إنه الشَّاعر/ عبده بدوي!
محمد عبد الشافي القوصي
السودانيون يقولون: الشعراء ثلاثة؛ حافظ، والعقاد، وعبده بدوي!
اليمنيون يقولون: الشعراء ثلاثة؛ امرؤ القيس، والبردوني، وعبده بدوي!
العراقيون يقولون: الشعراء ثلاثة؛ المتنبي، ونازك الملائكة، وعبده بدوي!
الكويتيون يقولون: الشعراء ثلاثة؛ العدواني، ومحمود حسن إسماعيل، وعبده بدوي!
الشوام يقولون: الشعراء ثلاثة؛ أبو العلاء المعري، ونزار قباني، وعبده بدوي!
المصاروة يقولون: الشعراء ثلاثة؛ حافظ، وشوقي، وعبده بدوي!
أهل الجنَّة يقولون: الشعراء ثلاثة؛ حسان، وابن رواحة، وعبده بدوي!
وأنا أقول: الشعراء ثلاثة؛ عبده بدوي، وعبده بدوي، وعبده بدوي!
من هو عبده بدوي؟!
يقول الشَّاعر والإعلامي الكبير/ فاروق شوشة: (حين تقدمتُ للمشاركة في المهرجان الشعري الذي يقيمه اتحاد الطلاب بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام1953, وأنا طالب بالسنة الأولى, فوجئتُ بحشد الشعراء الذين تزدحم بهم منصة مدرج علي مبارك الشهير؛ برز شاعران كبيران من طلاب السنة الرابعة يلخصان واقع الشعر آنذاك؛ هما: عبده بدوي، وعلي الصياد. كان عبده بدوي وقتها في عشرينيات العمر, متأنقاً في لغته الشعرية تأنقه في زيه ومظهره. وكانت قصيدته في المولد النبوي تحمل عنواناً لافتاً جديداً على الأسماع؛ (الفجر الأخضر) وبالرغم من الجدة الشعرية في اللغة والتعبير بالصورة, إلاَّ أنه كان حريصاً على القالب البنائي للقصيدة.
وفي رحلة الحياة الطويلة, على مدار أكثر من نصف قرن, لمع نجم عبده بدوي, بدءاً بنشر شعره في جريدة المصري, وتعرفه على الملحن/ أحمد عبد القادر -الذي لحن له عدداً من قصائده، تغنت بها نجاة، ومديحة، وفايدة كامل، وكارم محمود، وعبدالحليم, وتكليفه بعد ذلك بالإشراف على مجلة الرسالة، ومجلة الشعر, وكاتباً في مجلة الثقافة، ثم سفره إلى العمل بالدول العربية .. مما جعل المؤسسات الثقافية الرسمية تنساه، وهذه ضريبة الغربة ...)!
لكنني؛ قد اختلف مع فاروق شوشة، في تعليله العليل ... وأقول: إنَّ المؤسسات الرسمية؛ لا تحتفي بأمثال: عبده بدوي، وغيره من أصحاب المبادئ، وحراس الفضيلة!
إنما تحتفي بالتغريبيين، والحداثيين، والفرانكفونيين، وبائعات الهوى، وكاشفات البطون!
* * *
عندما أصدر الدكتور/ عبده بدوي- ديوانه (الجرح الأخير) تساءل مع نفسه: "ماذا قدمتَ –يا عبده- للشِّعر؟ فأجاب على نفسه، قائلاً: "أنا واحد من أفراد قبيلة الشِّعر, لا أدَّعي على أفرادها زيادة أو نقصانا, وحسبي أنني تعاملتُ مع مقومات الشعر الأصيلة, ولم أضرب في المجهول. وأنني في الوقت نفسه كنتُ صوت نفسي وعصري, بالاضافة إلى صوت الانسان المظلوم, وإلى التعامل مع الأشكال الجديدة في العربية كالأوبرا والقصيد السيمفوني, ولقد كنتُ في دواوييني السابقة أحاولُ بقدر الامكان أن أفرق بين الشكلين اللذين أكتب بهما كنوع من تنظيم الموسيقي, ولكنني في هذا الديوان مزجتُ بين الشكلين, وقد كان من همي في الفترة الأخيرة تنظيم صوت الموسيقى, لإعطاء دور لبعض عناصر الشعر التي كانت معطلة, وليكون هناك صدق من عالم النفس الداخلي, وعن عالم الحياة في الخارج, وعن عالم القصيدة قبل هذا كله.
