13 لحظة خلف النافذة
حميد الهجام
(..) 1- ... غرفته في الطابق الثاني،تقابل حديقة تسيجها أشجار من مختلف الأنواع و الأشكال و الأحجام .. انقبع هناك خلف نافذة ذات إطار من خشب مسوس مقسم إلى أربع مربعات زجاجية .. ير تصد من خلالها انسكاب المداد الأحمر على صفحة السماء...
(..) 2- ... سحابات في شكل ندف قطنية تتلاشى بتؤدة و بطء و هي تتهادى،كما لو كانت تساير إيقاع لحن خفي.. يدرك بفعل التعود أن بعد قليل ، سيغمر فيض بنفسجي أرجاء الكون،و من بين عروش الأشجار الباسقة، ستنساب خيوط ذهبية إلى عمق الغرفة .. سوف يتغير لون الخزانة ذات الرفوف المحشوة بالكتب ..و ستذوب كآبة الجدران في محلول الشفق،أما الصورة المعلقة إزاء النافذة،فربما ستبدو أكثر إشراقا و أشد توهجا من ذي قبل ...
(..) 3-... سنون, أهدرت في محاولة استفهام حركة الكون و مبررات الوجود..تلتها أخرى ارتد فيها حافرا بالمعاول في تربة الذات،بعد أن أيقن استحالة الخوض في خضم الغمر دون المرور عبر المهابط و المنحدرات ..و هاهو الآونة يحيا ملاذه الوحيد،ملاذ ترقب لحظة تضاجع ألوان أطياف الشمس .. تعلو خيوط سوداء شاشة ذاكرته و تتناهى إلى مسامعه خرخشات ،و بعد حين تستقر صورة ...
(..) 4- ... نهر واسع رحب .. و في منتهاه .. ينتصب مهيبا .. شلال منيف .. شبيه بمهاوي الأساطير .. وكائن يصارع التيار في خضم الوادي ... كان عليه أن يناور لبلوغ أحد الشطآن حتى ينجو بنفسه متجنبا انجرافه الأكيد إلى منحدر الشلال حيث ستكون نهايته محتومة لا محالة ...
(..) 5- ... أين رأى هذا المشهد ؟! .. أهي لقطة من فيلم سينمائي ؟!.. أم تراه محض حلم يقظة ؟!.. أم من أعماق لا شعوره انبثقت هذه الرؤى الكابية المنفلتة من لجج الأزمنة الغابرة ؟! .. أقنع نفسه في لمح البصر أن تلك الإرهاصات لا تعدو أن تكون سوى تعبير طبيعي عن إحباط دوري أو بالأحرى رد فعل نفسي،نتيجة التفكير العقيم و التمور في الحلقات السديمية الفارغة ... كان ذهنه في ذلك الزمن مهيأ لالتهام أي تفسير مضمخ برائحة قياس منطقي ما ..
(..) 6- ... بغتة،أجال ببوصلة بصره في أرجاء الغرفة إلى أن ارتطمت لواحظه بفضاء الحديقة .. فقلص من مسافة التركيز بعد أن تسمرت عيناه بشكل غير مفهوم على النافذة،حيث كانت ذبابة تائهة تستميت محاولة اختراق الزجاج .. رفرفة جناحيها تبعث بأزيز ذي إيقاع متقطع: ز .. ززز .. ززززز.. زززززززز ..زززززززززززززززززززززززززززززززززززززززززز
.. زز .. ز .. إنها لحظة انهيار في ركن من حافة النافذة .. هكذا تظل اللعينة المسكينة تسأل الحاجز المزجج الأخرس إلى أن تخور قواها،و بعد استراحة محارب تعيد الكرة ...
(..) 7- ... زمن يلفي المرء ذاته فيه أسير التيارات الجارفة،عليه إدراك لا جدوى دونكيشوتية السباحة العمياء .. ضرورة المناورة .. هجس في سريرته و تابع خط سير أفكاره في متاهات لا حدود لها ...
(..) 8- ... على المرء اللجوء إلى الحواف و ترتيب أوراقه و استجماع قواه قصد الانفلات من أنفاق المضاخات .. و عامل الزمن ..؟
أجل ،له دور رئيسي في تقوية احتمالات النجاة .. و المعادلة لن تحل إلا بحساب دقيق للطاقة المتوفرة في تقاطعها مع الزمن المتاح ...
(..) 9- ... راحت تذبذبات تأملاته تخفت تصورا فتصورا ..بينما أطياف موجودات الغرفة راحت تتموه ظلا فظلا .. و الزمن راح يفقد من ألقه بريقا فبريقا .. انتشاء أو لحظة إشراق صوفية الآفاق..النافذة بمربعاتها الأربع يتباهت لونها و تتماثل إطاراتها .. لكن التماثل و التناظر لا يخفيان حقيقة كون المربع الأعلى على اليسار .. يتميز بثقب صغير عند الزاوية الفوقية على اليسار ...
(..)10- ... فجأة،وكما يحدث في الأحلام،شرعت بنات النار في التسلل من خلال الأغصان،ثمل الكاتب اللامرئي المتربع على عرش السماء .. تزحزح قليلا و بحركة طائشة جدا أهرق المداد القرمزي على صفحة المساء الأولى. لطخ تشكيلية تجسمت في أشكال شبيهة بترشيمات تجريدية نساء أفينيون٭ ...
(..)11- ... فجأة،و كما يحدث في عادي الأيام،استجمعت الذبابة قواها و زحفت بقوائمها الأربع الخيطية الشكل إلى أن اصطدمت بزاوية قائمة عند نقطة الصفر .. بحدس فطري أدركت أن عليها الاستناد إلى خط الأرتوب حتى تقاوم ..تقاوم قوة جذب الحرف ..حرف جي .. اللاتيني .. اللعين ..9,8 ر/ب3٭ .. هاهي ذي تزحف صعودا فرويدا بتمهل و تبات إلى أن تبلغ الزاوية الفوقية حيث الثقب .. تقف هنيهة انشداه .. و دون شك ستتساءل :- هل هذا حقا هو الثقب المفضي إلى . ا . ل . س .. إلى . ا . ل . ح .. إلى الأمام .. إلى الانطلاق ..؟!
... نعم .. ستنبس بلغة الذباب السهلة الاستشفار...
(..)12- ... تشد عزمها و تنطلق صارفة العنان لمهر الطاقة المتهجعة بداخلها،و التي عادة لا تستنفر إلا أوان الانعتاق .. نقطة سوداء هائمة في الفضاء يشيعها الكائن و هي تشق عباب الأثير الذهبي إلى أن تختفي عن ناظريه ذائبة في لج السماء ...
(..)13- ... تبلع ريقه بصعوبة بالغة .. أحس بفراغ في ذهنه .. فراغ تافه مؤطر بنافذة مقسمة إلى أربع مربعات من الزجاج الشفاف ..الحديقة بأشجارها الباسقة و أغصانها المنشبكة و ممراتها المتربة ت .. ت .. ل .. ا .. ش .. ى ... ت .. ذ .. و .. ب ... ت .. ن .. د .. ث .. ر ...
كلما صغرت الأسرار خلف النوافذ إلا و تضخمت داخل الذوات!.
ترى ماذا كان سيكون مصيرنا- ( أنا و الذبابة ) -.. لو كنا في مربع آخر بلا ثقب مخرج ؟.