نظرة في تاريخ العمارة الاسلامية وواقعنا المعاصر

م. أسامة عبد الله الطنطاوي

م. أسامة عبد الله الطنطاوي

كان المعماري في الإسلام يطلق عليه المهندس أو الحاسب، أما رئيس المعماريين فيلقب بالأستاذ أو الشيخ أو المعلم تقديراً واحتراما، وكان المعماريون كالأطباء يدرسون في الجامعات مثل جامعة (بيت الحكمة) التي أنشئت في بغداد سنة 830م أما مواد الدراسة فتشمل: الرياضيات والحساب والجبر وعلم الحيل (أي الميكانيكا) والرسم إلى جانب العمارة والهندسة، هذا إلى جانب العلوم الطبيعية كالفلك والطبيعة والعلوم النظرية كالدين والحكم.

وهذا الإلمام الشامل بالعلم قد ظهر أثره واضحا في المباني والآثار الخالدة التي طبقوا فيها الكثير من العلوم كالضوء والتهوية، وكان المعماري يضع تصميما للمبنى على لوحة من الجلد.. وبعد اكتشاف الورق استعملوا ورقا هندسيا عليه مربعات، وهذه طائفة من أبرز معماري المسلمين ابن الهيثم وهومن أعظم المعماريين المسلمين بالاضافة الى كونه عالم الفلك والبصريات ، الذي كان أول من وضع فكرة السد العالي على النيل في أسوان سنة 1000م، وقد كلفه الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي بتنفيذه، ووضع تحت أمره السفن وفريقا من المهندسين والفنيين وذهب إلى الموقع الذي اقترحه على النيل حيث أمضى شهوراً في دراسات على الطبيعة، ولكنه وجد أن مثل هذا السد الهائل يحتاج إلى إمكانيات تفوق تكنولوجيا وإمكانيات عصره فعدل عن تنفيذها، ثم نفذت سنة 1961 م أي بعده بتسعة قرون.

كذلك نجد أثر المعمار الإسلامي في تعدد ألوان الواجهات في بعض الكنائس، وكان المعمار الإسلامي في قرطبة مولعاً بهذا اللون، خصوصاً عن طريق استخدام الأحجار والآجُر معاً في البناء، ونجده أيضاً في بعض تيجان الأعمدة الرومانية التي تختلف كثيراً عن الطراز الشائع، وهي في الواقع من تأثير الفن الأموي الأندلسي..

لقد أُثبِتَ تأثيرُ العمارة الإسلامية في العمارة والزخرفة الأوروبية وحتى في الخط الأوروبي، فالخط الكوفي كان له تأثير على الخطوط الأوروبية، وكذلك كان لشكل المئذنة تأثيره في شكل الأجراس في الكاتدرائيات الأوروبية، وهذا أثبته بعض الأوروبيين أنفسهم الذين أثبتوا وجود تأثيرات فنية ومعمارية إسلامية على الفن الأوروبي، بل إن الفن القوطي الأوروبي أساسه العقد المدبب في الفن الإسلامي الذي أُخِذَ عن الأقبية والقباب المروحية في الأندلس؛ فالتأثيرات الإسلامية موجودة حتى في المسكوكات الأوروبية والتصوير، فالفن التيموري له أثره في الفن القوطي الدولي، بل إن فن عصر النهضة الأوروبية نفسه كان متأثرا بالروح الإسلامية، فبعض رواد عصر النهضة الأوروبية نشأوا في بيئات إسلامية، مثل: نيقولا بيزانو الذي عاش في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وهو رائد فن النهضة الأوروبية، نشأ في بيئة إسلامية في مدينة بوليا وكانت جزءًا من مملكة صقلية وهي بيئة إسلامية.

والأوروبيون أنفسهم لا ينكرون أن فن النهضة تأثر بالحضارة الإسلامية خاصة من الناحية العلمية والأدبية، لكنهم لم يكونوا يتناولون التأثير الفني رغم أن النهضة الأوروبية أساسها فني وقامت بفضل الفنانين الكبار مثل: ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وروفائيل سانزيو وغيرهم وخاصة تقنية الزخارف المعمارية والتي اتخذت خصائص مميزة كان لها عظيم الأثر في إبراز المظهر الحضاري لنهضة المسلمين، وازدهرت بدرجة عالية سواء من حيث تصميمها وإخراجها، أو من حيث موضوعاتها وأساليبها، واستخدم التقنيون المسلمون خطوطا زخرفية رائعة المظهر والتكوين، وجعلوا من المجموعات الزخرفية نماذج انطلق فيها خيالهم إلى غير النهائي والتكرار والتجدد والتناوب والتشابك، وابتكروا المضلعات النجمية وأشكال التوريق، وأشكال التوشيح العربي الذي أطلق عليه الأوربيون الأرابيسك ولا يزال هذا النسق العربي في الزخرفة يحظى بالاهتمام في بلدان عديدة منذ ظهر لأول مرة في الزخرفة الفاطمية، وفي مسجد الأزهر، في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).

وقد حذق أهل تقنية الزخارف المعمارية الإسلامية صنعة النحت المسطح والغائر على الخشب أو الحجارة أو الرخام، ومهروا في استخدام المواد الملونة، وإجادة النقوش، واحتل الخط الكوفي مكانة ممتازة بين الموضوعات والعناصر الزخرفية العربية.

