السنة النبوية التشريعية والعادية على ضوء مقاصد الشريعة 24

الرابع والعشرون:

السنة النبوية التشريعية والعادية

على ضوء مقاصد الشريعة

د. موسى الإبراهيم

[email protected]

لاشك أن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهي المنهج العملي والأسوة السلوكية لمفاهيم الإسلام، وهي الشرح والبيان والتفسير لكتاب الله تعالى، فلا يتصور فهم القرآن الكريم بعيداً عن السنة النبوية، ولا يمكن لمسلم أن يجد المثل الأعلى للقيم والفضائل والمكارم والأخلاق الخاصة والعامة إلا بالعودة إلى السنة النبوية الشريفة أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً وأوصافاً مأثورة عن المثل الأعلى في الكمال البشري سيدنا ونبينا محمد رسول الله %.

قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}.

وقال تعالى:{وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.

وقال تعالى:{ومن يطع الرسول فقد أطاع الله}.

وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.

وقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى}.

وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.

كل هذه المعاني يجب ألا تغيب عن فكر المسلم وعقله وهو يحاول فهم هذا الدين ويتخذ منه منهجاً علمياً لحياته و مسيرته وأخلاقياته.

ولكن لابد مع هذا من ملاحظة الفهم المقاصدي لنصوص الوحي وللمأثور من سنة النبي الكريم %. الفهم الذي لا يجمد على ظاهر النص ولا يعزله عن سياقه ولا يجرده من بيئته وحيثياته الفهم الذي يستوعب ظاهر النص وروحه ومقصده بآن واحد.

إننا يوم نفعل ذلك نكون على الجادة والمنهج القويم في فهم هذا الدين ونأخذ ونعطي التصور الأمثل لسنة النبي % وسيرته.

أما التعاطي القاصر مع النصوص والنظرة السطحية السريعة للسنة دون إدراك لأبعادها وروحها ومقصدها فقد يحدث تشوهاً ومغالطات في الفهم ويؤدي بالتالي إلى إعطاء صورة عن هذا الدين لا تتناسب مع عظمته وربانيته وقدسيته.

ومن هنا فقد قسم علماؤنا السنة النبوية الشريفة إلى أقسام عدة بحسب مدلولاتها وسياقاتها وحيثيات ورودها عن النبي المعصوم % وأشير هنا بإلماحة سريعة إلى ما يوضح ويجلي هذه القضية بالقدر الذي يحتاج إليه في فقه الدعوة الإسلامية:

أولاً: السنة التشريعية

وهي كل ما صح عن النبي % من أقواله وأفعاله وتقريراته إذا وردت على سبيل البيان والتبليغ فهذه مرجعية تشريعية يجب على المسلم أن يستهدي بها ويجعلها منارات له في سيرته وسلوكه وأخلاقه، وهي بحسب مدلولاتها تأخذ موقعها من منظومة الأحكام الشرعية اقتضاء أو تخييراً حظراً أو إباحة حسب ضوابط فهم النصوص التي تكفل ببيانها علم أصول الفقه الإسلامي.

ثانياً: السنة العادية

وهي ما فعله النبي % أو قاله بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية، أو حلاً لمشكلة عينية لها ظروفها الخاصة التي قد لا تتكرر، أو ما أبداه من رأي في الأمور المعاشية، أو الأمور السياسية التي تعالج ظروفاً واقعية محددة، أو ما فعله رسول الله % بصفة كونه قائداً عسكرياً للأمة، وزعيماً يسوس رعيته بما يحقق لها مصالحها الحياتية، ويحمي أمنها ويرد العدوان عن حياضها.

كل هذه المعاني تكون السنة النبوية فيها تصرفات ليست من باب التشريع الواجب الاتباع بل من باب الفعل أو القول الجاري مجاري العادات أو العمل الذي يقتضيه الحال القائم يومها حلاً لإشكال أو تسييراً لأمور الأمة وتصريفاً لمجريات سياساتها العامة وبالتالي فهي أحوال يهتدى بها ويستأنس بها، ولكنها ليست تشريعاً ملزماً للأمة لا يسع أحد تركها أو التصرف بما يخالفها وليس هذا تقليلاً من شأنها ـ معاذ الله ـ ولكنه الفهم الراشد الذي يفقهه الربانيون من العلماء، الذين يحيطون بأسرار الشريعة ويضعون كل شيء من أحكامها في مكانه الطبيعي الذي يحافظ على كمالها ومثاليتها وقدسيتها.

