هل تحرص على مستقبل زاهر
م. محمد عادل فارس
[email protected]
كما
نحتاج إلى تعلم الجديد، وتوضيح الغامض، نحتاج إلى التذكير بالبدهيات التي نغفل عنها
في مواجهة صروف الدهر، ومنعطفات الحياة.
فالمسلم يؤمن أن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله، وأن الأجل والرزق والعسر
واليسر... مقسومة في قضاء الله، وأن النفع والضر والرَّفْع والخفض، والعز
والذُّل... بيد الله وحده... ومع هذا كله ترى هذا المسلم، أحياناً، يسلك مسالك غير
مشروعة للوصول إلى رزق أو جاه، ويتهرب من واجبات شرعية، خوفاً على مصلحة قريبة،
وفرصة سانحة.
المستقبل، تلك الكلمة ذات الصدى والرنين، تهمُّ الناس وتشد انتباههم، وقد يكون من
النادر أن نعثر على إنسان لا يفكر بالمستقبل، ولا يوليه اهتمامه.
وليس ذلك بمستغرب ولا مستنكر، فمن حق كل إنسان أن يفكّر بمستقبله، بل من غير
المقبول أن يُهْمله ويَهْجُره، ذلك أن المستقبل مرتبط بالأمل، أمل الإنسان بالبقاء
وغيره. ولولا الأمل قطعت الحياة وبطل العمل.
لكنْ ما المستقبل، وماذا تعني هذه الكلمة على وجه الدقة؟
هنا
يختلف موقف الناس، ونسمع إجابات متعددة على هذا السؤال.
فريق يرى المستقبل هنا في الحياة الدنيا، بل يحصره في أمور مادية، يشترك فيها
الأحياء، مَن يمشي منهم على رجلين، ومن يمشي على أربع!.
وفريق يرى المستقبل في الحفاظ على دخله المادي، ومركزه الاجتماعي... وتطوير ذلك...
وقد يشمل معنى المستقبل عند هؤلاء ضمان الصحة والتعليم والعمل لأبنائه من بعده.
بينما نرى المستقبل عند فريق آخر يمتد إلى آفاق أوسع، وساحة أرحب، بل يتعدّى الحياة
الدنيا من غير أن ينساها، ليشمل الآخرة بمفهومه للمستقبل، بكل ما في الآخرة من خير
عظيم، ونعيم مقيم. وهذا الفريق من الناس لم تفُتْه الدنيا ولم يضيّعها. بل أضاف
إليها وزاد عليها ما هو خير منها وأبقى.
إن
الذي يوجه نظره ويُعملُ فكره، ويستفرغ جهده، في مستقبله البعيد الخالد، علاوة على
مستقبل الدنيا، إنسان يتميز بنظرة شاملة جمعت المستقبلين، وبنظرة بعيدة لم يحجبها
العاجل عن رؤية الآجل الذي يحسبه الناس بعيداً وهو جِدُّ قريب. ولم ينشغل عن مستقبل
ممتدٍّ لا ينقطع، بمستقبل سريع الزوال.
أما
الذي لا يرى المستقبل إلا هنا في العاجلة الفانية ولا يهتمّ إلا بنفسه وأولاده،
ويسعى بطاقته كلها لتأمين مستقبله ومستقبلهم، وربما قدم مستقبلهم على مستقبله هو...
فماذا يريد؟!
أيريد صحة البدن وعافيته، أم يريد المال والغنى؟ أم يريد السلامة والأمن؟ أم يريد
المنصب والجاه، أم يريد هذا كله دونما استثناء.
إنه
لمن عظيم تدبير الله تعالى وجليل حكمته أنه لا يملك أحد من الخلق شيئاً من هذه
الأمور لنفسه وإن حَرَص، فضلاً عن أن يملكها لغيره.
هذا
فرعون. ذبح الآلاف من الأطفال، واتخذ من الاحتياطات ما يُعَدُّ أمراً مذهلاً في
عصره. كل ذلك حرصاً على الملك، واستئثاراً بالمنصب والعلو، عندما علم أن مولوداً
سيأتي ويكون زوال ملكه على يديه. فماذا كانت النتيجة؟ لقد نجا سيدنا موسى، عليه
وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الذبح. وأعظم من هذا أنه دخل قصر فرعون وتربّى في
حضن أمه على حساب ذلك المتألّه، وأفلست التدابير الأمنية والاحتياطات التي وصلت
حداً بالغ القسوة والوحشية. ثم زال ملك فرعون على يد سيدنا موسى عليه السلام، ولم
يتحقق لفرعون ما أراد ولم يَسْلم له المستقبل المرتجى.
