تجربتي في أدب الطفل

من تجارب أدب الطفل في العراق :

 (القصة القصيرة)

جاسم محمد صالح

[email protected]

إن تدوين التجربة الذاتية في الكتابة والإبداع تعد من أصعب الأعمال التي يواجهها الأديب، فمن العسير جداً أن يتمكن المرء - ومهما كانت قدرته وإبداعه - من أن يفرق بين سمات التجربة الذاتية وبين وسائل الإبداع الأخرى التي يمتلكها، وتكمن الصعوبة والحرج في هذا الخلط الذي قلما يستطيع أحدٌ أن يتجاوزه ، ومع هذا فإن الخوض في هذا المجال ما هو إلا تجربة… والتجربة في كل مراحلها قابلة للفشل أو للنجاح، وكلتا الحالتين تقدمان شيئاً للفكر وللإبداع وللتراث الإنساني والحضاري الذي نطمح جميعاً لأن نساهم فيه ونضع لبنة، ربما ستكون متميزة وذات تأثير وأهمية.

 (حب الوطن) واحدٌ من أهم المفاهيم التي يسعى كاتب الطفل للتعامل معها، حاولت أنا شخصيا أن أقدمه للطفل، حيث اقتربت منه ومن مفهومه ومن قاموسه اللغوي ومفرداته، فتحوَّل الوطن عندي إلى (بركة ماء) … وتحول المواطن إلى ذلك الشعور المتأرجح الذي كان يراود بركة الماء فجعلت منه مواطنا عاشقا للوطن ,لكن تراوده أحلام وردية بالتغيير… وبالسفر إلى أَصقاع أخرى من العالم .

كانت بركة الماء تتمنى الرحيل ، لكن لا تعرف إلى أين ترحل ؟… أردت أن أفهم الطفل أن الوطن بحاجة ماسة إلى أبنائه… كل أبنائه، فطرحت ثيمة أخرى من خلال القصة وهي مجيء مجموعة من اللقالق المهاجرة التي كانت عندي تمثل أفراداً وأبناء لهذا الوطن… ولكن من بقاع أخرى…هاجروا… وأدَّوا مهمةً … أيةَ مهمةٍ كانت، وهم الآن يحترقون شوقاً ولهفة للعودة إلى الوطن الذي هاجروا منه… وعودتهم إليه حتماً,ولابدَّ أن تكون، كان سؤال بركة الماء التي تحلم بالسفر مفتاحاً لليقين والاستقرار ، كانت إجابة اللقالق بالعودة إلى الوطن ترسيخاً وتعزيزاً لهذا المفهوم والغاءً نهائياً لحالة التشوق للهجرة وترك الوطن والابتعاد الكلي عن منبع الذات … عن البيت، عن الوطن.

قالت اللقالق ذلك وودعت بركة الماء وطارت، على أثرها بقيت البركة… ابنة هذا الوطن تتساءل مع نفسها وتتساءل عن سر وكينونة ومغزى الحالة التي أمامها، كل الحالة المطروحة ومن جوانبها المختلفة، وبقيت أصداء تساؤلات اللقالق وأجوبتها تتردد وتتزايد بارتفاع مذهل في قاموس ذهنها وتفكيرها… قالوا لها:

- إنك مثلنا تحبين بيتك.

 وعلى الفور كانت الإجابة سريعة ومعبرة عن عمق ذلك التشبث وامتداد الجذور بالوطن:

- ترى، كيف تكون اللقالق أكثر مني حباً للمكان الذي تربيت فيه ودرجت ونشأت؟

 قالت ذلك مياه البركة بزهوٍ وخيلاء , بعد أن فكرت وابتسمت وصمتت وفرحت:

- لن أغادر مكاني هذا… إنه هو بيتي الجميل.

 ومن جديد … من جديد ازداد تعلق المياه بالبركة… ازداد تعلق البركة بالتراث… ازداد تعلق الجميع واحداً بالآخر… وما عاد أحدٌ يفكر بالرحيل , هذه أهم أحداث قصة البيت الجميل.

 المفردات البسيطة واللغة الواضحة والربط القوي هي التي تقترب من ذهنية الطفل وتمكن الكاتب من إيصال ما يريد إيصاله للأطفال، إضافة إلى أنها تمكنه من النجاح في الاقتراب من ذهنية الطفل بكل سهولة ونجاحه في تلك المهمة .

هناك أكثر من مفتاح لنجاح الكاتب في مهمته منها:

1-  ألا يكثر من الأفكار والرموز والمدلولات في قصته , كي لا تتشابك الأفكار وتختلط لدى الطفل، فكرة واحدة…حالة واحدة، حوار واحد، نتيجة واحدة ,كل ذلك يكفي.

