القراءة في الكتابات الشرعية

القراءة في الكتابات الشرعية

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

 - إن كتابات السادة العلماء أشبه بالغيث الهامع، يصيب أرض القلوب فتهتز وتربو وتثمر، وكتاباتهم وإن تشابهت مع ما يخط غيرهم في الحروف وتماثلت في القواعد، إلا أن لها مقاربات وأبعاد.

 ومع تفشي القلم بات من الضرورة بمكان التذكير والتنويه.

 الأمور ماكانت تدعو إليها حاجة لولا ضعف الوازع الديني، وتشوه السليقة العربية، ومما يدمي القلب هو قراءة بعض من الدعاة وطلبة العلم لتلك الكتابات أسوة ببقية ما ينشر .

 فشأن غير العالم استخدام العقل بقواه المختلفة، فالسياسيون، والأدباء، والمؤرخون ... ، يهتمون بالفكرة عقلاً، والتي تخضع لثقافة وقدرة كاتبها، وقد تتكئ على معلومات شرعية، وضوابط كتاباتهم تلك، هي فنية بالدرجة الأولى، من مثل أصول المقال بأنواعه، والقصة..... ، فهي إبحار في المعقول والمتعارف عليه.

أما السادة العلماء فيعتمدون على النقل أولاً، هذا النقل ببساطة هو وحي أساساً، ومن ثم يأتي دور العقل، فالمفارقة الأولى المصدر، هذا الاختيار هو معقول من المنقول ، وكل المنقول معقولاً، لكن الواقع يقدم جزئية على غيرها، من هنا يجب على القارئ المؤمن ملاحظة تعامله مع مادة ربانية لا تمرضها صيغ الشك، ولا تضعفها الظنون، والعالم معني بدرجة كبيرة بوصول الحكم .

 والكتابات غير الشرعية والمقصود عمومها، لها مصطلحات وضعية تدرج في زمان وقد تختفي في آخر، أما الكتابات الشرعية لها مصطلحات تلقتها الأمة بالقبول وخلال قرون من حياتها، تنبي عن نظرات لعلماء من السلف والخلف تمالئوا عليها، من مثل قولهم : هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، والمفتى به ....الخ .

 هذه المصطلحات يزيدها العتق جمالاً وتألقاً وتأكيداً، وتبعث في النفس نوعاً من الثقة .

 واستخدام العلماء للمفردات يتباين مع استعمال غيرهم، من حيث ظلال الكلمات، فالفعل على سبيل المثال، عادة ما يعطي انطباع أنه كلمة دلت على معنى اقترن بزمن، ويضاف إليه عند العلماء، القصد أو النية، فيأخذ بعداً ذاتياً عند القارئ .

 والفاعل يرافق قيامه بالفعل مسؤولية تنبي عن ثواب أو وزر، هذه النقطة تفرض على القارئ تحسس قلبه، ومراجعة أعماله، وتولد في نفسه عزيمة فعل أو ترك .

والضمائر بأنواعها في الكتابات الشرعية مظنة الخطورة في هذا الزمان، حيث يلاحظ ضعف القارئ في ردها لأصلها، تلك المشكلة لم تولد حديثاً، لكنها سابقاً كانت من القلة ما تكفي الإشارة إليها فقط، حيث عاب السلف ونعوا على من يعتمد على القراءة فحسب، طريقة لتلقي العلم، فقالوا عنهم الصُحفيون، وهي مثلب في استبعاد الشيخ من التحصيل، وليست هي المثلبة الوحيدة للتلقي الذاتي، ولكنها مزلق قل من ينجو منه، حتى حصيفٌ ألم بأصول القراءة الصحيحة .