وهناك أناس يحرصون على المال وجمعه بوسائل شتى، يحسبون أن السعادة فيه، وأن
مستقبلهم يعتمد على كثرة ما يحوزونه منه. فماذا يكون؟ فإما أن يعجِزوا عن جمعه،
ويقهرهم الفقر فلا يقدرون على دفعه. وإما أن يبلغوا ما أرادوا من كثرة المال، لكنه
سرعان ما يضيع، أو أنه لا يحقق السعادة المنشودة التي حسِبوها في جمعه واقتنائه، من
كثرة ما ينصبُّ عليهم من كُدورات ومنغّصات.
هذا
قارون قد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. ثم في لحظة
واحدة ضاع كل شيء، وغاص هو وماله في أعماق الأرض، يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، غير
مأسوف عليه.
ولئن خُيِّل أن هذا الخسف لن يتكرر، فإن هذا الخيال يقتصر إلى الدليل، وليس تكرره
بمستحيل.
وعلى كل حال فإن ذهاب المال وتلاشيه قد يكون بالخسف، وقد يكون بغيره من سرقة، أو
خسارة، أو حرق، أو تسلط مستبد قويٍّ يستولي عليه، أو مخادع، أو ما شاء الله من
أسباب.
ويحرص بعض الناس على الصحة ويراها أولى اهتماماته، فيجمع المال ليبذله في سبيلها،
فهل يستطيع هذا الإنسان دفع المرض وإبعاده فلا يأتي، ثم إذا جاء وأراد الله أن يكون
مرضاً قاتلاً، هل يستطيع رفعه؟ هيهات هيهات أن ينفع الطب حينها أو يجدي فتيلاً.
فكم
من ملك أو رئيس نزل به المرض وهو لا ينقصه المال، بل يملك المليارات، فلم تنفعه تلك
المليارات، وغلب أجله الطبَّ والأموال المرصودة له.
ويجمع بعض الناس المال ويستكثرون منه ثمناً للأمن والسلامة، فتجد أحدهم يبني القلاع
والحصون، ويشيد الدور والقصور، ويستكثر من الجند والحراس والأتباع، فماذا يجني؟.
إنه، إما أن يقتله بعض الأتباع، أو يقتله بعض الأبناء، أو يهلكه زلزال مدمّر، أو
يغتاله مرض لا ينفع معه الطب والدواء.
والسؤال الآن هو: هل يستطيع من يعجز عن ضمان مستقبله، أن يضمن مستقبل غيره من أولاد
وذرية؟!.
ألم
تسمع بإنسان جمع المال من حِلِّه وغير حله، شفقة على الأولاد وضماناً لمستقبلهم،
وإذا هو يخسر المال قبل أن يفارق الدنيا، أو يصل المال إلى الأولاد من غير مشقة
وعناء، فيضيع هباء، ويبدد الأولادُ ما ورثوه عن أبيهم بطرفة عين، بحماقتهم وجهلهم،
ثم يعيشون عالة يتكففون الناس!. ومن نظر حوله وجد من أبناء الأغنياء من لا يستطيع
أن يُشبع بطنه، ولا أن يستر جسمه.
وتجد مقابل ذلك صورة معاكسة هي صورة ذلك الرجل الذي فارق الحياة ولم يخلّف لأولاده
درهماً ولا ديناراً، لكنه غرس في نفوسهم وقلوبهم الإيمان المشرق والتربية الحسنة.
وإذا أولاده من بعده أصحاب مكانة عالية، وثراء ملحوظ. المال في أيديهم كثير فائض،
وقدرُهم بين الناس عال رفيع.