2-  إن لا يضع المتاهات أمام الطفل ، وكذا الدهاليز التي لا أول لها ولا آخر التي تجعل الطفل يضيع ويتشتت ويتوقف أمام الاستنتاج والاستنباط والربط والمقارنة لأنه -وكما نعرف جميعنا ذلك- سريع الملل ، فيغلب عليه الرفض, فيرمي القصة جانباً ولا يفكر أبداً في قراءتها

3-  البساطة والوضوح طريق للتشويق وللمتابعة التي تجعلنا أن نوصل للطفل ما نريد.

 هكذا كتبت جميع قصصي… والعشرات منها نالت متابعة من الأطفال، قرؤوها أمامي… وظلوا يقرؤون، قرؤوها بشغف ولهفة , وبعد ذلك كانوا ينظرون إليَّ بفرح وغبطة، قالوا لي:

- إنها قصص جميلة جداً.

وطلبوا مني المزيد.. وحاوروني وحاورتهم، وعلموني.. وتعلموا مني، حالة معرفية متبادلة… عرفت منهم بذكاء شخصي ما يريدون، وعلموني بذكاء فطري بسيط ما يريدونه مني… وما يحتاجون إليه… وكان المزيد من الحوار الهادئ البسيط يعني المزيد من القصص ولكن بنفس السياق وبنفس الإطار وبنفس المواصفات المطلوبة… الحالة كلها أشبه بالرجل الذي يدخل المطعم ليسد رمقه ويطفئ غليل الجوع… هنالك في المطعم مئات الأنواع من الطعام… يقرأها الرجل بإمعان, لكنه يطلب أخيراً الطعام الطيب واللذيذ الذي يرغب في تناوله , وهكذا كانت رغبة الأطفال في القراءة … وأخذوا من مطعمي ما يريدون.

 على هذا الأساس استمرت الصداقة الحميمة بيني وبين الأطفال , وتحولت صداقتنا إلى محبة طاغية تجاوزت كل الحدود… أقول لكم بصمت:

لقد أوصلت أفكاري إليهم وتقبلوها وعلمتهم كثيراً من الأشياء، كان حبُ الوطن والدفاع عنه ضدَّ الأعداء والمحتلين أول ما علمتهم، ثم كان بعد ذلك الصدق والإخلاص والتعاون وحب الآخرين وكذا التضحية ونكران الذات وهذا سرُّ سعادتي.

 أتمنى أن يكون كتاب الطفل كذلك وأن يقتربوا من الأطفال بكتاباتهم كي يفهموها ويحبوها… لنقضِ وقتاً ممتعاً في قراءة بعضٍ من قصصي التي كتبتها للأطفال والتي أعجبتني وأعجبتهم وربما ستعجبكم أنتم أيضاً… هيا نقرأْها بسرعة قبل أن يأتوا… ويختطفوا منا الصحيفة التي بين أيدينا ليقرؤوها ً، هيا نتمتع… هيا…,فهذه( قصة البيت الجميل) التي حدثتكم عنها … اقرؤوها معي، إنها حتماً ستعجبنا جميعاً.

قصة للأطفال :

PRIVATEالبيت الجميل

جاسم محمد صالح

ملت بركة الماء من وقوفها، ورغبت في التجول، لكنها لا تعرف إلى أين تتجه؟..

فأمامها أكثر من طريق، وبينما هي حائرة تفكر مع نفسها، إذ سمعت أصواتا في السماء..

كان هناك سرب من اللقالق العطشى…يريد أن يشرب الماء ليكمل رحلته.

 عرفت البركة ذلك ، وبعد أن ارتوت اللقالق من مياه البركة، وتهيأت للطيران، فكرت البركة في أن تسألها عن المكان الذي تسافر إليه… فأجابتها اللقالق مسرعة:

- إننا نعود إلى بيتنا أيتها الصديقة الطيبة.

 تململت البركة في مكانها وبقيت تسأل نفسها عن معنى الكلمة التي سمعتها، فعرفت اللقالق حيرتها.

– بيتنا هو المكان الذي نحن إليه… انك مثلنا تحبين بيتك.

 قالت اللقالق ذلك وودعت البركة، وطارت واختفت عن الأنظار، ظلت بركة الماء تفكر مع نفسها… وتفكر… ثم ابتسمت وقالت:

- لن أغادر مكاني هذا… انه هو بيتي الجميل… البيت الذي لا استطيع أن اتركه.