لو بطلنا نحلم نموت

نجاة الحجري

[email protected]

على أعتاب اللحظة التي لطالما حلمتُ بتحقيقها ، وانتشيتُ في عالم أزرق أرسم فيه قدمي تتخطى العالم المكتظ المرفوض إلى عالم ليس فيه إلا حلمي الأمل ، كأن الأقدار حين ستسمح به ستلغي كل المعالم ما عداه . ظننتُ أني سأجترح لنفسي بتلك الخطوة عالما آخر بملامح أخرى ، وأبعاد أخرى أراها بغير عيني البشريتين !

ظننته عالما ذا مدى خارق على رغم أحاديته _ فهو عالم مؤلف من أمنية واحدة _ يذيب كل الحدود الخانقة في واقع موجع عنيد متعدد الثقوب والآلام . هكذا ننظر للأمل ، وهكذا كنت أراه . فقد هرولتُ قبل تلك الأعتاب طويلا طويلا ، ونزفت كثيرا كثيرا  لأعانق تلك اللحظة التي أرفع فيها قدمي لأضعها على طريق آخر ابتسامته صارخة تبعث كل موات بداخلي .

مررتُ على الأعتاب وتجاوزتها ، ونظرتُ إلى السماوات فلم أرها تبدلت سماوات غير سماواتي ، والأرض صامتة غير آبهة بدمدمتي على سطحها كعادتها ، حتى أنا كما أنا لم يرتعش قلبي ، ولم تعرق الخطوط الشديدة التعرج براحة يدي ، ولم أسكر من نشوة الفرح . صارت العتبة جزءا من طريقي بعد أن دستُ عليها بقدمي ؛ فأخمدتُ بتلك الضمة حرارة الشوق ووهج الغياب . لقد صارت واقعا ممارسا ، ثم مكتظا ، ثم خانقا ، ثم مرفوضا تماما كالواقع الذي كنت أعيشه ولا أعيشه .

حين نحلم بالأشياء ، ونعيش تحققها ، كأنها واقع ، وهي لما تستحل كذلك بعدُ ــ نعيشها وحدها بنشوة السكر بامتلاكها ، وننسى الواقع الذي يحوي دوما أمورا أخرى غيرها ، ليست بمثل لذتها _ حين تتحقق _ أبدا ، نراها كالفتح في عالم أسود ، فتح يعد بالنور . ربما كانت كذلك في جانب ما من واقع حياتنا ، ولكنها _ بكل تأكيد _ ليست الفتح في الجوانب كلها . إن لذة حلم ما تتجلى في أنها تكون وحدها في دنيا الفكر ، وواقع الوهم ، ومما يسلب لذتها بعد تحققها ليس امتلاكنا لها فحسب ، بل اختلاطها بالواقع الذي لا يألو جهدا في مقاسمتها ملامح الأسى التي يوزعها بنسب متفاوتة على كل أعشاشه في حياتنا ، اختلاطها بأمور أخرى في حياتنا مازالت موجعة ، أو مزعجة . حينها لا تعود فكرا له أجنحة ، بل واقعا له جذور ، وجذور شائكة أيضا ، تقيدنا لنبقى في المكان نفسه ؛ فلا إلى ألف ليلة وليلة ، ولا إلى بلاد العجائب مع ( أليس ) !

كثيرا ما سمعت من البائسين ، أو المتذمرين كثيري الشكوى والرفض للواقع ، والكسالى الذين يطيب لهم النقد والسب واللعن أكثر من إشعال شمعة في هشيم الظلام ـــ كثيرا ما سمعت جملا ك " لو امتلكت هذا فستتغير حياتي حتما " ، ومن قبيل : " فقط أحصل على كيت وكيت وسينتهي العذاب " ، وهلم جرا . وجاء " هذا " ، وجاد الزمان " بكيت وكيت " ، ولم يُطِل التغيير ، ولم يأت الخلاص ، فأين !

أكان الخلل والعطب حقا في الأشياء ؟ إنما تكتسب الأشياء قيمتها مما نخلعه عليها نحن من إحساس ، فبعد أن كانت شيئا جميلا يوما ما ، ما الذي جعلها تذبل إلا إحساسنا بها الذي تبدل ! ثم إن تحقق الأشياء واندماجها بالواقع يجعلها تحمل الازدواجية التي يحملها أي شيء في حياتنا _ حتى الإنسان نفسه _  ازدواجية الخير والشر .                 

ولربما كان مما يسلب الآمال لذتها بعد تحققها الأسلوب الذي صارت به حقيقة ؛ إذ يكون متساوقا مع رتابة الواقع ومسيرته ، ولا يحمل في طياته فيصلا بين واقعين ، كما يحدث في علاء الدين ومصباحه السحري ! ولعل ألذ ما في تحقق الحلم سخريته من الواقع وفرضه لذاته _ التي تحمل ذات صاحبه _  فيحقق في تمرده على الواقع لذة البشري الأكثر شيء جدلا !

 " قارنوا : أجدادنا كانوا يحلمون باستخدام الجن لنقل رسائلهم إلى أبعد أصقاع الأرض ب" رمشة عين " . أليس هذا ما تفعله الآن الإنترنت حتى بأسرع من " رمشة العين " ... وكانوا يودون لو أن التنانين النافثة للنار تنضم إلى قواتهم المسلحة . ألم تقم الدبابات ، وقاذفات اللهب ، وقنابل النابالم بهذه المهمة "[1]!