واقتبس الأوربيون من كل ذلك ما تشهد به تيجان الأعمدة في كنائسهم أو عقود بواباتها، ولعل من أكثر الآثار الأوربية تعبيرا عن التأثيرات الإسلامية في العمارة والزخرفة المعمارية تلك المجموعة من الكنائس التي بنيت في مدينة "البوي" في وسط فرنسا في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، فقد تجمعت في هذه المباني أمثلة عديدة من العقود المنفوخة والمفصصة وثلاثية الفتحات، لا تختلف عن نظائرها في العمارة الأندلسية، وظهر على واجهات هذه المباني وعقودها تناوب الألوان منظما بالشكل الذي يبدو عليه تماما في قبة مسجد الزيتونة بتونس، وفي عقود مسجد قرطبة.

وانتشرت في تلك الآثار مجموعة من التيجان الحجرية المنحوتة بالنحت الغائر على غرار منحوتات مدينة الزهراء، واتخذت هذه التيجان شكلا فريدا ظهر أول ما ظهر في مسجد قرطبة، ونجد فوق هذا كله خاتم العروبة والإسلام مطبوعا على إحدى بوابات كاتدرائية "البوي" ينطق بعبارة عربية مقروءة واضحة المعنى هي: "الملك لله".

ومن الجدير بالذكر أن جماليات العمارة الهندسية الإسلامية امتدت لتشمل القناطر المائية والجسور والقنوات، وكانت تقنياتها رائعة التخطيط والتنفيذ، تعطي الماء المار في القنوات والأنهار بُعدًا جماليا إضافيا عند المشاهدة.

وهذا يعنى أن العمارة الإسلامية وتقنياتها الهندسية والجمالية كانت مظاهر طبيعية لعصور الازدهار في حضارة الإسلام، أو امتدادا طبيعيا لهذه الحضارة العريقة، فعن علاقة الحضارة بالعمران يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الدولة والملك للعمران بمنزلة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ لوجودها، وانفكاك أحدهما عن الآخر غير ممكن على ما قُرِّرَ في الحكمة، فالدولة دون العمران لا يمكن تصورها، والعمران دونها متعذر، فاختلال أحدهما يستلزم اختلال الآخر، كما أن عدم أحدهما يؤثر في عدم الآخر.

ويتجلى أثر عمارة المسلمين في الحضارة الغربية في ذلك الحدث الذي يحكي أن إمبراطور الرومان (إليون) عندما سمع أن المسلمين قد بنوا مسجدا في دمشق يعتبر أكبر معجزة معمارية في عصره لم يصدق ذلك، وشكل بعثة من المهندسين والمعماريين الرومان وقال لهم: "إن المسلمين قد غلبونا في حروب البر.. ثم غلبونا في حروب البحر، ولكن أن يستطيع رعاة الغنم وسكان الخيام أن يغلبونا في فن العمارة فهذا مالا أصدق به أبد.. فاذهبوا إلى دمشق وزوروا المسجد الأموي وأخبروني بحقيقة الأمر.

وتقول الرواية: إن المعماريين الرومان عندما شاهدوا الرسوم التي وضعها المسلمون للمسجد لم يصدقوا أن هذه يمكن تنفيذها، فلما زاروا المسجد وقفوا عليه في ذهول أمام روعة الفن والعمارة.. وشهق رئيس المعماريين شهقة عالية كادت تصعد معها روحه، وتقول الروايات الإسلامية: إن هذا المسجد قد اعتُبِر في عصره المعجزة الخامسة؛ لأن المعجزات التي كانت معروفة في ذلك التاريخ والتي من صنع الإنسان كانت أربعة، وقد وضع حجر الأساس لهذا المسجد الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 86 هـ واستغرق البناء عشرين عاما في عهد أخيه سليمان ثم عمر بن عبد العزيز. 

وهذه القصة تعطي فكرة عما وصل إليه المسلمون في ذلك العصر المبكر من تاريخهم في فن العمارة، وكغيرها من بقية العلوم التطبيقية الأخرى فإن العمارة الإسلامية كان لها بالغ الأثر في الحضارة الغربية الحديثة، وقد تبدّى هذا الأثر أولا في أسبانيا، ثم انتقل منها إلى فرنسا، ثم إلى سائر بلاد أوروبا، وبدأ هذا الأثر خصوصاً بعد أن احتل الأسبان طليطلة سنة 1085م، واستمر ينمو ويزداد كلما توغَّل الأسبان في عملية الاسترداد حتى أواخر القرن الخامس عشر.

وهذا التأثير يكاد يكون عربياً خالصاً، وهو الفن المدجَّن أو المعمار الذي قام بتشييده المدجنون، وهم العرب المسلمون الذين بقوا في البلاد التي استعادها الأسبان، وكان منهم بناءون مهرة استعان بهم حكام المقاطعات الأسبانية في تشييد الأبواب الكبرى للمدائن وفي تشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر وسائر أنواع المعمار.

ونظرة الى واقعنا المعاصر الذي يشهد انقيادا غير متناهي وانبهارا أعمى لحضارة الغرب و في الوقت نفسه نعيش تراجعا حادا للمعماريين المسلمين من النواحي الفكرية و الابداعية نتيجة بعدهم عن دورهم الريادي في تأصيل مفاهيم العمارة الاسلامية بما يتجاوب مع متطلبات الفرد المسلم في وقتنا الحاضر، بحيث أضحت العمارة الاسلامية مجرد نقوش وزخارف ورموز ليس لها أي تأثير ايجابي يمكن أن يشكل إضافة حقيقة للعمارة العالمية كما كان سابقا لدى أسلافنا في العصور الاسلامية الزاهرة.