مطربةٌ بعشرة آلاف شاعر
رسالة مفتوحة إلى شعراء الاغتراب
وإلى الشاعرين محمد لقاح وبناصر جباري خاصة
عيسى ادريوشي
بعد حديث ذي شجون...
مطربة واحدة أخذت في ليلة واحدة مبلغ مليون درهم و750 ألف درهم، لأنها مطربة عربية فلم تنل ما نالت زميلة لها في الغناء أمريكية حين تعوجت ساعتين واخذت مبلغ 8ملايين درهم، مطربة أخرى غنت ساعة "كاملة" ورجعت بمبلغ 170 ألف درهم....وأخرى وأخرى وأخرى وأخرى ....ومغنون آخرون. كلهم حصلوا على مبالغ خيالية، طبعا لأنهم يصدحون بحنجرات ذهبية وكلمات لؤلؤية.... فعلى أي شيء يحصل الشعراء، الشعراء الذين لا يقدمون أي شيء ما عدا كلمات ورقية ليس لها أي معنى، إنهم يحصلون على "التقدير" و"الشهادات" و"الاعتراف" و"النشر" في الجرائد بصور ملونة، وحتى على "الأوسمة".... يحدث هذا في العالم العربي، في بلد اسمه المغرب، طبعا لن نتحدث عن أجور "الفنانات المختلفات" المحترمات طبعا في مصر الكنانة، مصر احمد شوقي وحافظ إبراهيم....أخبرني احد الشعراء المغاربة انه شارك ذات يوم في مهرجان شعري، فحصل على مكافأة مالية تمثلت في مبلغ ألف درهم...قلت له ضاحكا: إن هذا المبلغ الذي حصلت عليه هو نفسه الأجر الذي يمكن بسهولة أن تحصل عليه مطربة عربية مشهورة ولكن مضروبا في عشرة آلاف..فرد علي ضاحكا: نعم! مطربة بعشرة آلاف شاعر..فكان المقال.
في العالم العربي، بالتأكيد هناك شعر.
وهناك أيضا شعراء.
هذا ما تقوله البيبليوغرافيا على الأقل.
للتذكير "علم البيبليوغرافيا" هو علم يوثق كل النصوص الشعرية والكتب والدواوين وأسماء الشعراء وصورهم الفوتوغرافية... بخلاف الأنطولوجيات.. المعاصرة.
قديما كانت الأنطولوجيات (أي المختارات الشعرية) كالجمهرة والمفضليات والأصمعيات والحماسة تقوم على الذوق الحقيقي، أما اليوم فإن الأنطولوجيات تقوم على الإيديولوجيا.
إذا كنت شاعرا يساريا أو علمانيا، فأنت شاعر.
إذا كنت غير ذلك فلست بشاعر.
إذا كنت تقاسم صاحبَ الأنطولوجيا رؤيته للعالم وللواقع، ولما يجب أن يكون، وتقاسمه الموقف السياسي من أنظمة الاستبداد والتسلط، وتتقاسم معه أفكاره فأنت شاعر... تستحق باسم المجاملة أن يوضع لك حيز كبير من الورق تسرح فيه وتمرح وتمارس بطولتك الشعرية بدون أي منازع....إذا كنت غير ذلك فلست بشاعر ولو أصدرت خمسين ديوانا وشهد لك العالم كله.
إذا كنت تستطيع أن تقذف الآخرين بالحجارة، وتتنكر لتراث الماضي كما لو أن الماضي هو مجرد قميص يمكنك أن تنزعه في أي وقت، وتستبدل به قميصا آخر...إذا كانت لك الجرأة على أن تسب كل المقدسات..فأنت شاعر وإلا...
كثيرون من شعراء المغرب حصلوا على شهادة "الشعر" من العالم العربي.
وعلى ذكر العالم العربي، فإن هناك اهتماما متزايدا في هذه الأيام بالشعر ومسابقات الشعر، كمسابقة شاعر المليونن التي لا تعدو أن تكون في فكرتها وجوهرها نسخة ممسوخة من "ستار أكاديمي"، ورغم معجم البابطين و"بيبليوغرافياه" الكثيفة فإن الحقيقة الواقعية لا يمكن أن تلتمس في الكتب والأوراق، بقدر ما تلتمس في واقع الحياة.