وأخيراً؛ فقد بقي أن أقول: إنَّ الشعر أهلكني، ولم أهلكه, ولم يعد هناك مناص من الترجل عن هذا الجواد المتقد الحوافز والعينين, فإنه يبدو أنَّ هذا الجرح هو الجرح الأخير".
* * *
أجل! إنه (عبده بدوي) الذي كان يعتقد أنَّ (الشعر) مقياس حضارات الشعوب والأمم، وأنَّ "الشاعر" أمين سر الحياة، والحارس لحقوق الفقراء! من أجل ذلك؛ أمطر الأرض بدواوينه المدهشة، منها: شعبي المنتصر، باقة نور، الحب والموت، الأرض العالية، لا مكان للقمر، كلمات غضبى، محمَّد صلى الله عليه وسلم، السيف والوردة، دقات فوق الليل، ثم يخضر الشجر، الجرح الأخير، هجرة شاعر، الغربة والاغتراب والشعر!
إنه (عبده بدوي) الأستاذ الكبير؛ الذي زلزل قاعات المحاضرات بالجامعات التي عمل بها، بدءاً من جامعة عين شمس, مروراً بجامعة الخرطوم، وأم درمان, فالامارات, ثمَّ الكويت ... وقد صنع من تلامذته جيلاً من الشعراء، والنقاد، والكتَّاب، والأساتذة .. والفلاسفة أيضاً!
إنه (عبده بدوي) الأديب الموسوعي؛ الذي ألَّف الكتب الإستثنائية، مثل: الشِّعر والشعراء، الشعراء السود، أبو تمام وقضية التجديد في الشعر، دراسات في النص الشعري، قضايا حول الشعر، العقاد وقضية الشعر، طه حسين وقضية الشعر، شعر إسماعيل صبري، التقاء الشعر بالعمارة، نظرات في الشعر العربي، نظرات في الشعر الحديث.
إنه (عبده بدوي) حارس لغة الضاد؛ التي دافع عنها دفاعاً مستميتاً، وكتبه في هذا الميدان لا تخطئها العين، منها: في آفاق العربية، في الأدب واللغة، أهمية تعلم اللغة العربية.
إنه (عبده بدوي) عاشق الحضارة الإسلامية؛ لدرجة أنك عندما تستمع له، أوْ تقرأ له في هذا المجال، كأنك أمام الدكتور/ حسين مؤنس، أوْ أحمد شلبي، أوْ عبد الحليم عويس! وكتبه عن الحضارة لا تخطئها العين، أهمها: دول إسلامية، أفكار حول الإسلام، أعلام الإسلام، حضارتنا بين العراقة والتفتح، شعراء حول الرسول!
إنه (عبده بدوي) عاشق أفريقيا؛ والعليم بأسرار القارة السمراء، والمحيط بأدغالها وكهوفها، وقد ظهر ذلك جلياً في عدد من مؤلفاته بدءاً من رسالته للماجستير (الشعراء السود وخصائصهم الشعرية) ثمَّ رسالته للدكتوراه (الشعر الحديث في السودان) وعمله بالتدريس في جامعتي أم درمان، والخرطوم، وبعد ذلك عمله مديراً لتحرير مجلة (نهضة إفريقيا) التي أصدرتها وزارة الثقافة المصرية، كما أصدر عدة كتب تدرس معالم الحضارة الإسلامية في إفريقيا، وتقدم صوراً عن طبيعة شعوبها، وزعمائها، ومدنها، فأصدر "مع حركة الإسلام في إفريقيا"، و"دول إسلامية في الشمال الإفريقي"، و"حكايات إفريقية"، و"مدن إفريقية"، و"شخصيات إفريقية". ليس هذا فحسب؛ بلْ امتدَّ اهتمامه بأفريقيا إلى كثير من قصائده الشعرية، وتعد أوبرا "الأرض العالية" التي تعالج مشكلة الأرض في كينيا؛ من أهم أعماله الشعرية في الطرح الإفريقي درامياً.
إنه (عبده بدوي) ترجمان أفكار الأديب الحضرمي/ علي أحمد باكثير، وراويته الحصري، وصديقه الأكبر، ومؤلف أفضل كتاب عنه حتى الآن، وهو: (باكثير شاعراً غنائياً).