فعلى الرغم من تحقق هذه الآمال التي كانت يوما ما مستحيلة ، لم نر فيها شيئا جديدا لذيذا ، لأنها أتت نتاج الواقع لا ثورة عليه ، فالانترنت نتاج الكمبيوتر وتقدم الاتصالات ، والطائرات والقنابل نتاج التطور الفيزيائي والكيميائي ، لذا فالواقع كان مبشرا بكل تلك الأمور ، وكانت نتيجة حتمية ، فانتفت لذة الحصول عليها حينما انتفت استحالتها ، وصارت اعتيادا لما صارت امتدادا لواقع يسير إلى نهاية متوقعة وإن لم تكن واضحة المعالم تماما ، أو محسومة . ربما لو أتى جدي المائة من كهفه المظلم إلى هنا مباشرة دون المرور على جدي الخامس أو السادس لكان تحقق هذه الأحلام أمام عينيه شيئا مدهشا مثيرا ، أما أنا فلا !

كلما تذكرت آمالا لي اندفعت إليها بفورة الحلم وسكر الوهم فألفيتها سرابا بقيعة حسبته ماء  بوجع الظمأ الملتهب داخلي ، ووجدت الحقيقة عنده مرة تملؤني بجزء منها : ليس كل الحرمان شرا ، وليس الخير دوما في الحلم المفقود !

ليس المغزى أني ما عدت أحلم ، ولكني صرت أصارع الأحلام بحقيقة الآية التي تقول : " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " .

وكلما مرت الحياة بآهاتها وأفراحها العابرة ، وأنا أعتصر من الداخل لحرماني مما كان بيد الناس سهلا يسيرا ، يعيشونه كل يوم ، ثم أراه سبب شقائهم ، ولم يجلب لهم السعادة التي كنت أحلم بها في ما حرمت منه ـــ أدرك أنْ ليست السعادة أبدا في امتلاك كل شيء ، فقد يكون ذاك الشقاء بعينه . لكم تساءلت : إن كان الذي أحلم به ، وهو ذاك الذي يملكه الآخرون ، سيجعلني سعيدا أطير فوق السحاب ، ويملأ كل الحفر المظلمة بداخلي نورا وإشراقا ، فلم لا يحقق هذا  الذي لا أملكه النور السحابي لمن يملكونه ، بل لم هو سبب بؤس آخرين وشقائهم ومللهم من الحياة ونقمتهم عليها وعلى أهلها  ؟

ليس المغزى أني ما عدت أحلم ، ولكني صرت أصارع الأحلام بحقيقة الآية التي تقول : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ".  صارت نفسي كارهة مؤمنة تقر أن هناك محطة دون كل حلم تستحق أن يعيشها الإنسان إن أراد أن يدرك حقا معنى وجوده على هذه الأرض ، ويجعله أكثر يسرا وإشراقا ، وجدوى .

بانتظار اللحظة الحلم نلغي الواقع المعيش الذي قد يحمل نجمات مفعمة بالإشراق ، لكنها في واقع أسود أسود ، فلا نرى الجمال الذي تصنعه النجمات مع المحيط رغم سواده . نضيع اللذة التي يسر بها الواقع ، إلى لذة ألذ ما فيها أنها لم تصبح لذة بعد . وبتحقق اللحظة الحلم يطلع الصباح فيتلاشى معنى الإشراق . ويغدو الضوء العنيف الذي لم تعتده العيون القابعة في المحيط الأسود ــ عنيفا مؤذيا ، أو فجا ليس فيه من حلاوة التأمل بين الضدين _ إشراقة النجوم وظلام المحيط _ شيء . فكيف لو أدرك الإنسان أن مدى حياته الحقيقي الذي يشهد له بالحياة ـــ هو الصراع بين النقيضين ، ذلك الصراع الذي يعيد فيه ترتيب أجزائه ، بكيفية موجعة شائكة دقيقة سهلة الانحراف !

إني لأدرك أن الواقع ليس دوما شيئا نستطيع أن ننظر إليه بامتنان أو تأمل ، وأعلم أنه ليس خطأ أن يحلم الإنسان ، فالحلم مرادف للوجود البشري ، ولولا أماني البارودي ، لما طار له فوق البسيطة طائر ! لكنما ليكن الحلم مسيرا على نور النجمة التي يحملها الواقع المظلم ، ولنبحث عن النجمات الأخرى التي تحملها سماء واقعنا ، تلك التي ندفن رؤوسنا برمل اليأس والغضب والملل كي لا نراها ، فلا نراها . وأدرك أيضا أن كل حلم يتحقق يصير واقعا خانقا في نهاية كل جزء من أجزاء مسلسل الحياة . فهل سنظل نختنق بالحبل الذي نشده على رقابنا راضين ، بدل أن نشد طرفه حولنا  ، ونرمي بالطرف الآخر إلى النجمة المشرقة لتعلو بنا إلى النور ، ونفارق الحفرة التي زجنا فيها سوء القدر ، فإن لم تقو على انتشالنا ، سرى مع الحبل نورها حتى أنار الحفرة التي كانت يوما مظلمة . " وأحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " !

              

[1] مجلة الرأي الآخر ، العدد 17 ، فبراير 2008 ، طيران بلا أجنحة.