لبنان صيفٌ هادئ... وفساد صاخب

لبنان صيفٌ هادئ... وفساد صاخب

سهاد عكّيلة

لبنان... يا بلد المتناقضات!!!

يمتلك اللبنانيون مهارة عجيبة في تناسي الهموم... بل الكوارث الأمنية والسياسية التي تحل بهم!

بعد جولة لأحد الصحفيين الفرنسيين، الذي أرسلته جريدته مندوباً لتغطية حرب صيف 2006م في الضاحية الجنوبية يوم وَقْفِ الأعمال الحربية في 14 آب، أعقبها بزيارة  مع مرافقته لإحدى حانات الجمّيزة، صرخ مذهولاً: « لا لا لا أصدق عيني، كنت قبل خمس دقائق في ساحة حرب مرعبة، والآن يا إلهي... هل هذه باريس؟ هل أنتم أكيدون أننا لا نزال في البلد نفسه؟»!!!

أجل أيها الصحفيّ، أنت -مع الأسف- في البلد نفسه... لبنان... بلد العجائب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

فما أن أُعلِنت الهدنة ووقفت «المعركة!!» حتى اتجهت أنظار اللبنانيين إلى معركة جديدة... ولكن من نوع آخر. فيا لهذه الذاكرة التي نسيت بشطبة قلم جراحها الغائرة، وانتفضت تُرقِص أصحابها على نزف تلك الجراح... لا بأس... فقد تحرر البلد، وتحرر وسط بيروت «التجاري»، بكل ما تعنيه الكلمة، من احتلالٍ سياسي ليرزح من جديد تحت وطأة الاحتلال اللاأخلاقيّ! وتنفّس الشعب الصعداء واستكملوا حلمهم بصيفهم الواعد، وانتعشت آمالهم بتفعيل حركة العجلة الاقتصادية باستقطاب أموال واستثمارات أثرياء العرب!!!

وهنا بيت القصيد... فقد بات لبنان مسكوناً بالفساد بكلِّ عناوينه، ولئن كانت جرعات الفساد تخفّ حدّتها في الحروب والأزمات، فإنها تزيد بشكل يتخطى حاجز الصبر والصمت في الموسم السياحي!

والموسم السياحي عندنا «مَجمَع الرذائل ومنبع الفواحش» وكأنه «الصرف اللاصحي» لنفايات العالم الأخلاقية... حيث تحوّل لبنان -هذه القطعة المباركة من بلاد الشام أرض الرباط- إلى عنوانٍ عريضٍ للفساد في الشرق الأوسط، ومهبِط آمال الباحثين عن المتع الحرام في سياحتهم. فبمجرد أن تسقط قدم السائح على أرض مطار بيروت تستقبله صورٌ عارية: راجلة أو محنّطة... لا فرق! حتى حار أهل العفّة والحياء أين يتّجهون بأبصارهم! فعليك صلوات ربّي وسلامه ما دامت السموات والأرض يا رسولنا الحكيم عندما قلت: «سياحةُ أمتي الجهاد»... فشتّان شتّان بين سياحة العُبّاد وسياحة الغافلين.

ووالله إننا لشدة ما كثرت مشاهد العُري وزادت أماكن الفُحش لنخشى أن يخسف تعالى بهذا البلد بمن فيه، ونبرأ إلى الله مما يعمل الظالمون، ونضع قضية انتشار الفساد بصوره كافة بين يدي كل غيور على خُلُق أو شرف أو دين، بغضِّ النظر عن معتقده، فالفطرة الإنسانية غير المطموسة مهما تعددت انتماءاتها ومشاربها تأبى المتاجرة بالأعراض على قارعة الطريق. وهذا يدعونا إلى إحداث انتفاضة أخلاقية هائلة تضع حداً لهذا التمادي، ويحمِّل كل الجمعيات الإسلامية والأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والعائلات التي تخشى على أخلاق أبنائها، وقبل هؤلاء دور الإفتاء في لبنان، ومختلف الهيئات الدينية... مسؤولية كبرى عن استفحال مظاهر الفساد في المجتمع؛ فإن البلاء إن حلّ بعقابٍ إلهي سيشمل الجميع، يقول تعالى: (وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القولُ فدمرناها تدميرا) (الإسراء: 16)، وقــال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قومٍ ثم أعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم» رواه ابن ماجه. وما الأمراض المعاصرة التي ظهرت مؤخراً إلا حصاد الفلتان الأخلاقي الذي يسوَّق للناس على أنه «الحرية» و«الانفتاح» و«الانطلاق»... وما هو في الواقع إلا السقوط ثم السقوط ثم السقوط إلى دركاتٍ مُوغلة في الانحطاط! أورد موقع «لبنان الآن» أنه: «حتى تاريخ 15 تشرين الثاني 2007 بلغ عدد الإصابات بالإيدز في لبنان 1056 إصابة، وهي الإصابات التي تم التبليغ عنها فحسب، إلا أن ثمة الكثير من الإصابات لا تزال طي الكتمان لأسباب عدة». هذا فضلاً عما يُتهامس به داخل الصالونات «المخملية» من خيانات تحصل بين الأزواج، ومن زنى المحارم...

