التأمل التربوي الثالث من سورة القصص

(زواج المهاجر موسى)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

1- انطلق موسى من مصر مسرعاً شرقاً – إلى سَيناء ،ثم شمالاً إلى دار الهجرة – فلسطين -  يسأل الله الأمن والأمان ، فلما بلغ " مدين " وجد على مشارفها مورداً للماء عذباً فاتجه نحوه يروي منه ظمأه ويرتاح ناحيته ، فوجد الرعاة مزدحمين عليه يسقون أغنامهم ، ليعودوا إلى مضاربهم أول الأصيل . كانوا يتنافسون أيهم يسقي أولاً .

2- وعلى مسافة منهم تقف امرأتان تنتظران أن ينتهوا من سقياهم تلك حتى تتفرّغا لأغنامهما فتسقيانها ، فلا طاقة لهما بمدافعة الرجال ، ولا تبغيان ذلك ، وهما تمنعان أغنامهما العطشى أن تدنوَ فتختلط بأنعام الرجال ، وتنتظران انتهاء الجميع لتتقدما ، فهما – كما تبدوان - فتاتان مهذبتان لا تختلطان بالرجال كي لا تسمعا ما يسوءهما أو تفتحا باباً للشر هما في غنى عنه .

3- يتقدم الشاب القوي موسى وقد راعه أن تتأخرا عن بيتهما ، وأن لا يأبه الفتيان لهما ، وكان أولى بهم أن يراعوا ضعفهما فيتركوا المجال لهما أن تسقيا أولاً وتعودا مبكرتين ، وليس من ضير أن يتأخر الرجال ، أما أن تتأخر الفتاتان فهذا نقص في مروءة الرجال لا يرضاه موسى لنفسه إن رضيه الآخرون ، - هذا ما رُبّي عليه موسى فأعان الإسرائيلي على باطل القبُطي . وكان عونه سبباً في ملاحقة أعوان فرعون له وهروب موسى خوف بطشهم  من مصر .

مهمة الرعي لا يقوم بها إلا الرجال ، فلم هما هنا يا ترى ؟ وأين أبوهما أو أخوهما؟  وأين الأجير الذي يتولّى تلك المهمة ؟ يتقدم موسى يسألهما عن كل ما خطر بباله من تساؤلات

4- كانت إجابتهما قصيرة وواضحة " لا نسقي حتى يُصدر الرعاء ، وأبونا شيخ كبير " اختارتا الجواب المفيد بكلمات يسيرة معبرة  تصف الحال بأجلى صورة دون أن تكثرا من الحديث إلى الغريب ،  فيفهمَُ كل شيء ( أبوهما عجوز لا يقوى على الرعي وليس له غيرهما ، وأجرة الراعي مرهقة ، فلا بد أن تقوما بذلك وحدهما ) وقد رباهما أبوهما على الأدب والحياء ، فمن الأدب أن تجيبا على الأسئلة ، ومن الحياء أن تقصرا الحديث مع الرجال  .

5- بعض الرجال – وهم في الحياة نادرون نُدرة الجواهر الثمينة – لا يحلو لهم عيش حين يرون الآخرين متعبين يحتاجون العون وهم قادرون على بذله لهم . وموسى الذي رباه الله على عينه ، فأحسن تربيته ، ووهبه من الشمائل السامية إيذاناً بحمل الرسالة على رأسهم . ألم يقل الشاعر :

إذا القوم قالوا : من فتىً ؟ خلت أنني        عـُنـيـتُ فـلـم أكـسل ولم أتـبـلـّد

وموسى يرى أن عليه أن يساعدهما ، فيسرع إلى المورد يشق الزحام ، وينافس الرعاة ، ويملأ الدلاء، ويسقي الأنعام ، حتى ترتوي ، ثم يعيدها إلى الفتاتين ، وهما تتابعانه فترتاحان لما فعل ،  وتريانه يقوم بهذا العمل بنشاط  وقوة ، فإذا ما انتهى من ذلك أسرع إلى ظل شجرة يستريح دون أن يسألهما أجراً أو يُدِلّ عليهما بما فعل ويجعله سبيلاً إلى الحديث معهما . إنه لم ينتظر أن يسمع شكرهما ، فقد أنهى مادعته إليه مروءته  ، وانتحى من الشجرة ظلاً يخلو فيه إلى نفسه ويناجي ربه أن يرزقه من حاله مخرجاً وأن يرزقه من فضله العميم " فقال : ربِّ إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقيرٌ " ومن لجأ إلى ربه وتوكل عليه فقد كفاه .