ذات مرة؛ قال لي الدكتور/ عبده بدوي: عندما نشر باكثير مسرحيته "حبل الغسيل" تآمر عليه الماركسيون، وتكالب عليه الشيوعيون؛ فقال لي: يا عبده؛ لأنْ أرعى الغنم في حضرموت؛ أحبّ إليَّ من أنْ أعيش محاصراً في مصر!!
إنه (عبده بدوي) الناقد الأدبي؛ صاحب اللغة الشاعرة، والبيان الرائع، استمع إليه وهو يتحدث عن (شاعر الكوخ) فيقول: (لابدَّ أن تُذكَر تلك الرعشة التي أدخلها على الشِّعر العربي! لأنه أدخل تركيبة جديدة في الشعر العربي، حين جرَّد بصفة حاسمة المحسوس، وجسد غير المحسوس، وأفاد من خصائص المدرسة الرمزية، وأصبحت القصيدة عنده سلسلة من الانفجارات المضيئة، تظل تشتعل ببطء في صميم القصيدة، حتى يزدهر النور تماماً في آخرها ... إنَّ شِعر محمود حسن إسماعيل كبيوت العبادة تحتوي الإنسان احتواء شديدا، ثم تمتص قواه، وتحوله إلى عالم نقي، فهو لا يقابلك إنساناً بسيطاً أوْ إنسانا متحذلقا، وإنما يقابلك في شِعره كالساحر الإفريقي حين يرتدي قناعًا وخرزًا وريشا، ومن حوله الصيحات والطبول والغرابة، وهكذا يبدو إنساناً متميزا، ويبدو شِعره كنوع من الموسيقى لم تُعزَف من قبل)!
يقول عبده بدوي في قصيدة عنوانها "مخاطرة":
قلت: ماذا لو خرجت الآن من جسمي العليل
ذلك المنساب في هذا السرير المستحيل
فهو قد صار ضعيفا, مستباحا
وهو قد صار أنينا وجراحا!
***
قلت: أجفوه, لأعدو بين وردة
كلما مدت جناحا
أو أراني لابساً جسم الفراشة
حينما تجتاز ساحا
أو أراني في غزال تحت دوحة
مد عنقا واستراحا!
***
ثم إني حينما عدت حزينا لسريري
لم أجد جسمي المسجى, أين راحا؟
يا تري ماذا سيفعل؟
كل من يبغي النواحا
كل من أمسك سرا
في عياء, ثم باحا
أيها الموغل في ليل المنايا
عِم صباحا .. عم صباحا
ويقول هاتفاً من السودان, متغنياً بما يربط بين شعبي وادي النيل:
بلادي, يا روابي الماس, طافية علي النهر
علي أبوابك القمراء تورق دوحة السمر
وليلك ملعب نجري, ونقذف فيه بالقمر
وتحت ظلالك الوطفاء أطفال من الزهر
وشعب شامخ التاريخ, منحوت من القدر
يمس بكفه البيضاء في رفق على البشر
فيعتنق السلام الأخضر المهتز في الشجر!
لكن الغزو العراقي للكويت، وما تبعه من زلازل، وانكسارات، وهزائم تترى؛ جعله يقول:
هذا عصر الإنسان المخطوف اللون
والمشجوج القلب
والنازف طول العمر
والمستدعي من أحلامه
كيما يثقب
برصاص مابين العينين ودون القلب
كما قاده إلى أن يدمغ العصر كله بهذه الكلمات:
هذا عصر الإنسان الجائع
والأم الباكية الثكلى من هول الحرب
والطفل اللاقم ثدياً مقطوع الحلمة
والجندي المقسوم النصفين
والتلميذ اللاهي بالحكمة
والشيخ المفقود العكاز
والميت من قبل الحكم
وبنات لم تعرف أبداً طعم الحب
والصدر المعتصر الثديين
ليوفر نصف رغيف اليوم!
رحم الله؛ "أوفى تلامذة العقاد" الأديب الأشم/ عبده بدوي(1927- 2005م) بلبل النيل، وكروان أفريقيا، وعنوان الشعر العربي، وضمير الحضارة الإسلامية ... الذي صعدتْ روحه إلى جنة الخلد، وهو يشدو بالبيان الإلهي: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، إنَّ الله يفعلُ ما يريد}!