها أن تقدّم العلاج لعشرات الأمراض الفتاكة . وكتبٌ أخرى كثيرة يتحدث فيها عن الشعر والنثر والفن والحكمة والفراسة والزهد والتصوف والورع والصداقة والطرائف .. إنه بحقّ كان عبقرياً من عباقرة عصره وجهبذاً من جهابذة زمانه !!
لكنّ الملك استغرب كثيراً من أمر هذا الفقيد الذي آثر العيش في الظلام ، فأين كان هذا الرجل العظيم بعلمه وكتبه وخبرته التي لا تدانيها خبرة في هذا الزمان ؟ وما هو السر الذي دفعه إلى التخفي عن عيون الناس والعيش وراء الحجب ؟ ثم صرّح الملك على رؤوس الأشهاد بأنه لو كان يعلم بأمره لجعله كبير الحكماء والمستشارين في قصره ولفوض إليه الكثير من أمر السياسة والحكم في البلاد ، ولم يكنْ ليتركه يبرح مجلسه لحظة واحدة .. واعتقد الملك أنّ المعرفة الواسعة التي عجّ بها رأس هذا الرجل العظيم قد أضْفت نصيباً وافراً من الإنطواء إلى شخصيته ، ففضّل على إثر ذلك العيش وراء الكواليس .
لم يدع الملك أن يذهب صيت هذا الجهبذ العظيم أدراج الرياح ، فقد أمر بإخراج جثمانه من قبره المتواضع في ضواحي المملكة والإتيان به وسط موكب كبير يليق بمعرفته ومراسيم تأبينية ترقى إلى مستوى عطائه ويدفن وسط العاصمة في قبر مرصع بالذهب والفضة والألماس ، ثم يقيم له بعد ذلك تمثالاً بالقرب من مزاره ويُفتتح في ظل أجواء تكريمية تليق بشأنه . كما أوكل الملك إلى حكماء المملكة مهمة نسخ كتب هذا الجهبذ الهمام بأعداد كثيرة تسد عين الشمس ليوزعها على مكتبات المملكة من أقصاها إلى أقصاها ويجعل من مضامينها مناهج معرفية تدرس في كتاتيب المملكة ومدارسها .. لقد رأى الملك أنّ هذا الرجل العظيم لحريّ به أنْ يعانق اسمه ذرى المجد وتغدو سيرته واحدة من تلك السّير المعدودة التي تتشرف بها المملكة على طول تأريخها وعرضه.
و هكذا أقيم للكاتب حفل تأبيني قلّتْ نظائره ، و حضر ذووا السّنان من أهالي المملكة مراسيم هذا الحفل التاريخي ، وبُنيتْ على قبره قبة شاهقة مرصعة بالذهب والفضة والألماس ، و نُقشتْ عليها بماء الذهب مقاطع كتابية عديدة ، تضمنت إسمه وتفاصيل حياته وأسماء مؤلفاته التي لم تكن قد نُشرتْ إلاّ بعد موته ونصوصاً له في الحكمة والفلسفة والشعر استخرجوها من بطون أسفاره المتنوعة .. ولم تمرّ أيام قليلة حتى نُفّذتْ بقية أوامر الملك وأقيم للفقيد تمثال شاهق وسط عاصمة المملكة ورصّع بأجمل الأحجار الكريمة وأثمنها . و هكذا اكتسح اسم هذا الرجل العظيم كل بلد من بلاد المملكة وكل حي من أحيائها في غضون أيام قليلة بعد وفاته وغدت شهرته خبر الساعة الذي يتهامس به الناس في طرقات المملكة وأسواقها ومجالسها .
