الوعي العربي المعاصر والثقافة الشعبية
لولوة غازي
باحثة فلسطينية
لا شك أن مجتمعاتنا العربية تستحق حياة أفضل بكثير من الحياة التي تحياها اليوم وكل يوم , وحتى ثورات الربيع العربي التي قامت لن تؤت بثمارها المطلوبة إلا بعد تكوين ثقافة عقلية تساعدها على التفكير الإجتماعي والسياسي المنطقي السليم ,بعيدا كل البعد عن تلك الهيمنة التقليدية للشعارات والإيدلوجيات التي تخدر الشعوب وتتخمهم بالانجازات الماضي السحيق , والتي تخفي معها بالضرورة عيوب الواقع المرير كانتشار الفساد السياسي بصوره المتعددة, وتراجع الحريات بأشكالها المفزعة ,
لتصل القضية الفلسطينية مثلا إلى طريقها المسدود هي وغيرها من القضايا السياسية العربية العادلة .
فهل نمتلك القدرة - كعقول عربية- على خلق هذا الوعي السياسي عند الناس وخاصة في تلك الفئات المتعلمة دون الدخول في فلسفة النظريات السياسية الغربية أوالتسفيه من الرأي الاخر وإزهاقه ؟ وهل سنستطيع التفكير بوعي ديني اسلامي آخر دون اللجوء إلى كتاب القرآن الكريم والتفسيرات البشرية ؟ بل وهل لدينا الحرية في إعادة التفكير والدراسة العلمية لتراثنا العربي والاسلامي وكشف الخرافات والأوهام التي تعج فيه وبيان جماله بجميع اللغات ؟
فمثلا سنجد الآن ما يطلق عليه بالوعي الديني في مجتمعاتنا العربية أصبح كالعقيدة مقدسة لا تقبل أية نقاش ممكن أو جدال وهذا ما أثبتته لنا ثورة الربيع العربي في سوريا وجماعة داعش ودولتهم الاسلامية المزعومة وأفعالهم المهينة للأسلام , و لهذا فالمنطق العملي الانساني السليم يطالبنا جميعا بدراسة وتحليل الوعي الديني في المجتمعات العربية المفككة وكيف أن وجود مايسمى بالوعي الديني دوما مرتبطا بهذه الايديولوجيات التراثية ومشاكل الناس وكوارثهم , لذلك تواجدت فئات تدعي أنها دينية تهرب هي وجماعتها من الواقع ومشكلاته , وتعيش في عالم خيالي مملوء بحور العين وبكل شيء لا يصدقه العقل من جماله وروعته أو فئة أخرى تهيمن وتسيطر على أفكار المحتاجين و تدعو إلى ثورات عشوائية هنا وهناك كما يحدث مثلا الآن في مدينة الخليل من دعس بالسيارات للمستوطنين أو عمليات فدائية داخل كنيسة يهودية بالقدس المحتلة . حتى الذي يسمى بالوعي التاريخي للتراث العربي الذي انتشرت فيه البطولات والأنا بكثرة , ماهو إلا وسيلة ناجحة لتسكين آلام الأمة دون تقديم أية حلول لتلك الجراح والمآسي التي تلف شعوبنا كل يوم , فهل بإمكاننا كبشر متعلمين أو مثقفين بناء وعي تاريخي حديث يتقبل وجود أخطاء ومثالب عديدة في تراثنا العربي, وعي تاريخي نحترم فيه أنفسنا ونتوقف عن إضفاء هذه الهالات على تلك البطولات القديمة وهذه الاوهام التي قامت ولن يقام -في نظر المقدسين لها- بطولات بعدها ؟
لنجد نتائج ذلك تنعكس مباشرة على حياتنا السياسية عامة لتغلب عليها العاطفة بشكل غير متوقع ودائم ,نتائج ليست قائمة على العقل والتفكير بمشاكل الآخر والقدرة على الحرية والتعبير, حتى إننا نجد أن مازالت مجتمعاتنا تسخر من كلمة" فهمان" أو" فهيم" وتجعلها مرادفة للأنتقاص من الشخصية العربية , مع أن هذه الكلمة بالذات في الغرب وخاصة في فرنسا, نادرا ما يوصف بها الأشخاص , وإذا تم وصف أحدهم بها, فهو فخور جدا بما وصف به.