قديما، أقصد قديما "قديما"، في زمان الجاهلية الجهلاء، لأننا الآن في زمان التكنولوجيا والأقمار الصناعية....(الجاهلية العالمة!!) كان البيت الشعري يرفع قبيلة ويخفض أخرى إذ من يسوي بأنف الناقة الذنبا؟ فيكفي أن ميلاد الشاعر كان من الحوادث القومية، فالشعر كان جوهر الثقافة العربية، وأساسها المتين(الشعر ديوان العرب)، وتأكيدا لهذا الطغيان الشعري يرى عبد الفتاح كيليطيو -وهو أحد أهم النقاد الذين شرَّحوا بنية الثقافة العربية الكلاسيكية- ، بأن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت تشكو من فقر مدقع في السرد، وسردها (كليلة ودمنة والمقامات...) لم يكن سوى حذلقة لغوية مثقلة بالزخرفة والأحاجي والمغزى.
كان الشعر إذنْ علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه.
أما في أيامنا، فإن الشعر فراغ وترف. على كثرة الشعر والشعراء ليس هناك لا شعر ولا شعراء!!! أن تكون شاعرا لا يحمل أي فخر أو مجد شخصي، في حين أن مطربة واحدة هيفاء (هيفاء أي ساقطة /من الهيف أي السقوط: المعجم الوسيط/ عجبا!!) يكفي أن تظهر بردائها الضيق لتُخْمِل كل الشعراء بكل أثقالهم الشخصية من المجد، وتُرْبـي عليهم بالمال ومحاسن الأعمال!!! ينزوي الشعراء في ركن ضيق، بينما المطربات يتقلبن في البلاد...ويُستَقبلن استقبال الأبطال الفاتحين، ويمنحن المكافآت التي لا يراها الشعراء حتى في المنام..... ليس للشعر إذن لا مجد ولا هيل ولاهيلمان (الهيل والهيلمان: المال الكثير/المعجم الوسيط)، لا أتكلم من تجربة، بل من واقع تكشفه الشاشات بالواضح..
أقول لكل شاعر مغترب في أوطان الغربة، أو يحس بالحيف أو بالظلم، أو بجور الأحكام النقدية: لا عليك، وهون عليك، فإن الشعر ليس له أي مستقبل في بلادنا ولا في بلاد العرب، وقد قرروا ألا يكون له أن أي مستقبل في ظل التكنولوجيا. لسبب مفهوم هو أن الشعر نتاج الإنسان، هو شجرة إنسانية الجذور والفروع والأغصان والثمار والظلال،...وثمارها القيم الخالدة كالحرية والكرامة والعزة والعدل والخير...وكما يكون الإنسان يكون شعره بالضرورة، فالأحرار يكتبون شعر الحرية (لا شعرا حرا) والعبيد يقبلون أقدام السادة ويمدحون النعال التي تطأهم، وقس على ذلك...وإذا كان الإنسان (في غالبه الأعم) في الوطن العربي، لا يملك أي مستقبل واضح الملامح والقسمات، في ظل أزمة سياسية تضرب بأطنابها من المحيط إلى الخليج، وتحت استبداد ناعم، يحكم في العمق بصورة استبدادية، وفي الظاهر بــ"ديموقراطية" لا حدود لها...... أولى إذن ألا يكون للشجرة (أي الشعر) أي مستقبل..إذ لا مستقبل للشجرة إذا كانت الأرض نفسها غير ثابتة الأساس، تصاب في كل حين بانجراف التربة، وسقوط الأمطار في غير أوانها..وجفاف الفصول الكالحة...
أُريدَ (من أراد مبني للمجهول) للشعر أن يكون ترفا، وأن يكون فراغا، وان يكون شيئا تافها، وان يبتلى بكل كاذب طفيلي، وأن ينزوي عن دوره الحقيقي في إيقاظ الشعوب وتأطير الناس.... وهو لذلك –في أقصى ما يمكن أن يقع له- موهبة يملكها رجل فقير أو حقير، موهبة تفيض عن الحاجة، ولا تقدم لصاحبها أي قيمة مضافة، عدا الأشياء الذاتية التي تسره كلاما بكلام كما قال البخيل في القصة المشهورة. الشعر موهبة ذاتية، تنمو في مجال ضيق كأزهار الدفلى المرة التي تصلح للزينة رغم أن جذورها مُرَّة ولا تثمر أبدا. هي موهبة لا تتعدى إطار صاحبها تماما كسماع الموسيقى الصامتة، أو العزف على العود، أو تسلق الجبال، أو مغامرة التزحلق على الجليد في القطب الشمالي...
