إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ -43
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
43
رضوان سلمان حمدان
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } المائدة106
المعاني المفردة1
إِذَا حَضَرَ: إذا قارب الحضور
الْوَصِيَّةِ: أَوْصى الرجلَ ووَصَّاه: عَهِدَ إِليه. والوصِيَّةُ: ما أَوْصَيْتَ به.
ذَوَا عَدْلٍ: أمانة وعقل.
ضَرَبْتُمْ: سرتم وسافرتم.
تَحْبِسُونَهُمَا: توقفونهما.
الإعراب2
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}: رفع بالابتداء، وخبره {ٱثْنَانِ} والتقدير شهادة اثنين. {إِذَا حَضَرَ} ظرف للشهادة. و {حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ} بدل منه. {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ}: نعت. {أَوْ آخَرَانِ} عطف. {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة، ولذلك أتوا بـ "إذَنْ" المؤذنة بالجزاء والجواب.
سبب النزول
عن ابن عباس، قال: كان تميم الداري وعَدِيّ بن بَدَّاء يختلفان إلى مكة: فصحبهما رجل من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس بها أحد من المسلمين، فأوصى إليهما بتركته، فلما قدما دفعاها إلى أهله، وكتما جَاماً كان معه من فضة مُخَوَّصاً بالذهب، فقالا لم نره. فأتى بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحلفهما بالله ما كتما ولا اطلعا، وخلى سبيلهما. ثم إن الجام وجد عند قوم من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الدَّارِي وعدي بن بَدَّاء. فقام أولياء السَّهمي فأخذوا الجام، وحلَف رجلان منهم بالله: إن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا. فنزلت هاتان الآيتان: {يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ} إلى آخرها.
الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة، في بيان بعض أحكام المعاملات في
في ظلال النداء3
المجتمع المسلم، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض، والبعد عن المجتمع. والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله. وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث: أن على من يحس بدنو أجله، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فأما إذا كان ضارباً في الأرض، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين.
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولا يكتمان شيئاً مما استحفظا عليه.. وإلا كانا من الآثمين.. وبذلك تنفذ شهادتهما.
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة. قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته، من الذين وقع عليهم هذا الإثم، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة. وبذلك تبطل شهادة الأولين، وتنفذ الشهادة الثانية.
ثم يقول النص: إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين، مما يحملهما على تحري الحق.
{ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم }.
وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله، ومراقبته وخشيته، والطاعة لأوامره، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه، إلى خير ولا إلى هدى:
{ واتقوا الله واسمعوا. والله لا يهدي القوم الفاسقين }..
هداية وتدبر4
1. لما أمر بحفظ النفس في قوله { عليكم أنفسكم }[المائدة: 105] أمر بحفظ المال في قوله {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}.
2. يؤكد الحق سبحانه وتعالى أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد، فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضاً إن كان الإنسان مسافراً، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه ويوصيهما. وإن لم يجد أحداً من أهل دينه فليُسْمِع وصيته اثنين من غير أهل دينه.
3. يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لـيشهد بـينكم وقت الوصية، ذوا رشد وعقل وحِجاً من من أهل الـملة.
4. ومعنى { شَهادَةُ بَـيْنِكُمْ } الـيـمين. وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر، وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع، وحذف ما من قوله { شهادة بينكم } جائز لظهوره، ونظيره قوله { هذا فراق بيني وبينك } [الكهف: 78] أي ما بيني وبينك، وقوله { لقد تقطع بينكم }.
5. قوله تعالى: { إِذَا حَضَرَ } معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت. وهذا كقوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [النحل: 98]. وكقوله: { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ } [الطلاق: 1] ومثله كثير.
6. { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } دليل على وجوب الوصية، لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين، وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية.
7. اختلف المفسرون في قوله { منكم } على قولين: الأول: وهو قول عامة المفسرين أن المراد: اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم وملتكم، وقوله { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر. القول الثاني: { ذوا عدو منكم } أي من أقاربكم، وقوله { أو آخران من غيركم } أي من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض أي إن توقع الموت في السفر، ولم يكن معكم أحد من أقاربكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية. وجعل الأقارب أولاً لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق، وبورثته أرحم وأرأف.
8. وفي { أَوْ } في هذا الموضع قولان:
أحدهما: أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا.
والثاني: أنها لغير التخيير، وإن معنى الكلام، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا، منكم.
9. المراد بعد أداء الصلاة، أي صلاة كانت والغرض من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل، والله أعلم.
10. قوله تعالى: { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأَرْضِ * فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } هذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين: أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية؛ كما صرح بذلك شريح القاضي. قال ابن جرير: . . عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية.
11. في قوله تعالى: { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } تأويلان:
أحدهما: لا نأخذ عليه رشوة. والثاني: لا نعتاض عليه بحق.