الغرور
م. محمد حسن فقيه
قال أحد الساخرين :
" المغرور كالديك يظن أن الشمس لا تشرق إلا لسماع صياحه " . بيكون
فالغرور شر عظيم ، وخلق ذميم ، وداء سقيم ، وظلم وخيم .
وهو حصيلة ونتاج عدة أمراض نفسية تصيب الانسان تتغلغل إلى ذاته ، فتفسد نفسيته وتغير طباعه وتنعكس سلبا على تعامله مع الناس ونظرته إليهم ، ومن أهم هذه العلل النفسية والأمراض التي تداهمه ، العجب بالنفس والفخر والزهو بها ، والرياء والكبر وحب سماع المديح والإطراء الكاذب والمزيف من الآخرين .
يصيب من الأمم والشعوب سفهاءها ، والسذج من أبنائها ، من أصحاب العقول الخفيفة والتفكير المنبسط السطحي ، وغالب ما يبتلى به أصحاب الأصل الوضيع ، الذين تقذف بهم أيام هذا الزمان الأعوج ، الذي اختلت فيه القيم ، وانقلبت به الموازين ، فأقصي فيه الرجل المناسب عن مكانه المناسب ، وحلّ محلّه الرجل غير المناسب ، لينصب في المكان غير المناسب ، فلم يصدق ما يرى أمامه ، ولم يستوعب عقله ذلك الكرسي الدوار الذي اعتلاه ، فانقلبت الدنيا في رأسه ، حتى ظن نفسه أنه يجلس فوق برج شاهق ، والناس تتحرك تحته في واد سحيق ، وهو يراها كأنها أسراب من النمل ، أو قطعان من الديدان ، ويخيل إليه أنه قادر على تحريكها وشدها وجذبها ، وتغيير اتجاهها بإشارة صغيرة من إصبعه ، وربما يسرح خياله المريض أكثر ليظن بأن هذا القطيع وتلك الأسراب ، تنتظر منه تلك الإشارة على أحر من الجمر لتسارع بتنفيذ ما يأمرهم .
وإن لم يخب حدسي فإني أظن إن كان المغرور يرى الناس من فوق برجه العالي كالنمل أو الديدان ، فإنهم بالمقابل إن رأوه أو لمحوه ! فإنهم يرونه أدق من القمل وأحقر من البراغيث .
والمغرور إما ينظر للناس نظرة صلف وتكبر وتعال وفوقية ، فيها من الظلم والإجحاف والإفتئات على عباد الله ما فيها ، وإما نظرة إشفاق ورثاء حزين من فوق برج عاجي ، كما ينظر الحاكم الجبار إلى ضعاف الأمة ومساكينها ، ودهمائها وبغاثها ، وكأنه جبل من طينة أخرى .
وإن كان في كلتا النظرتين من الغرور إجحاف وظلم وتكبر، إلا أن النظرة الأولى أشد ظلما وإجحافا ، وأدلّ على خساسة النفس وضعتها .
وعلّة المغرور أنه ينظر إلى هذا العالم وقد غشّى حطام الدنيا أمام ناظريه ، وتكتل ضبابا كثيفا بين عينيه ، فأصبح يرى ما يخيل إليه من أحلام اليقظة واقعا وحقيقة،
أو أنه ينظر من خلف عدسة قاتمة ، موجهة من خلال زاوية ضيقة ، فلا يرى غير تلك البقعة المغبشة التي سلط عليها نظره ، فيظن نفسه ملهم هذه الأمة ، وعراب هذا الزمان .
وعلى كل الأحوال فللمغرور جسم رجل ، ولكن يبقى عقله عقل طفل مهما أسند إليه من مهام ، أو استلم من مسؤوليات واعتلى من مناصب وكراسي ، وتقلد من أوسمة وأنواط ونياشين .