ولكن هل تعرفون من كان هذا الرجل وماذا كانت حقيقته؟
هذا الرجل كان جهبذاً من جهابذة عصره ، حباه الله ميزتين متناقضتين ، الأولى حينما أتاه الله نصيباً وافراً من المعرفة الإنسانية ، والثانية حينما جعل من هذه المملكة المشؤومة مسقطاً لرأسه المملوء بهذه المعرفة ، حيث وجد في حياته معاناةٍ كبيرة على يد هذا الملك وهو الآن يجد منه الخير والسعة بعد أن صار في عالم الموتى ، ولكنّ الملك لم يكتشف قصته إلى آخر يوم من أيام حكمه .. لقد عانى هذا الفقيد الأمرّين على يد الملك أثناء مسيرته العلمية العريقة التي ناهزت نصف قرن من الزمان .. كان هذا الرجل كلما ينتهي من كتابة كتاب له من الكتب المذكورة ، كان يتقدم بطلب للملك ليوافق على نسخه ونشره في البلاد لينتفع به طلاب العلم والمعرفة في المملكة ، لكن الملك كان يرفض طلبه في كل مرة مدعياً أنّ أموال المملكة أمانة في عنقه ولا يستطيع أن يصرفها في طرق تافهة لا تعود بالنفع على الرعية بأي وجه من الوجوه .. لقد كان الملك ضيق الأفق و بليد التفكير ولا يكترث لمعاناة أهل العلم والحكمة واهتماماتهم ، والجدير بالذكر أنّ المبلغ الذي كان يحتاجه هذا الرجل العظيم لنسخ كتبه كلها ونشرها في أرجاء المملكة لم يكن ليناهز سوى نصف ذلك المبلغ الذي أنفقه الملك على حفل تأبينه وبناء قبره وتمثاله عندما اكتشف عظمته واهتدى إلى كنه قلمه بعد موته .
على ضوء هذه القصة الطريفة التي كانت مستنبطة من أحدى قصصي القصيرة التي سبق وأن نشرتها في الكثير من المنتديات الألكترونية ، هل يمكن لنا أن نتساءل في كوردستاننا مثلاً لماذا لا نهدي لمبدعينا وردة واحدة في حياتهم بدلاً من أن نضع باقات كاملة على قبورهم ؟
لماذا لا ننتبه إلى مدى المعاناة التي يجدها الكاتب والمثقف الكردي ؟ فهو بالإضافة إلى كونه يحظى بالجفاء في مجتمعه وبيئته ، هو أيضاً ينال قسطاً وافراً من عدم اكتراث الحكومة والسلطة له .. فهو مهمش على المستويين الإجتماعي والسياسي إن جاز لنا التعبير .
ألم يحن الوقت كي يفرح المبدع الكوردي بعطائه ويبصر شهرته تكتسح البلاد والعباد تحت سمعه وبصره؟ ألا يكون هذا دافعاً له ليبدع أكثر من ذي قبل ؟ ثم ما الجدوى من تكريمه بعد أن يرحل عن هذه الدنيا ويصبح في عالم الأموات؟
إن حكوماتنا لم تفكر يوماً أن تكرم مبدعينا وهم أحياء بل تعودت دائماً أن تمجدهم بعد موتهم وتضع باقات الورود على قبورهم في حفلات استعراضية تجلب الانتباه .. وليس هذا في الحقيقة إلاّ وجهاً من وجوه النفاق .. فباقات الورود هذه هي ليست سوى طريقة للتقرب من قلوب الأحياء من الرعية والفوز برضاهم بعد ذلك على حساب الفقيد المسكين .. فتكريم هكذا فقيد هو تعبير عن تكريم رصيده الإبداعي وهو بالتالي سياسة تبتغيها السلطة لتتقرب بها إلى قلوب الرعية زلفىً .
