ورش العمل الشيطانية
اجتيال الفطرة
جمال المعاند -إسبانيا
في الدعوة الإسلامية رجال يؤثرون الظل ، وهم ، برأيي، الأعمدة الراسيات للعمل الدعوي .
وبداية فإن ما سأخُطه لم يأذن لي صاحبه إلا بعد معالجة ولأْي .
أهدت لنا أرض الكنانة في أسبانيا رجلاً من ذوي البسطة في العلم ، جَمُّ المَلَكات، ويحمل مـن الإنصـاف والتواضع الكثير ، والإنصاف غدا بضاعة مزجاة، فكثيرون منا - إلا من رحم ربـي – إن تحمله الدعوة يلهث ولو لشمعة من ضوء، أو تتركه يلهث . اختارت له الأقدار مركزا ً إسلاميا ً في بلدة صغيرة ، كأن القدر توافق مع رغباته ، فلا يخرج من مركزه إلا لواجب دعوي صريح .
الشيخ محمود في العقد السادس من العمر لمجرد اللقاء به تلحظ عنده المكنة الشرعية واللغوية ، أختلف إليه كلما سنحت لي فرصة ، وكثيرا ً ما أتاحت لقاءاتي معه فرصة لتلقيح أفكاري ، ولربما اقترح علي فكرة استفدت منها في مقال أو قصة ، ومنها وُرَش العمل الشيطانية التي كتبتها أساساً قصة قصيرة ، فأصر الشيخ محمود ، بعد اطلاعه عليها، أن تكتب سلسلة، وهاأنذا أخط الورشـة الرابعـة منها . وبعدما أطلعته على ورشة التربية الشيطانية ، قال : وددتُ لو كتبتَ عن الفطرة، وتمنيت لو سبقت هذه الورشة . ذهلت لفكرة الفطرة، فأنا لا أملك إلا نُتَفاً من المعلومات حول الفطرة، ولم تكن تعني بذهني إلا الجِبِلّة عند الناس الأسوياء.
ثم أردف قائلا ً : نعاني يومياً ممن يؤمون المركز ، طلباً للرقية الشرعية، لكن المشكلة باعتقاداتهم الخاطئة تعود لإيمانهم بقدرات الجن الخارقة .
رجعت من عنده ، وأنا أفكر في الفطرة ، ومما لمع في ذهني أن الجن مخلوقون، ومهما كانت قدراتهم، فهم بحاجة لما يقيم أَوَدَهم ، وبالتأكيد لهم نزوات ورغبات ، فمن غير المنطقي تفرغهم للإنسان على مدار الساعة . هنا أدركت إماءة الشيخ محمود .
عدت إلى مكتبتي المتواضعة، وإلى مكتبات المراكز الإسلامية القريبة وأبحرت في الـ "نت"، بحثا ًعن موضوعات ذات صلة، فَجُلُّ ما حصلت عليه لا يسمن ولا يغني من جوع ، وأنفس ما حصلت عليه أن ثمة نصاً للحديث الشريف المعروف " ..اجتالتهم الشياطين .." برواية احتالتهم الشياطين ، بالحاء المهملة وليس بالجيم المعطشة ، وراقني لفظ الاحتيال لأنه يخدم فكرتي التي وصلت إليها .
وأكرر ما قلته : إن جميع ما كتبت عن الورش أظنه وسوسة شيطانية في الغالب ولا صلة لي بهم إلا قرينتي، فعمدت إلى طقوس استحضارها ، فجلست منفردا ً وعمدت إلى التحدث بصوت مسـموع عن مشكلاتي، فكانت النتيجة: " لقد أسمعت لو ناديت حياً " ، مما زاد من قناعتي أنهم يغيبون في أوقات كثيرة، ولا يعلمون ما يُحَدِّثُ الإنسانُ به نفسَه . ذهبت إلى مقهى، عادة ما أجلس فيه لشرب كوب من القهوة ، وأخذت بتقليب الأمور فبدأتُ أُحِسّ بوسوسة تزداد شيئا فشيئا ً فعملت أن قرينتي حاضرة فأردت استدراجها لموضوع الفطرة فتلفظت بكلام مسموع .
فقالت : اسمح لي ...أنت ممن لا ينبض فيه عرق حمية أحيانا ً.
فهمت مقصدها. إنها تشير إلى مشكلة حدثت في المركز آثرت الانسحاب منها ، تسبب بها رويبضة .
قلت : عندما احتاجك لا أجدك .
قالت : بماذا تحتاجني ؟ .
قلت : كأن تشيرين علي ببعض الآراء .
قالت : لكنك قلما تأخذ بنصحي .
قلت : هل تريدين إلغاء عقلي ؟ .
قالت : لا ولكنك مستبد برأيك
قلت : ألم أشاورك بعديد من القضايا .
قالت : شاوروهنً وخالفوهنّ .
قلت : أبداً لطالما استفدت من مشورة على الأقل الاحتياط من ثغرة نقد .
قالت : ولو أن كلامك غير مقنع، فسأفرض أنه صحيح .
قلت :برأسي فكرة أريد أن نتجاذب فيها أطراف الحديث .
قالت : ما هي ؟ .
قلت : الفطرة ، وددت لو اطلعتني على ما تعرفين عنها .
قالت : أطلعك؟ ...أطلعك؟ تتعبني بلا مقابل؟! .
قلت : أمرك عجب ، هل ترغبين بالإعراض التام ؟ .
قالت : لا، لكن أريد اتفاقات عملية .