كيف انهار الشعر؟ ذاك هو ما نريد الحديث عنه.
من الناحية البيبليوغرافية هناك أزيد من ثمانية آلاف شاعر عربي، فإذا أضفنا الذين ينسربون في الهوامش، أو تفلتهم آلات التسجيل (عمدا أو سهوا)..... والذين هم شعراء في واقع الحياة، لا ينتظرون أن تدونهم وثائق البيبليوغرافيين ولن يمحوهم تجاهل النقاد الذين يرون بعُيون الدُّمى، أمكن الوصول إلى عشرة آلاف شاعر عربي، أما الدواوين فهي كثيرة جدا، وإن كانت ذات قرَف، فإنها للأسف (في أغلبها لم تستطع أن تغطي على تراثنا الشعري أو تضيف له، كما لم تستطع، تحافظ على أناقة الشعر العربي وسير قافلته الثابت المكين.. مرورا بالمتنبي وأبي تمام والبحتري وسامي البارودي وأحمد شوقي والبوصيري ومن المعاصرين المغاربة عندنا الكثير....لا أستثني أحدا ممن له ديوان مطبوع أو جمهور سامع...أو شعر مسموع. شعرنا القديم تراث خالد يكفينا وحده للحياة...
ولكن ما رصيد هؤلاء في الواقع؟
يؤسفني أن أقول : إن رصيد هؤلاء في الواقع (ماديا ومعنويا) قليل جدا..وأثرهم ضعيف، بالمقارنة مع آثار غيرهم من أهل الفن والموسيقى والغناء والطرب على سبيل المثال...
هل نظرية موت الشعر نظرية صحيحة؟
من أسباب تدهور الشعر، في نظري طبعا، هو عدم وجود شعراء بالمعنى الحقيقي قادرين على لفت انتباه القارئ. بل إنني أزعم أن معشر القراء يصابون بالغثيان والصداع من مجرد رؤية ديوان شعر، قبل أن يتصفحوه، قبل أن يضربوا صفحا عن هذه المخلوقات الغريبة ( الشعراء)...فالشعراء يذكرون الآخرين دائما بالقلق الذي يعيشونه، ويهيمون بهم في عوالم من الخزعبلات الذاتية والأمراض والوساوس...إذا كان الشاعر مريضا نفسيا فإن القارئ يبحث عمن ينفس عنه (le catharsis) وليس عمن يزيده هما إلى همّ، ومن هنا كان الشعر نخبويا مسرفا في الذاتية.
القارئ يبحث عمن يقدم له جسرا إلى حياته الوجدانية وليس في حاجة إلى من يقيم عشرة أسوار في كل كلمة، ويضع متاريس في كل شبه جملة، ويبدأ بالمبتدأ وينسى الخبر معلَّقا في جملة اعتراضية، فيكون خلاصة حديثه لغة عربية نصفها أخطاء ونصفها ركاكة قبيحة، وليس لها معنى واضح يحسن السكوت عليه (كما يقول النحويون) كأنها الهيروغليفية...ثم أين نصيب اليومي والعابر في الشعر؟ هل سمعنا عن شاعر صب جام غضبه على هذه الفظاعة التي نكتوي بنارها؟ هل انخرط الشعراء فعلا في هموم المجتمع، في هموم أبنائه الذين يكتوون بنار التهميش والتفقير والتحقير واللامنطق والتمييزات؟ هل انخرط الشعراء في الرفض والتثوير وتعليم الناس الحرية؟ أم صاروا (أثوارا؟ ج.ثور)...يا للأسف، إننا نسمع أحيانا عجبا، فسيف المثقف لا يتوجه إلا إلى المثقف، هكذا ينخرط الشعراء في الأهاجي الإيديولوجية يهجو بعضهم بعضا ويدفن بعضهم بعضا في (قبور معنوية) وكلهم (مع اعتذاري المسبق) يركبون موجة الفراغ والمجد المرير...