ومن
صور الحرص على مستقبل الأولاد أن يمنع أناس أولادهم من الذهاب إلى بيوت الله عز
وجل، ويَحْمِلوهم على البُعد عن الرفقة الطيبة الصالحة، لما يرى هؤلاء ما يعانيه
سالكو سبيل الدين من ظلم واضطهاد، وأذى وتنكيل. وإذا هؤلاء الأولاد ينحرفون –
ويرتكبون من الموبقات ما يرميهم في غياهب السجون أذلّةً منبوذين – وربما يصاب الولد
الذي حرص والده عليه، بحادث أليم يودي بحياته، أو داء عضال لا شفاء منه، أو غير ذلك
مما يدمر المستقبل. وهكذا يضيع الحرص هباء منثوراً، بل ربما يندم الأب على صنيعه
عندما يتمرّد ابنه عليه ويغدو مشكلة تنغّص حياته جزاء ما اقترفه ذلك الأب من صد
ابنه عن سبيل الله عز وجل. ولو عقل لأدرك أن البعد عن دين الله لا يحمي أحداً. بل
إن العمل بدعوة الله سبيل من سبل الفوز والنجاة.
وهذا سيدنا يعقوب، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، حرص على ابنه يوسف عليه السلام
أيما حِرْص، ولم يألُ جهداً في تسخير الأسباب، فلم ينفعهما ذلك، وتآمر إخوان يوسف
u
فألقوه في غيابة الجب، ولولا عناية الله ولطفه – وليس تخطيط البشر – لكان الجب
مقرَّه الأخير.
ويأتي القول الفصل في كتاب الله تعالى ليخبرنا أن من أراد الدنيا ربما أعطيها وربما
لم يُعطَها، فالأمر لله، مرهون بمشيئته، لا بمشيئة العبد ورغبته، وسعيه وحرصه.
}من
كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً
مدحوراً{.
وإذا لم يكن لهذا الإنسان همّة إلا في الدنيا، وكان يستحب الحياة على الآخرة فإن
جهنم مثواه.
أما
من أراد الآخرة وعمل لها فإن الله عز وجل أكرمُ وأرحمُ من أن يضيع جهده وسعيه
}ومن
أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً{.
ولئن فَهِمَ امرؤ مما تقدّم أننا ندعو إلى إهمال المستقبل الدنيوي، وترك العناية به،
وعدم الأخذ بالاسباب فقد فهم زوراً، وابتعد عن فهم الحق والصواب مما قررناه.
وهل
يجرؤ مسلم على الدعوة إلى إهمال المستقبل والاستخفاف به، والله تعالى يقول:
}وابتغِ
فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا{
وقد ورد أيضاً من كلام ابن عمر t:
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".
كل
الذي قصدنا إليه ألا يجعل المسلم الدنيا هَمّه، وألا يستحبّها على الآخرة، وألا
يعتمد على الأسباب وينسى مسبّبها، بل المطلوب أن نعمل في الدنيا فهي نعمت المطية
للآخرة، وأن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز وجل، عملاً بقوله
r
جواباً لمن سأله: أيترك ناقته ويتوكل، أو يعقلها ويتوكل؟: "اعقل وتوكّل"
(رواه الترمذي
وابن حبّان).
موقنين بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
}وإن
يُرِدْك الله بخير فلا رادّ لفضله{.
وإن الناس لو اجتمعوا "على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،
وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"
رواه الترمذي.
إن
النتائج والأسباب مخلوقان لله تعالى، فلئن كان العبد مسلطاً على الأسباب يأتي منها
ويذر، فإنه غير مسلط على النتائج، بل النتائج كلها بيد الله سبحانه. فالنصر من عند
الله، والغنى والثراء بيده، والصحة والعافية والفقر والمرض والموت والحياة، والأمن
والسلامة.. كل ذلك بيده وحده دون سواه
}إن
ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده{؟.
وكم
خانت الأسباب أصحابها وغدرت بهم أو أفلست وبان عجزها ولم يظهر لها أثر. أليس في هذا
عظة وعبرة؟!
وقبل أن نختم البحث نشير إلى أمر مهم هو أن الإسلام يمزج بين الدنيا والآخرة ولا
يفصل بينهما، فلا يجعل العمل للدنيا نقيضاً للآخرة، وإنما يجعله استعداداً لها، بل
إن العمل المباح فضلاً عن غيره عبادة إذا اقترن بالنية الصالحة.
وبهذا يجمع الإسلام بين الدنيا والآخرة، في توازن رائع، وتآلف عجيب، ويجعل العمل في
الدنيا زرعاً للآخرة ومطية لها.
فإلى العمل للمستقبل، مستقبل الدنيا والآخرة، مع التوجه إلى الله والاعتماد عليه،
والوثوق به. والحمد لله رب العالمين.