النداء الحادي والخمسون

رضوان سلمان حمدان

[امنعُوا المشركين من دخول المسجد الحرام]

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } التوبة28- مدنية.

المعاني المفردة([1])

نَجَسٌ: النَّجَسُ والنَّجِسُ والنَّجُسُ والنَّجْسُ والنِّجْسُ: ضدُّ الطاهِر، والنَّجاسَة: ضِد الطَّهارة، قال الله تعالى: (إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ)، وقُرِئَ (نَجْس) بِسكون الجيم مع فَتْحَة النون، وقرأَ الضَّحّاك: (نَجِسٌ). ونجس: خبيث فاجر. تنجس الشئ: صار نجساً: تلطخ بالقذر. وفلان نجس: أي خبيث فاجر. وهم نجس، وأنجاس. النَّجِسُ : الشيءُ القَذِرُ حتى من الناسِ وكُلِّ شيءٍ قَذِرْته فهو نَجَسٌ. وفي اصطلاح الفقهاء: عين النجاسة. أما النجس فهو مالا يكون طاهراً. (ابن عابدين) النجس: ما لا يكون طاهراً. و (نجس) صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية.

عَيْلَةً: يقال عال الرجل يعيل عَيْلَة إذا افتقر قال الله عز وجل ( وإنْ خِفْتُم عَيْلَة ً فسوفَ يغنيكم الله من فضلِهِ ). وقال الشاعر ( وما يدري الفقيرُ متى غِناهُ ,., وما يدري الغَنِيُّ متى يَعِيلُ ) معناه متى يفتقر. ومنه حديث سعد [ خَيْرٌ منْ أنْ تَتْرُكَهُم عَالَةً يَتكَفَّفُون الناسَ ]. أبو عبيد عن الأصمعي: ويقال ترك يتامى عَيْلَى، أي فقراء. وواحد العيال عيّل ويجمع عيائل والعيّل يقع على الواحد والجميع، أنشد ابن الأعرابيّ: إليك أشكو عَرْق دهر ذي خبلْ ... وعيّلاً شعثاً صغاراً كالحجل. فجعله جماعة.

الإعراب

{إِنَّمَا} كافة ومكفوفة. {الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} مبتدأ وخبر والجملة ابتدائية. {فَلا يَقْرَبُوا} مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل. ولا ناهية جازمة، والفاء قبلها هي الفصيحة. {الْمَسْجِدَ} مفعول به. {الْحَرامَ} صفة. {بَعْدَ} ظرف زمان متعلق بالفعل. {عامِهِمْ} مضاف إليه والهاء في محل جر بالإضافة. {هذا} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة ، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر. {وَإِنْ} الواو استئنافية. {إِنْ} شرطية جازمة. {خِفْتُمْ عَيْلَةً} فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل المتحركة، والتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل والميم لجمع الذكور وعيلة مفعوله، والفعل في محل جزم فعل الشرط، وجملة فعل الشرط ابتدائية. {فَسَوْفَ} حرف استقبال والفاء رابطة لجواب الشرط. {يُغْنِيكُمُ} مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء للثقل. والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. والميم لجمع الذكور. {اللَّهُ} لفظ الجلالة فاعل. {مِنْ فَضْلِهِ} متعلقان بالفعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط. {إِنْ} حرف شرط جازم. {شاءَ} فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إن ولفظ الجلالة اسمها وعليم حكيم خبراها والجملة مستأنفة.

أسباب النزول

أخرج ابن أبي حاتم عن أبن عباس قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه فلما نهوا عن أن يأتوا البيت قال المسلمون من أين لنا الطعام فأنزل الله {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله}, وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} شق ذلك على المسلمين وقالوا من يأتينا بالطعام وبالمتاع فأنزل الله {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله}.

في ظلال النداء([2])

إنما المشركون نجس. يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون! وهو النجس المعنوي لا الحسي

في الحقيقة، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها. إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم.

{نجس. فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.. وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصبّ النهي على مجرد القرب منه، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور!

ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة.. إنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة.. نعم! ولكنها العقيدة. والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة! وبعد ذلك، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء}.. وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب؛ وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب.. {إن الله عليم حكيم}.. يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة، وعن تقدير وحساب . .