وهناك سبب آخر أراه سببا وجيها أيضا ألا وهو التطفل والحذلقة ...تعرفون أن الطفيليين لم يتركوا بابا إلا ولجوه، ولا مدخلا إلا راموه، ولا شيئا من علم أو فن إلخ إلا أدلوا إليه بسبب. يهجمون عليه بالحق والباطل، ومن سوء حظ الشعر أنه وحده دون باقي فنون الناس وعلومهم، لا يملك حراسا (والحراس هم النقاد)يقفون على أبوابه ليقولوا: ممنوع الدخول، فأبوابه مفتوحة بدون لافتات... وكيف وهؤلاء الحراس هم أنفسهم (النقاد أقصد) هم من يسهلون على الراغبين والطالبين عملية الدخول بنقدهم المجاني والكذاب، وبمجاملاتهم التي لا تعرف حدودا...كم من ديوان تقرأه لأن الناقد الفلاني كتب عنه في الصحيفة الفلانية فإذا قرأته خاب أفق انتظارك وتساءلت: هل النقد هنا تحيز أم تدجين أم ضحك على الناس واستغفال للقراء أم وسيلة إعلامية للإشهار والتلميع؟ الشعر وحده البضاعة المزجاة وحصان طروادة التي يمتطيه كل من آنس من نفسه قدرة على الركوب، فهل يعقل أن تقرأ شعرا لشاعر لا يعرف العروض، فإذا قلت له إن العروض علم الشعر، أجابك بكل وقاحة وسفالة: كان ذلك أيام زمان، وكذب الشاعر الطفيلي. للنقد هنا دور سلبي، لأنه نقد سلبي، يزكي القبح والهجنة، ويغض الطرف عن الأخطاء وتستهويه المجاملات، يصول ويجول في التنظير، ويترك التطبيق..حتى لكأن النقاد ليسوا من عالمنا يعيشون بيننا، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. لقد دوّختهم فتوح الكلمات وأسكرتهم الترجمة، وراحوا ينسجون التنظيرات السطحية التي لا تعكس واقعنا الشعري (ينتجونها أو يستنسخونها سيان!) بعيدا بعيدا عن تراب المعاني محلقين في عوالم خيالية لا يحدها حد...
إن الشاعر الحقيقي إن أعرض عن العروض، أعرض عنه عن علم لا عن جهل، والشاعر بضاعته الأوزان واللغة فلا يعقل أن يكون الشاعر شاعرا وهو لا يعرف تراث قومه ولا تقاليدهم الراسخة في الشعر، فإذا انسلخ من كل ذلك، لم يكن حتى إنسانا فبالأحرى أن يكون شاعرا.
واسألوا الإنجليز والفرنسيين (يا من يشكُّون في هذا الكلام) هل يتنكرون لتراثهم الكلاسيكي؟ إن التنكر للتراث وازدراءه وانتقاصه على الملأ فخر في البلاد العربية وحدها، هو نخل له فسيل في الوطن العربي فحسب.
الفن حاسة تشبع والإنسان يبحث عن الإشباع من أقصر الطرق، وهذا سبب ثالث، وقد تكون هناك أسباب أخرى. فالفنون بصخبها وضجيجها، قد أحاطت عالم الشعر ولغته من كل جانب، فصار الشعر سكونا، وهياما لا يعرفه إلا الأقلون عددا، أما الأكثرون عددا فلهم فنون أخرى هي فنون المقابلات الرياضية، والجلوس في المقاهي وأكل لحوم الناس، والدردشة في السياسة ونقد الأحوال، وملء فراغات الكلمات المتقاطعة، كل هذه فنون كبيرة ورائعة ملأت حياتنا ضجيجا (ومتعة)...أغنت عن كل متعة (بأقصر طريق) وصدت عن كل متعة تأتي بصداع الراس...
قد ينجح شاعر ما، إذا استظل بظل البهرجة الزائفة والحذلقة المقيتة، أن يكون مهرج سلطان، أو لاعب قرود، أو مادحا للبشاعة يصورها في صورة الحق المطلق تزلفا وتذلقا لنيل حظوة أو منصب، ولكنه في أقصى نجاحه يبني مجدا شخصيا زائفا، وقد يراكم الثروات ولكنه رقم يضاف إلى لائحة المثقفين الذين انتقدهم صنع الله إبراهيم في روايته "اللجنة"، عندما بحث عن جيوش المثقفين العرب فوجدهم قد انشغلوا بحياتهم الشخصية ومراكمة الثروات والاستفادة من عطف السلطات... بالمقابل قد ينجح شاعر آخر في ركوب موجة الغضب الساطع (الذي هو آت آت!! كم ذا ونحن ننتظر الغضب الآتي) أو في امتطاء السيف، وتأبط الثورة (تأبط شرا) ولكنه لن ينجح، سيدور في مكانه كالدرويش الفاني، ثم يعيا من شدة الضبح، وينبت به السبيل لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، ويرى الدنيا من حواليه هي الدنيا، ويرى الأهل والأحباب، وقد تجذروا في البلاد، فيغني بعد فوات الأوان:
وأنا من ضيع في الأوهام عمره.