6- يقول أهل العلم والدراية من دعا بهذا الدعاء عجل الله جوابه فرزقه زوجة صالحة . والدليل على ذلك أن إحدى الفتاتين جاءته بعد قليل تدعوه إلى لقاء أبيها ، وانظر إلى فاء الترتيب والتعقيب في الآية الكريمة " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " . وحين سألهما أبوهما عن سبب عودتهما مبكرتين على غير عادتهما  قصتا عليه ما فعله هذا الشاب القوي المهذب ، فرأى الأب بثاقب بصيرته أن هذا الشاب بغيته وأنه يمكن أن يكون أحد أركان البيت ، فيقوم بعمل ابنتيه  .. إن الرعي عمل الرجال ، وما قامت الفتاتان به إلا للحاجة الماسّة ، ولعل الله يجعل قدوم هذا الشاب خيراً

7- وتأمل معي هذه الدعوة  بأطيافها الكاملة :

 أ- يرسلها أبوها لتدعوه ، فتسرع ، ودليل سرعتها الفعل الذي تعدى للضمير مباشرة " جاءته " ولم يتعد بحرف الجر - جاءت إليه - .

 ب- فلما دنت منه غلبها الحياء والدليل على ذلك حرف الجر على والمصدراستحياء  " على استحياء " فكأن الحياء طريق تمشي الفتاة عليه .

ج- لم تتكسر في الكلام وإنما ألقت عليه الطلب مباشرة " قالت " فقد جاءت بمهمة تؤديها بكلمات موجزة ، ولم يسبق الفعل حرف الفاء أو الواو بل ألقت الكلام فور وصولها .

د- والداعي أبوها " إن أبي يدعوك " ولم تقل إننا ندعوك . وهذا أدعى لقبول الدعوة ، فوالدهما علم ما فعله وهو الذي يدعوه إليه ، رجل يدعو رجلاً .

هـ- وبينتِ الفتاة سبب الدعوة " ليجزيك أجر ما سقيت لنا " والأب هو الذي يجزي مع أن السقي كان للفتاتين ابتداءً ، وهذا يدل على عظم مقام الأب ومكانته عند ابنتيه .

و- يتعرف الأب على الشاب " ... جاءه وقص عليه القصص " ولم يقل:  قصته أو القصة فالقصص كل ما حدث لموسى منذ أن ولدتْه أمه إلى أن وصل إلى الرجل .

ز- ولعل التباسط في الحديث له فوائد كثيرة : منها التعرف الواسع على الإنسان ، والتباسط الذي يرفع الكلفة ، والتحبب بين الفريقين ، وزرع الأمن في نفس الفتى الهارب إذ قال له حين سمع منه قصته كلها " لا تخف ، نجوتَ من القوم الظالمين " واستعمل الفعل الماضي " نجَوْتَ

   8-  يرتاح الرجلان في لقائهما ، وترغب الفتاتان لأبيهما أن يستأجره ، ليخفف عنهما عبء الخروج في الرعي و، فجنة المرأة في بيتها ، وعملها فيه أولاً ، وما ينبغي أن تخرج منه إلا مضطرة " قالت إحداهما : يا أبتِ استأجِره ، إن خير من استأجرت القوي الأمين " إن موسى قوي الجسم ، حسن الأخلاق – فلا حاجة للخوض في خرافات الروايات الإسرائيلية – فقد خبرتا ذلك من سقياه لهما ثم تولّيه إلى الظل دون أن يكلمهما،  ولم يغتنم فضله عليهما – أنْ خدمهما -  في الحديث إليهما . وأسرع الأب إلى الاستجابة إذ كان قد سبقهما إلى التفكير في ذلك . والاستفادة من رجل قوي أمين كموسى غـُنْم كبير ، وكنز ثمين . ويعرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه ومهرها أن يعمل له ثماني سنوات أو عشراً ، ويتفقان ، ويتزوج موسى الصغرى ويمكث عنده عشر سنوات كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسيما الأنبياء والصالحين إتمامُ الفضل والإحسانُ في العمل وصدقُ الوعد .

9- ولا ننس أن ننبه إلى دور المرأة الإيجابي في المجتمع والأسرة ، فهاتان الفاتاتان كانتا تقومان بدور الرجل حين يغيب ، رعياً وسقياً ،وإحداهما كانت رسول أبيها إلى موسى . كما أنها نصحت أباها في استخدام موسى حين رأته قوياً أميناً .