هداية وتدبر([3])

1.  قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نَجَس. فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة، وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر، وهي سنة تسع من الهجرة، وإن خفتم فاقَةً وفقرًا، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء). فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله. (إن الله عليم)، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام، وغير ذلك من مصالح عباده (حكيم)، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.

2.     أَول سورة براءَة إِلى قوله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} خطاب لمشركى مكَّة والسُّورة مدنية.

3.     وهذا نهْى، والمعنى لا تُمَكِّنوهُم من الدُّخول.

4.  قال االقاسمي في محاسن التأويل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي: ذوو نجس، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، هو مجاز عن خبث الباطن، وفساد العقيدة، مستعار لذلك، أو هو حقيقة، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها.

5.  ليس نجس إلا ما ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح بإثبات نجاسته فنقول به في هذا الشيء بعينه ويبقى ما عداه على أصل الطهارة ولا يطلب الدليل.

6.     إن دليل التحريم لا يستفاد منه النجاسة، ودليل النجاسة يستفاد منه التحريم.

7.  النجاسة في هذا النص يراد بها النجاسة المعنوية لا الحسية. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال قال "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد" قد كان كافراً، فلو أن الكافر نجس العين لوجب تجنيبه المسجد لأن المسجد لا يجوز تدنيسه بشيء من النجاسات فلما ربطه النبي صلى الله عليه وسلم بسارية من سواري المسجد مع أمره بتزيين المساجد عن النجاسات دل ذلك على طهارة ثمامة، فاستفدنا من ذلك طهارة أعيان الكفار. وروى ابن ماجه من أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف المسجد فقيل يا رسول الله إنهم قوم أنجاس فقال عليه الصلاة والسلام "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم" والمراد بالنجاسة التي على أنفسهم نجاسة.

8.  {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أي: بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، حين أمّر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الموسم، ثم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما، لينادي في المشركين: "ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". فأتم الله ذلك، وحكم به شرعاً وقدراً.

9.  الفضل المذكور في الآية مطلق، يشمل كل ما أغناهم الله به، وهو الأصح، وقيل: المراد به حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء وحنين، فإنه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين. وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء.

10.    لا يقولن أحدٌ إن العمل الباطل الحرام هو مصدر رزقي، ولن أستطيع العيش لو تركته سواء كان تلحيناً أو عزفاً أو تأليفاً للأغاني الخليعة، أو الرقص، أو نحت التماثيل. نقول له: لا، لا تجعل هذا مصدراً لرزقك والله يقول لك: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}. وأنت عندما تتقي الله، فهو سبحانه يجعل لك مخرجاً. {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}، وعليك أن تترك كل عمل فيه معصية لله وانظر إلى يد الله الممدودة لك بخيره.

11.    بلاد الإسلام بالنسبة لدخول الكفار إليها وإقامتهم فيها ثلاثة أقسام: الأول- الحرم المكي: يمنع الكافر من دخول الحرم المكي وهو قول الشافعية والحنابلة، عملا بظاهر الآية، فلا يسمح لكافر بدخول الحرم، ولو كان حاملا رسالة، وإنما يخرج إليه الإمام أو نائبه خارج الحرم ليسمع رسالته. وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام بأمان لمدة ثلاثة أيام، أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام. وأباح أبو حنيفة أيضاً للكافر دخول الحرم بإذن الإمام أو نائبه ، ثلاثة أيام بلياليها. الثاني- الحجاز: وهو ما بين عدن إلى حدود العراق طولاً، وما بين جدّه وما والاها من ساحل البحر إلى حدود الشام عرضاً. يجوز للكافر دخولها بالإذن لمدة ثلاثة أيام فقط. روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلما» وفي رواية لمسلم: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». والمراد من جزيرة العرب في رأي الشافعية والحنابلة هو الحجاز خاصة، كما حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز» ولفعل عمر رضي اللّه عنه فيما رواه البخاري والبيهقي، حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب. ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم الحديث السابق عن ابن عمر، وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وما أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري مرسلاً: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب». الثالث- سائر بلاد الإسلام: يجوز للكافر أن يقيم فيها بأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن المسلم، فيجوز للكافر دخول المسجد واللبث فيه، وإن كان جنباً، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده صلّى اللّه عليه وآله وسلم، ولا شك أن فيهم الجنب، وقد ترجم البخاري: دخول المشرك المسجد.