ولكن، رجاء، سيعود الطائر إلى سربه، وتسلط الكاميرات أضواءها المشعة، بعد أن يفرد إفراد البعير المعبد.تماما كطرفة الذي تحامته العشيرة كلها. فرق واحد، هو أن الشاعر العربي الذي يركب موجة الرفض تتحاماه البلاد العربية كلها، حتى بنقادها وجوائزها وأنطولوجياتها وأمسياتها، وبيبليوغرافياتها.....
ويصدق في الشعر ما قاله شاعر ذات يوم:
بلاد تشرِّعُ أبوابها للبغايا
وترفض أن تمنح الشعر تأشيرة للسفر...
أي الناس الآن يذكر أحمد مطر؟ أحمد مطر الذي يقول:
أنا لست إلا شاعرا أبصرت نار العار ناشبة بأردية الغفاة
فصرخت هبوا للنجاة...
لكأني أضع الملح على الجرح ...
إذا كان رولان بارت أسس نظرية "موت المؤلف"، ومع أنني صادقا ما زلت لم أفهم كثيرا من هذه النظرية فإنني أقول : في ثقافتنا العربية لم يمت المؤلف قط، بل مات القارئ.
أجيال من التلاميذ من المفروض أن يكونوا قراء للشعر، لكي يعرفوا بعض تفاصيل عروبتهم الموغلة في الزمن، لا يستهويهم إلا مستقبل غامض، مستقبل ترسم تفاصيله في أحلام الهجرة والسفر خارج المكان والزمان، أو الهروب إلى عوالم الجنون والتيه والضياع... أين من تلك الأحلام قصائد المتنبي وأبي تمام والشريف الرضي وغيرهم...
هل هناك اليوم أشعر من شاعر العربية الأكبر ليثير بعض حماس التلاميذ اليافعين؟
أنا أتحدى اليوم أي تلميذ في الباكالوريا الأدبية، بل أي طالب في اللغة العربية ينال الإجازة وعليها توقيع نائب العميد، إن كان يحفظ قصيدة واحدة من قصائد المتنبي؟
هل يطمع الشعراء حقا في المجد؟ أما زال يراودهم الحنين إلى التربع على كرسي الزعامة الفنية والأدبية؟ والريادة في عالم الشعر المتدفق والقصائد الطوال؟ مهلا!! إن كان المتنبي على جلالة قدره لا يملك رصيدا في البنك، عفوا رصيدا في الوطن العربي!!! فليكف الشعراء عن مغامرات غير مضمونة العواقب، وليسكِتوا في داخلهم رغباتهم المجنونة وليغضوا الطرف (رغم أنهم ليسوا من نمير!!)...
لينم الشعراء في أخيلة الأحلام، وليسرفوا في الظن الجميل ما شاؤوا، وليكونوا واثقين بأن التاريخ والبيبليوغرافيا سيدونان كلاهما ما كتبوا، فإنهم يبقون أحياء، ولكن الجمهور العربي/ القارئ العربي ميت أيها السادة.
هكذا وباسم الأمجاد الشخصية المفتوحة في كتاب غينز للأرقام القياسية، يحق لمطربة عربية أن تتمايل ليلة واحدة(بل ساعة واحدة أحيانا) لتأخذ ما يأخذه شعراء العرب جميعا، وتخمل أصواتهم إلى الأبد وهي تغني "النص النص" نصف لها ونصف لشعراء الاغتراب..هذا هو الإنصاف....وليسدل الستار على شيء رائع اسمه الشعر العربي، يشبه النخل العربي، والصحراء العربية، والمجد العربي والحصان العربي والسيف العربي، نام وزهد في اليقظة، وعانق الدعة والتساكن، وأبدل الأفعال : فعل التنويم لا فعل التثوير والإحياء، وفعل مباركة الطغيان لا الانتفاض في وجهه،... وفعل ممارسة الهدوء لا الصخب....فكان مصيره النضوب لا الخلود، والعبور في الزمن لا البقاء، هكذا يسدل الستار... على شيء اسمه الشعر العربي...لا يقدم أي شيء لرصيد ثرواتنا القومية..ولم يضاهِ حتى هؤلاء المطربات والراقصات.. عفوا "الفنانات" اللواتي رفعن "رؤوسنا" عالية في المحافل الدولية... على الأقل في نظر السياسيين!!