ثبات الفكرة واستعلاء الإيمان
ثبات الفكرة واستعلاء الإيمان
(1)
عدنان عون
أصحاب العقيدة ورجال الفكرة والمبدأ، أكثر الناس عرضة للابتلاء والفتنة " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" . ولكنهم بالرغم من ذلك فهم أثبت من الرواسي تتغير الدنيا من حولهم، وهم لا يتغيرون، يعرضون على الموت وقد يشارفونه وهم صابرون، لا يساومون على عقيدتهم ولا يتنازلون عن مبادئهم، يثبتون الناس بمواقفهم وثباتهم، بهم تحمي العقائد، وتنتشر الدعوات، وتخلد المواقف والمبادئ وعن طريقهم تتواصل أجيال الإيمان·
فكم من نبي ورسول سيم من العذاب ألواناً، وكذلك الأصحاب والأتباع، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا وما تراجعوا؟
لقد كان نبض الإيمان في قلوبهم محركاً قوياً، ودافعاً مستمراً يجدد هممهم عبر الزمان والمكان، ويجدد ولاءهم لهذا الدين من خلال حياة ملؤها العطاء والتضحية والصفاء، فلا لوث في عقيدة، ولا دخل في فكر، ولا انحطاط في سلوك·
وكتب التاريخ الإسلامي، وتراجم عظمائه زاخرة بمئات المواقف لهؤلاء العظماء الذين استعلوا بإيمانهم وضحوا بأنفسهم، ولم يثنهم عن مواقف التضحية والعطاء، طغيان الطغاة، ولا ظلم المستبدين ولا همسات المثبطين، ولا إيحاء الشياطين·
2)
وهذا واثلة بن الأسقع ما إن أحس بإشراق نفسه - مما لا قبل له به من قبل - حتى قاده الشوق إلى المسجد، وبعد صلاة الفجر مَثُل واثلة أمام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال له: من أنت؟ وما جاء بك؟ فقال واثلة: جئت أبايع، فقال (صلى الله عليه وسلم): فيما أحببت أو كرهت؟ قال: نعم، قال: وفيما أطقت قال: نعم، فأسلم وبايع·
عاد إلى أهله مسروراً تملأ الفرحة كيانه، فكان أول ثمرة من ثمار إخلاصه أن فاجأته أخته بعد حواره مع أبيه وعمه، بتحية الإسلام تلقيها عليه فيتساءل متعجباً: وأني لك هذا يا أخية؟ قالت: مما سمعته من حديثك·
ودع أهله وعاد عساه يصحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في جيش تبوك، ولكن أنى له ذلك ولا راحلة له·· فنادى في السوق: من يحملني وله سهمي؟
قال كعب بن عجرة ـ ولله در رجال كانوا أسرع إلى الخير- : أنا أحملك وتعاهدا وكان كعب نعم الرفيق في السفر·
وما إن أعطى واثلة سهمه من الغنائم (قلائص معدودات) حتى ساقها إلى كعب، فإذا بكعب، وهو يجسد صورة من الإيثار رائعة، يقول له: بارك الله لك، ما حملتك وأن أريد أن آخذ منك شيئاً·
ويتساءل المرء من أيهما يعجب·· أيكبر رجلاً تخلى عن كل متاع الدنيا رغبة في الجهاد، أم يكبر رجلاً جهز أخاه كيلا يحرمه من الجهاد، وأبى أن يأخذ على معروفه أجراً·· ولِمَ العجب؟ إن هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرجوا من مدرسته، وتخلقوا بأخلاقه ــ فبارك الله فيهم، ورضي الله عنهم في الخالدين·