12.    ذكروا في تفسير الفضل وجوهاً: الأول- قال مقاتل أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار. والثاني- قال الحسن جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك وقيل أغناهم بالفيء. الثالث- قال عكرمة أنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم.

لطائف

13.            {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}: على المبالغة، جُعِلوا نفسَ النَّجَس.

14.    قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أى هم بمنزلة النجس أو كالنجس، لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله، جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في الوصف على حد قولهم: علي أسد أى كالأسد.

15.    قال ابن الجوزى: وقيل: إنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة. وقيل: إنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس. وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح، هكذا قال ابن الجوزى.

16.    قال الألوسي في روح المعاني: والإشارة في قوله تعالى: إنما المشركون نجس الخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس إلا المقدس.

17.    {انما المشركون نجس} الصيغة لافادة الحصر واللفظ فيه تشبيه بليغ أى كالنجس في خبث الباطن وخبث الاعتقاد، حذفت منه اداة الشبه ووجه الشبه فاصبح بليغاً ومثله {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} أى كالارباب في طاعتهم وامتثال اوامرهم في التحريم والتحليل.

18.    {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ} عبر عن الدخول بالقرب للمبالغة في النهى. لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض، وها هنا يخاف سريان الظلمات في العموم.

19.    لما أراد الله تعالى أن يُنهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم، وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم التجارة والحج. لذلك قال بعدها مباشرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...} فساعةَ يقرأونها في التشريع يعلمون أن الله اطَّلع على ما في نفوسهم، وجاءهم بالردِّ عليه حتى لا يتكلموا به، وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس، فلا ينزعك من شيء تخافه إلا ومع التشريع ما يُذهِب هذه المخاوف.

20.    النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أن المؤمن طاهر ليس بنجس. لذا كان مذهب المالكية والحنابلة: إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، وقال الشافعي: أحب إلي أن يغتسل.

21.    في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بأسباب الرزق جائز، ولا ينافي ذلك التوكل، وإن كان الرزق مقدراً، وأمر الله وقسمه مفعولا، ولكنه علقه بالأسباب، لحمل الناس على العمل، والسبب لا ينافي التوكل، بدليل ما أخرج البخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: « لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً » فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يعارضه الغدو والرواح في طلب الرزق. وقوله تعالى: إِنْ شاءَ يدل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو فضل من الله تعالى تولى قسمته، وذلك في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا..}[الزخرف 43/ 32].

22.    المراد من المسجد الحرام هو جميع الحرم والدليل عليه قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم، وهذا استدلال حسن من الآية ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى}الإسراء1. مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء، وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».

23.    قوله تعالى {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة.

24.    الغرض بالخبر في قوله تعالى {إِن شَاء} إزالة الخوف بالعيلة وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود، وجوابه من وجوه: الأول- أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات. الثاني- أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ}. الثالث- أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ}البقرة 126. وكلمة (من) تفيد التبعيض، فقوله تعالى في هذه الآية إِن شَاء المراد منه ذلك التبعيض.

25.    صيغة الحصر في قوله: {إنما المشركون نجس} لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية. ووصف (العام) باسم الإشارة {عَامِهِمْ هَذَا} لزيادة تمييزه وبيانه.

               

[1] . العباب الزاخر. القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً. كتاب العين: الفراهيدي. الزاهر فى معانى كلمات الناس. المحكم والمحيط الأعظم: ابن سيده. تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري. التحرير والتنوير.

[2] . في ظلال القرآن.

[3] . انظر: تفسير الطبري. إتحاف النبهاء بضوابط الفقهاء. الدر المصون في علم الكتاب المكنون. المعنى القرآنى فى ضوء اختلاف القراءات. صفوة التفاسير. محاسن التأويل. تفسير الشعراوي. التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج. مفاتيح الغيب.