وسؤال آخر يفرض نفسه هنا أيضا : هل نمتلك القدرة كمجتمعات وأفراد عانت وتعاني من تهميشها وإقصائها عالميا على التقدم وألا نعيد قراءة الواقع بما يروق للمنطلقات والحجج العقائدية وأن نركز على قراءة واقعنا المتهالك بما يتفق مع تضخم مشاكل هذا الواقع المسكين ؟, بمعنى آخر هل سنتمكن من تقديم ما يسمى بالرؤية الجديدة التي تخصنا نحن كمجتمعات محافظة وتغير مفاهيمنا وليست قيمنا وتمنحنا فكرا يستجيب لكل هذه التغيرات العالمية السريعة ؟ لأن الأمر الطبيعي هو أن تتغير التحليلات والنظرات للأمور المحيطة بنا , فالتجارب الفردية تتطور وتنضج لتزدهر وتفيد من حولها وحتى الواقع العربي أو العالمي يتعقد لتتفاقم الأزمات والإنتهاكات التي لا حصر لها , لذا وجب خلق تلك المرونة وخلق جديد في الفكرالعام أولا مع إقصاء وحذف المقولة التي تحثنا على التقليد الاعمى والتي نجدها في كل كتاب تراثي وهي: ( وكل خير في إتباع من سلف , وكل شر في إبتداع من خلف )
حتى المشاريع الفكرية كالقومية واليسارية والإشتراكية , قد فقدت قيمتها الواقعية لأنها ماهي الا أحلام جميلة في عقول أصحابها ومعتنقيها فقط , لم تفكر بمشكلة الفساد والطائفية والفقر والبطالة الواقعة والحاصلة في مجتمعاتها , بل كانت تحيط نفسها بالكلمات الوطنية والشعور العاطفي والخطابات الحماسية , , وأن كتب لها الانتشار فهو لفترة زمنية محدودة كعلاج مخدر يريح النفس العربية ولا يحل المشاكل المتضخمة , مشاريع حديثة لم تستخدم المنهج النقدي السليم , فمبادئها في نظرها ما هي إلا مسلمات غير قابلة للحوار والنقاش, والرأي الاخر المضاد هو رأي خائن وعميل يستحق السحق أو الاهمال .
والذي نتوقعه جميعا كشعوب بعد هذا الكلام أننا لسنا بحاجة إلى دروس وخطبات وطنية عن الاخلاق والدين , شعوبنا الكادحة في أشد الحاجة إلى حكومة سياسية تعطيها حقوقها الإنسانية ولا تبخل عليها , تكثر من أجلها المعاهد والبحوث والتعليم , بحاجة دائمة إلى دخل شهري جيد يمنع مواطنيها من اللجوء الى الفساد وأمراضه الاجتماعية المدمرة, بحاجة أيضا وبشكل ملح الى ظروف سياسية عادلة تحمي الوجود الديني ومعتقداته واعتباره حرا في مجتمعه يؤمن بما يريد, دون سجن وقهر وتعذيب كما يحدث في مصر .
وهو ما يجرنا للحديث عن تلك الثقافة الشعبية التي تختار من الدين والتاريخ والتراث كل ما يروق لها ويخدم وجودها ومصالحها الفردية وتتغاضى عن حاجات الآخرين وآمالهم في العيش الكريم ,
وثقافة كالثقافة الشعبية مثلا تطمس كل تفكير عقلي وتطالب الجميع بالحياة البسيطة والبعيدة عن أي إبتكار أو مشاركة عالمية فعالة بحجة صون الهوية والكرامة , فالفقير عند هذه الثقافة هو غني النفس والغني نصيبه وقدره أن يكون ثريا.
فمن منا يعرف عن أعمال الأكاديمي الفرنسي المعاصر (جوالين سالينج) المدرس بجامعة السوربون الثامنة وخدمته للقضية الفلسطينية ودفاعه عنها من خلال كتبه واستخدامه المنهج العلمي النقدي السياسي ومحاضراته في كل مكان في فرنسا من أجل توضيح ماهية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في العيش بكرامة , وكلامه بشكل عقلي ومبرهن من الواقع الفلسطيني الحزين مع ضحضه لكلام وسائل الاعلام المغرضة بدون أن يستخدم الشعارات الرنانة أو العاطفة وكتابيه المشهورين (البحث عن فلسطين : ماوراء سراب اوسلو) وكتابه ( إسرائيل دولة فصل عنصري) يفسران لنا عمليا ما قيل سابقا.
فهل قمنا نحن بالترجمة المسؤولة والمطلوبة لهذا النوع من الفكر كما دعا إليها محمد أركون في كتابه( أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ؟ ) ؟ الذي أكد بدوره على ضرورة نجاح مشروع الترجمة للفكر الاخر, حتى تقام بالضرورة نهضة عربية أكيدة, ولمذا لانكون كاليابان والتي تعد أكبر بلد مترجم في العالم لتصبح بعدها أكبر بلد ينافس الحضارة الغربية بأجمعها .
لهذا نريد لمجتمعاتنا النهوض والنهوض وعدم الخسران ونريد لشعوبنا مزيدا من الأمل في قضيانا وعدم الإنهزام كما أراد لنا المفكر الفلسطيني إدورد سعيد رحمه الله في مقاله (في القضايا الخاسرة).
إذا نريد وعيا جديدا ناضجا .