10 سنوات على رحيل إمام المرشدية
جمال باروت
تعتبر المرشدية في منظور تاريخ الأديان أحدث دين في القرن ال 20. ويتبع هذا الدين بضع مئات من الألوف في سوريا. وترتد جذوره إلى المذهبية «الغيبية» في المذهب العلوي الإسلامي التي تعتبر أحد المذاهب «الفقهية» التاريخية الأربع التي أفرزها تطور ذلك المذهب، غير أنها بوصفها دينا قائما في حد ذاته ومستقلا عن المذهب العلوي ترتبط بالدعوة الدينية التي أطلقها مجيب بن سلمان المرشد (1930-1952) في 25 أغسطس 1951 في ظروف المحنة الكبرى التي تعرضت لها عائلته بشكل خاص وأتباع والده سلمان المرشد (1909-1946).
كان سلمان المرشد الملقب في الحوليات الشفوية ب «الصبي» ثم ب «الأفندي» قد أطلق من أعلى نقطة في جبل العلويين وهو في ال 16 من عمره ما يعرف ب «صيحة سلمان» التي بشر فيها بقرب ظهور المهدي المنتظر ل «يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا».
لم يكن هذا «المهدي» الذي وعد سلمان بقرب ظهوره في فهم من سيطلق عليهم اسم «المرشديين» سوى ابنه الأصغر-مجيب المرشد- الذي أمضى سنوات نفيه الثلاثة التي حكم عليه بها المجلس العدلي الاستثنائي في عام 1946، والتحق بالجامعة الأميركية في بيروت، ليقطع دراسته فيها ويعود إلى منطقة الغاب ليطلق في 25 أغسطس 1951 بشكل سري ما يسمى مرشديا بالدعوة إلى «المعرفة الجديدة» لله. وهو اليوم الذي لا يزال المرشديون يحتفلون به دينيا كل سنة، ويسمونه ب «عيد الفرح بالله»، ويعتبر عيدهم الديني الوحيد.
لقد شقت الدعوة التي أطلقها مجيب صفوف العائلات في المنطقة، وأثار انتشارها فزع سلطات العقيد أديب الشيشكلي، حيث قام عبدالحق شحادة قائد الشرطة العسكرية يومئذ بقتله في قرية «الصير» في منطقة الغاب في وسط سورية في 27 نوفمبر 1952، موصيا باتباع شقيقه الأكبر ساجي بوصفه «المعلم والإمام» من بعده.
يبدأ دور ساجي في إمامة «الدعوة» من هذه النقطة، حيث يقوم فعليا وبشكل سري بإعادة تنظيم الدعوة أو الحركة كما يطلق عليها على قاعدة أن مجيب «قدس الله ومنجاته». ومع ساجي تبدأ صفحة مجهولة أو مسكوت عنها بشكل تام في التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي السوري الحديث في النصف الثاني من القرن ال 20، وترتبط ارتباطا كبيرا بهذا التاريخ، وتسلط الضوء على جوانب مجهولة منه.
تولى ساجي إمامة الحركة-الدعوة في بدء دخولها في طور المحنة الكبرى التي بدأت مع قتل مجيب ورحل في عام 1998 وقد تمكن من رفع هذه المحنة عنها وخروجها منها باتجاه الاندماج الاجتماعي والسياسي بالمجتمع السوري. في تاريخ «إمامته» أبرز الإمام المرشدي مهارات تنظيمية وقيادية وسياسية مبهرة، وظفها ساجي بكل سلطته الدينية المطلقة لتدعيم الدعوة وتصليب استقلاليتها ورفع المحنة عنها. وأعاد هيكلة مناطق الدعوة وفق نظام تراتبي هرمي يتوسط فيه من أطلق عليهم اسم «المتسلمون» بين المؤمنين ب «المعرفة الجديدة» وبينه بوصفه إماما لهم. تاريخ الإمام المرشدي كان تاريخ صراع شاق طيلة حياته. انخرط في الصراع السياسي الذي وصل إلى أوجه في عام 1957 ضد ما سمي ب «المؤامرة الأميركية» على سوريا، وأحبط بعض حلقاتها مقابل رفع الحصار عن القرى المرشدية، وتوقف سياسات اضطهادهم. وكان ذلك لرفع الاضطهاد عن المرشديين وليس لموقف سياسي.
ثم اصطدم مع سلطات الانفصال التي اعتقلته مع أركان الدعوة-الحركة. وللحيلولة دون سيطرة حزب البعث سياسيا على المرشديين دخل في صراع ضار مع الحزب في منطقته في الخمسينيات، وأسقط مرشح البعث لصالح مرشحه. وواجه البعث في البرلمان كما في الشارع. وظلت علاقته مع البعث شديدة التوتر إلى عام 1970 حين رفع الرئيس السوري حافظ الأسد سياسات التمييز ضدهم، ومقابل ذلك منح الإمام المرشدي الرئيس السوري الراحل ولاء شخصيا.
وأثبت مصداقية هذا الولاء حين تمكن بمجرد توجيه منه إلى العسكريين المرشديين في سرايا الدفاع بإحباط محاولة انقلاب العميد رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع في مارس 1984 والذي وجد سلاحه دون دبابات وطواقم بحكم أن معظمهم مرشديون، فقام بنفيهم إلى الخطوط الأمامية في الجبهة، لكن انقلابه كان قد أحبط نهائيا. وسيأتي يوم أنشر فيه المجريات الدقيقة لهذا الحدث ودور المرشديين فيه. خروج المرشديين من مرحلة المحنة الكبرى أدى بساجي إلى التحول من عزلة المرشديين إلى سياسة دمجهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
أعطى المرشديين حق الانتساب إلى الأحزاب وفق خيارهم. وقام بتحرير المرأة وإنجاز ثورة «حداثة» في بيئة المرأة المرشدية على قاعدة حقوقها الكاملة المتساوية مع الرجل. وكان الحدث الأكبر هو قيامه بالخطوة الأخطر وهي مانسميه ب «علمنة الدين»، فاستنادا إلى العقيدة المرشدية التي بلورها ساجي والتي تفصل بين «الدين والدنيا» وتنكر أي اختلاط بينهما، قام بتحطيم ما يمكن تسميته بسلطة الإكليروس المرشدي وهم من يسمون مرشديا ب «المتسلمين»، وجعل بضربة واحدة الدين الجديد خاليا من أي سلطة دينية، ورحل في عام 1998 من دون أن يوصي لأحد أن يخلفه، ناقلا المرشديين من العزلة التي فرضتها اضطهادات المرحلة الكبرى إلى الاندماج.