هذا كله بل أصله ذلك الشر الذي أطلّ برأسه على بلاد المسلمين عامةً وعلى لبنان تحديداً من دعاوى «تحرير المرأة» من حجابها... مروراً بتحريرها من أخلاقها... وصولاً إلى تحريرها من ثيابها، حتى أصبحنا نرى كثيرات يسرن على الطرقات، وفي الأماكن العامة، بل يدخلن الجامعات: «عارياتٍ عاريات»!

إنه لمثيرٌ للغثيان حقاً أن تتقلص المساحات «المستورة» من جسد المرأة إلى أقصى حدود! وأن تنتشر صور العاريات على اللافتات العريضة المعلّقة على حافات الطرقات، إلى حد لم نعد نحتمل معه المزيد! فأين عقلاء هذا البلد من هذه «الفوضى الأخلاقية» العارمة؟

يا رجال الدين يا مِلح البلد *** ما يُصلح المِلحُ إذا المِلحُ فسد؟

 فللعلماء الدور الأبرز في إصلاح ما أفسد الحكّام، يجب أن يستعيدوا موقعهم في تصويب مسار الأمة من حيث التأثير الإيجابي في المجتمع بكل مكوِّناته: أفراداً ومؤسسات، وخاصة المؤسسات الإعلامية “عرّابة” المُجون، والمروِّج الأساس له، لا بد أن يشكِّلوا مع غيرهم من شخصيات وهيئات الدرع الواقي للمجتمع، ويعملوا جاهدين لمحاكمة وسائل الإعلام والإعلان تلك، وإلزامها الكفّ عن نشر الانحلال، ومراعاة الذَّوق الإنساني العامّ.

ويليهم الأفراد؛ فكل فرد يتحمّل مسؤوليته في الإصلاح بحسب موقعه: بدءً بنفسه، ثم بأسرته، وبأقاربه، مروراً بجيرانه، ثم المؤسسة التي يعمل فيها، والمجتمع الذي يضمّه. فلو أن كل فرد قام بمهمّته في مواجهة هذا الخطر لاضطرّت تلك الوسائل إلى الالتزام بالمطلب العام إن لم يكن قناعةً، فخوفاً على مصالحها الخاصة؛ إذ هي تتوجّه للجماهير، فإن فقدت جمهورها، لم يعد لوجودها قيمة. والله سائلنا يوم القيامة: هل أخذنا على أيدي هؤلاء؟ أم سكتنا؟ أم سرنا حيثما ساروا؟!

وبعد ارتكاب كل ما يستوجب حلول عقاب الله، يستاء الكثيرون من الضائقة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها، ومن ارتفاعٍ في الأسعار غير مسبوق، وينشغل الاقتصاديون في دراسة أسباب الظاهرة وتحليلها، في الوقت الذي تَلفِتُ المتخصصين في تنزيل آيات الله على أرض الواقع، تلك الأسباب الأساسية التي جُمِعت بكلمة واحدة هي: الفساد، بمختلف صوره: العقائدية، الأخلاقية، السياسية؛ يقول تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)؛ فالناس اليوم يدفعون ضريبة البُعد عن الله تبارك وتعالى: جوعاً وخوفاً وأمراضاً، يقول تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فأذاقها اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون).

إذاً، إنها حقائق موثّقة في كتاب الله، وهي قوانين ثابتة لا تتخلّف، أما الحلول فموجودة أيضاً في كتابه تعالى وتتلخص في:

- الإيمان والتقوى: (ولو أن أهلَ القرى آمنوا واتقَوْا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماءِ والأرضِ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسِبون).

- التضرع: (فلولا إذ جاءهم بأسُنا تضرّعوا ولكن قسَتْ قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون).

- الاستغفار: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا).

وهذه الحلول، وإن كانت تُجدي مع الأفراد إن التزموها، إلا أنه لا بدّ من حركة جماعية تعمِّمها على المجتمع قبل أن نَهلِك مع الهَلْكى وقد كَثُر الخبَث.