وثمة فارق عصري غير ملاحظ، عند القراء المعاصرين، نَجََمَ عن ضعف الوازع الديني، ويمكن تسميته القراءة القانونية، فأغلب من يقرأ الآن يبحث عن الحكم جوازاً أو حرمةً، وهو مطلب يقع في أول سلم الأولويات، أما القراءة الصحيحة في ما يخط شرعاً تضبطه الأحكام الخمسة ( الفرض والسنة والمباح والمكروه والحرام)، والحنفية قسموا ذلك إلى الفرض والواجـب، والسنة مؤكدة وغير مؤكدة، والمكروه تنزيهاً وتحريماً، ولكل درجة تميز وحكم، وتخص عموماً الفقه بأبوابه .

ويدخل في هذا الباب الرخصة والعزيمة.

أما الكتابات ذات الطابع العقدي، فصفتها إخبارية لا إنشائية، وقد يميل الشيخ أو العالم لتعضيد كلامه بسوق أمثلة علمية أو لغوية، والمقصود هنا علم التوحيد لا علم الكلام، وعلم الكلام هو علم نافح به سادتنا العلماء عن حياض الشريعة، عندما تمت بعض الترجمات لتراث حضارات أخرى فيراعى التفريق .

وثمة مواضيع تدخل في باب الأخلاق والتي لا يمكن فصلها عن التصور بمعنى الاعتقاد، ولا عن الفقه بمعنى المعاملات، فإنما جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فلا عجب من تمازج أكثر من ملمح في تلك الكتابات .

وهو أسلوب قرآني فكم من آية قرآنية تأتي بالحكم، وتختم بصفة لله سبحانه، وهنا مزج بين الحكم والإيمان، من مثل آية السارق والسارقة..، .

 فيظهر من ذلك الحاجة لتمعن الفكر، وإيقاظ القلب .

وفي غير الكتابات الشرعية، يجنح الخيال بلا ضوابط إلى العرف، ومن العرف بعض الحقائق العلمية ذائعةُ الصيت، بينما نلحظ الدقة والعلمية والواقعية أيضاً في الكتابات الشرعية ، فما يكتب هو نوازل حدثت بالفعل، وأجهدَ عالم فكره في بلورتها وضبطها شرعاً، هذا إذا استثنينا ثلة من فقهاء الحنفية سمتهم كتب التراجم الأرأيتيون لأنهم يبدؤون قولهم بـ " أرأيت لو حصل كذا...." كان جهدهم وقتئذ مثار خلاف، وأزاحت ستر الغيب أن جزءاً لا يستهان به من الفتيا المعاصرة مدينة لجهدهم الذي تخطى حواجز الزمان، وعند قراءة ما افترضوه نجد أنه له أرضية من الحقائق، وليس كل من نسج الخيال .

 وللحماس والعاطفة شأن في كل ما يخط، ولا يمكن عدم تلمس نزعة الكاتب مهما ادعى الحيادية، إلا الشرعي منه، فالتحسين والتقبيح لهما ضوابط شرعية، تعتمد على نصوص –الأدلة- ، مما يجعل الكتابة الشرعية تتسم بنوع من الحيادية، فلا يستطيع عالم أن يكتب بنات أفكاره مجردة، قبل أن تخضع لضوابط الشرع، وقد يرد هنا إشكال في اختلاف بعض الأحكام الشرعية عند العلماء، على الأخص الفقهاء منهم، هذه الإشكالية ترد إلى فسحة أتاحها الشارع الحكيم، تتعلق بدرجات الثبوت، وتحمل اللغة لوجه من المعاني، وعندنا أهل السنة والجماعة هذا التنوع يفيد الإثراء، وليس التضاد .

 وقضية الدليل سمة للكتابات الشرعية، ولا تكاد تخلو قضية من دليل، هذا الدليل يخضع لمعايير منها الصحة، والنسخ، والعام والخاص..... فجهد سادتنا العلماء هو جهد استقصائي واسـتقرائي ومـقارن، يتطلـب جهوداً كبيرة.

 ونخلص من ذلك كله، أن كتابات سادتنا العلماء كلمات ليست كأي كلمات، يجب قراءتها بتمعن، واصطحاب أدوات الفهم، فهي نور يرشد الساري في دياجير الحياة .