وللغرور آثار خطيرة ، ومضاعفات كبيرة ، وأهم ما يتمخض عنها بعد الظلم والإجحاف بحق الآخرين ، الرياء وحب السمعة والظهور، وأن يحمد بما لم يفعل ، وهذه من أشد الذنوب وأخبث العيوب ، التي تمحق الأجر - مع فعل الخير إن كان لصاحبها أعمال خير - بل تقلب الحسنات سيئات ، حتى تستفتح النار يوم القيامة بالشهيد والجواد والعالم ، الذين قاموا بأعمالهم رياء أمام الناس ، فيكون عاقبة صاحبها الخسران المبين يوم الدين ، وفي الدنيا عدواة وبغضاء من الناس أجمعين ، بل ربما أودى بصاحبه في مهاوي الردى والهلاك ، نتيجة ما اقترفت يداه من بطش ، وسفك ، وظلم بحق الآخرين .
وللمغرورين أساليب وطرق ومناهج عديدة ، يظهرون بها أمام الناس :
- فمنهم من يمدح بصاحبه ويرفع من شأنه ، حتى يرد له الجميل بمثله أو أفضل ، فيخجل صاحبه من مقاطعته بعد أن يبدأ بمدح نفسه ورفعها إلى عنان السماء ، ليعلو بها فوق السحاب ، حتى يخيل إلى سامعه الذي يجهله ، أنه عبقري دهره ، ومجدد عصره ، ولكن المجتمع الظالم ، والظروف القاسية ، وقفت في وجهه ، وحالت بينه وبين آماله الكبيرة وأهدافه العظيمة ، وغمطته حقه .
وعلّ هذا الأسلوب من أنزه أساليب المغرورين وألطفها ، أو بالأحرى أقلها خسة وضعة ونذالة .
- ومنهم من لا يتعرض لصاحبه الذي أمامه بأدنى سوء ، ولكنه يمدح نفسه ويتكلم عن مآثره ومناقبه ، وبطولاته الوهمية ، وأفعاله الخيالية ، ومغامراته "الدونكوشوتية" ، حتى يظن سامعه ، أنه رجل زمانه ، وفريد أوانه ، ولكن الناس لا ترحم ، فلقد ظلموه ، ومنعوه فضله ، وبخسوه حقه .
وهذا أسلوب رخيص مكشوف ، لا يقوم به إلا البسطاء من المغرورين ، والعوام والدهماء .
- ومنهم من لا يتكلم عن نفسه ولا يمدح بها من قريب أو بعيد ، ثم يتناول الناس هذا بالتشهير وذاك بالتجريح والأخر بالتقريع ، أو يرمي ذاك بالسذاجة والبلاهة ، والأخر بالجهل و الحماقة ، أو الوصولية والإنتهازية ، أو الإنبطاحية والتسلقية ، أو المياعة والزئبقية ، أو الهشاشة والهلامية ، وقد لا ينسى صاحبه الذي يجلس أمامه ، فيصيبه الرذاذ من بعض ما تناثر من فمه ، وانسل من بين شفتيه ، أو تدحرج من بين ثناياه ، وانزلق على لسانه ، من دراهم ودنانير، ودرر وجواهر! .
وهذا أسلوب تافه ، وصاحب هذا النهج ، رجل سافل الهمة ، قليل المروءة ، خفيف العقل ، عديم الإحساس، وغالبا ما يكون أصحابه من ذوات الأصل الوضيع ، الذين بهرتهم الأضواء وسلبت عقولهم المظاهر .
- ومنهم من يتظاهر بالتواضع والبساطة في ظاهرك ، وأما في غيابك فيا له من رجل لا يبارى . وعبقري لا يمارى .
وهؤلاء الذين يسلكون هذا النهج هم أنذال المغرورين .
- ومنهم من يجمع بين أكثر من أسلوب ونهج ، في آن واحد ، فيمدح من نفسه ويرفع بها من جهة ، حتى ليظن سامعه إن صدّقه ، أنه وحيد دهره وفريد عصره ، ثم ينتقل إلى الآخرين ، فيسخرمن هذا ، ويستهزأ بذاك ، ويستصغرالقاصي ، ويحتقرالداني ، وينال من الجميع بما تصور له نفسه المريضة ، ليرضي طبعه السقيم ، ويشبع غريزته المنحرفة ، حتى ليظن السامع ، بأن أولئك المقصودين هم شرار الناس وشياطين الأمة .
وهؤلاء أيها السادة ، هم أصحاب الغرور المركب ، وهذا شر مقيت ، وداء مميت ، وهو أسوأ الغرور، وأخبث ما فيه من نهج ، وأقبح ما فيه من شرور .