إنطلاقاً من هذه المعاني والمفاهيم ، ارتأت نخبة من أدباء ومثقفي محافظة دهوك أن تقوم بتكريم الشاعر والمترجم والأديب الكوردي (بدل رفو) من غير أن تطلب عوناً أو مباركة من جهة حكومية أو سياسية .. وهو قفزة نوعية فريدة في تاريخ تكريم المبدعين في كردستان بل وفي تاريخ العراق برمته ، وذلك من حيث جانبين مهمين .. الأول : أنه سيتم تكريم مبدع من مبدعينا الكورد قبل موته وتحت سمعه وبصره ، والثاني : أنّ هذه هي أول مرة يكرم فيها الشعب مبدعيه .. ولعلنا نسأل من هو (بدل رفو) ليستحق هذا التكريم الفريد ويكون المايسترو في هذا المنعطف التاريخي في مسار الأدب الكردي؟
يعتبر الأديب والشاعر والمترجم (بدل رفو) واحداً من الأدباء الكورد الذين كان لهم باع طويل في خدمة الأدب الكوردي ، هو من مواليد الشيخان عام 1960 ، تخرج من كلية الآداب جامعة بغداد – قسم اللغة الروسية عام 1985 وبدأ بالنشر نهاية السبعينات باللغة العربية ، عمل في مجال الشعر والصحافة والترجمة ، واغترب عام 1991 في دولة النمسا وهو الآن عضو في نقابة صحفيي كوردستان والنمسا .. لقد أحب الرجل الترحال بين أصقاع المعمورة كثيراً وكتب كثيراً في مجال أدب الرحلات ، حتى سماه البعض من الكتاب والنقاد بالسندباد الكوردي والبعض الآخر بابن بطوطة الكوردي .. واستغل هذا الرجل كثرة رحيله بين الأوطان لينقل أدب شعبه إلى الناس في كل شبر وطأته قدماه .. لقد حمل الأدب الكوردي لاسيما الشعر على راحة كفه المتواضع وقدمه إلى الغرباء بلغات هم يفهمونها ، من غير أن يبتغي وراء مجهوده الضخم هذا جزاءاً أو شكوراً من أحد .. لقد قدم هذا الرجل بمجهوده الشخصي ما يعجز عن تقديمه رابطة أدبية برمتها .. لقد كان بحق مؤسسة ثقافية متكاملة ، يكتب ويترجم وينقل في سكناته وحركاته .. ونأسف أن شخصاً بهذه الإرادة الفذة والإخلاص المتفاني قد بقي منسياً في ذاكرة حكومتنا ومؤسساتنا الثقافية ، ولم يقدّم له لحد الآن ما يرقى إلى مستوى جهده الفذ وإخلاصه المتفاني .. وهو الأمر الذي رفضه المثقف الكوردي في محافظة دهوك واستنكره في قرارة نفسه ، حيث ارتأت نخبة من الكتاب والمثقفين الكورد أن تقوم بتكريم هذا الإنسان الفذ على نفقتهم الخاصة تقديراً لجهده في خدمة الأدب الكوردي ، وقد كان مشروع التكريم هذا مشروعاً متواضعاً في بدايته حيث بدأ بفكرة بسيطة ثم لاقى استحسان الكتاب والمثقفين الكورد في محافظة دهوك وتوسع ليضم إلى كنفه الكثير من الشخصيات المرموقة ، وفعلاً تحول المشروع إلى واقع يدب فيه النشاط وكان يوم 7 من اكتوبر من هذا العام هو يوم ميلاد هذا التكريم التاريخي ويوم تحول الحلم إلى حقيقة .. وفي هذا التكريم رسالتان معنويتان إحداها للأديب (بدل رفو) ليعرف أن شعبه لا يزال يذكره بخير ويتذكر فضله في خدمة الأدب الكوردي ، والثانية للناس أجمع حيث ليس تكريم هذا الأديب إلاّ تكريماً للجهد الأدبي من خلال شخصه الكريم .
ولا يسعنا ونحن نستقبل هذا اليوم التاريخي إلاّ نتقدم بأحر التهاني والتبريكات لهذا الرجل الفذ ونقول له أنك إنسان تستحق التكريم مع كل شهيق لك وزفير ، وأن رعاة هذا المشروع أناس ارتفعوا عن واقعهم حتى التقوا بالمثال .