وليس هذا الذي أشير إليه بدعاً من القول وإن استغربه بادئ الرأي، ولذلك سوف أسوق شواهد مما قاله أئمة من العلماء الربانيين في هذا السياق تأييداً وتأكيداً لهذه البدهية في فهم السنة النبوية الشريفة.

ثالثاً: مذاهب العلماء في أنواع السنة وأقسامها

1- الإمام النووي رحمه الله ورأيه في الموضوع.

جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله ما نصه:

باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.

قال الإمام النووي رحمه الله بعد هذه الترجمة: فيه حديث أبار النخل وأنه % قال: ما أظن يغني ذلك شيئاً. فخرج شيصاً فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتك عن الله فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. وفي رواية: أنتم أعلم بأمر دنياكم. قال العلماء ـ والكلام للإمام النووي ـ قوله % : >من رأيي< أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع. فأما ما قاله باجتهاده % ورآه شرعاً يجب العمل به. وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله... إلى أن قال: قالوا: رأيه % في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع هذا، ولا نقص في ذلك وسبيله تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم([1]).

2- الإمام شاه ولي الله الدهلوي رحمه الله ورأيه في الموضوع.

قال الإمام الدهلوي رحمه الله في كتابه القيم حجة الله البالغة ما نصه:

باب أقسام علوم النبي %.

إعلم أن ما ورد عن النبي % ودُوّن في كتب الحديث على قسمين:

أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة وفيه قوله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...}

وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة. وفيه قوله %: >إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر<.

وقوله % في قصة تأبير النحل: >فإني إنما ظننت ظناً ولا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لم أكذب على الله<.

فمنه الطب. ومنه باب قوله % >عليكم بالأدهم الأقرح<. ومستنده التجربة.

ومنه ما فعله % على سبيل العادة وبحسب الاتفاق دون القصد.

ومنه ما ذكره كما كان يذكر قومه كحديث أم زرع....

ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذٍ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبية الجيوش وتعيين الشعار...

ومنه حكم وقضاء خاص وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان([2])...

3- الإمام القرافي رحمه الله ورأيه في الموضوع.

 قال الإمام القرافي رحمه الله: وأما تصرفه % بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء. لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط مقاعد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. وليس هذا داخلاً في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة. [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص 105]

4- الإمام الشوكاني رحمه الله ورأيه في الموضوع.

قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول ص 238-313: وأجمعوا على أنه يجوز للأنبياء صلوات الله عليهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها... ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة: إذ لا قطع بأن ما يكون اجتهاداً هو حكم الله تعالى في تلك المسألة يكون الاجتهاد محتملاً للإصابة ومحتملاً للخطأ. كيف وقد صرح % بقوله: >وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر<.

5- الإمام الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله ورأيه في الموضوع.

قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله في كتابه أصول الفقه ص114-115:

لقد قسم العلماء أفعال النبي % إلى ثلاثة أقسام:

أولها: أعمال تتصل ببيان الشريعة... فإن هذا النوع يكون تشريعاً متبعاً.

الثاني: أفعال من النبي % قام الدليل على أنها خاصة به...

الثالث: أعمال يعملها بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية في بلاد العرب كلبسه % وأكله وما كان يتناوله من حلال وطرق تناوله.. فهذه أفعال كان يتولاها بمقتضى البشرية والطبيعة الإنسانية وعادات قومه.

وأكتفي بهذا القدر آملاً  ملاحظة هذا المعنى في فهم الشريعة وفقه الدعوة لدين الله تعالى وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

               

([1]) اهـ ج5 مجلد 8 ص116

([2]) [حجة الله البالغة ج1 ص371-373]