قلت : هذا الذي أخشاه أن يفهم كلامي على غير محمله ، انسي الموضوع .
قالت : ما أسرع غضبك؟ . ثمة موقع على " نت " الجن يُعْنَى بمثل هذه الدراسات .
شعرت بالزهو وأنا أقنعها بمعرفة كيف يفسدون الفطرة فقلت : هلم ندخله .
نَصَبَتْ ورقةً تحملها فإذا هي شاشة عرض. ثم ظهرت خطوط وأشكال هندسية وموسيقى تبعث على الاشمئزاز
ووضحت الصورة على ما يشبه مواقع الـ "نت " عندنا ، رسومات وإلى جانبها أشكال، من خبرتي السابقة عرفت أنها من كتاباتهم .
فقلت : بما أنه موقع علمي رصين دعيني أسأل وابحثي أنتِ عن الإجابة وتكرمي علي مشكورة بالترجمة . السؤال الأول : ما الفطرة عند بني آدم ؟ .
أخذت بالكتابة داخل مستطيل بنفس اللغة المكتوبة ، ثم غابت بعض الشيء وظهرت كتابة جديدة ، وقرأَتْها لي على النحو التالي :
" استعدادات جِبِلِّية توجد في الناس ، من غير اكتساب " .
قلت : هل لي بأمثلة؟ . أكملت: الميل للجنس الآخر والعاطفة والضحك والبكاء وعموم استجابات الغرائز من غير تدافع مُفْضٍ إلى صراع .
قلت : هل الإنصاف من الفطرة ؟ . أخذت تكتب ثم قالت : نحن نتكلم عن الفطرة الخام . نعم العدل الجلي والتعاون من الفطرة .
قلت : معرفة الله سبحانه وتوحيده ؟ .
قالت :سبحان الله، هذه بدهية من الفطرة .
قلت : أقصد أن السؤال المهم ، لماذا تتغير الفطرة الخـام عند الإنسان ولا يبقى منها إلا أثار طفيفة ؟.
قالت : طبيعي فهي استعدادات خام تزيدها الحياة خبرة وحنكة .
قلت : ألا يوجد على هذه المواقع دراسات، لشركائنا في إعمار الأرض، حول ذلك ؟ .
قالت : أحسنتَ، بدأت تفهمنا، نحن نساعدكم لأننا عُمّارُ كوكب واحد، بمعنى أننا نركب سفينة واحدة .
قلت : ما أسس تطوير فطرة هذا الكائن المتخلف المدعو بالإنسان ؟ .
قالت : بدأتَ تتفلسف! القضية مجرد نقل خبرة فنحن قبلكم في هذا الوجود، وقد منّ ّالله علينا بعقول عملت للتقدم والتطور ، ولأننا معنيون بنفس الأرض، نحاول مساعدتكم كما تساعد الدول المتقدمة الدول المتخلفة عندكم .
قلت : معك حق فعلاً تساعدوننا مثلما تساعدنا أمريكا في الديمقراطيـة، فنحصل على شيء إن حصلنا عليه ، لكن دونه خرط القتاد .
قالت : التخْلية قبل التحْلية ، والتخلية تُتْعِبُ بعض الشيء. وثمة أمثلة أخرى للفطرة الخام مثل التفكير والعلاقة بين الأرحام ، وفي الجانب النسائي خدمة المرأة للبـيت...
قلت : سبحان الله العظيم، خَلَقَ الخلقَ وجهزهم بما يحتاجون .
قالت : لكن هذه الأمور الجبلية تُنَمّى بالخبرة الحياتية .
قلت : دعينا نتحدث عن سنن الفطرة العشرة الواردة في نـص حديث رواه مسلم: ( كقص الشارب وتقليم الأظفار ...)
قالت : أحسنت، فهي خير دليل لعدم ترك الفطرة الخام بل تشذيبها .
قلت : فهمت أنتم تحاولون تشذيب الباقي من الفطرة . ولكي أفهم، وأنت تعلمين أني رجل غير متسرع بالفهم قبل أن يقضـى إلي أدق جزء فيه ، أسأل كيف يتطور مفهوم العدل ؟ .
أخذتْ بالكتابة ، ثم نظرتْ، ومن ثَمَّ عادتْ للكتابة ، وقالت : العدل أمر متعدد الجوانب والأبعاد، والتحديد مُعِينٌ على الدقة ، وبشكل عام لو بقي الإنسان على الفطرة الخام لأكل القط عشاءه كما تقولون .
قلت : نحدد على المستوى الشخصي. يمكننا القول عنه: إنه إنصاف . [ وأنا أتحدث وهي تكتب ]، وبعد برهة قالت : الإنصاف كما قلت مطلبٌ يجب أن لا يغفل النفع الذاتي وإلا غدا سذاجة .
قلت : ماذا عن عدل الحاكم؟ فأنت تعلمين عن حكام المسلمين المعاصرين، كما يعلم الجميع، أنهم عادلون عدلاً لا مثيل له في القارات كلها .
قالت : أفهم تَهَكُّمَكَ؟ . لكنّ لكل بلد ظروفاً، وحق لكم، أنتم المسلمين، لو تُعملون عقولكم، أن تفخروا بزعمائكم، لكن هل من بيدهم السلطة وحدهم تَشْكُون منهم، أم كل من يملك قوةً أو مالاً... ؟.
أفحمتني فظاهرة التعسف بالسلطة لا يمكن حصرها بالحكام ، مما دلل على نجاح الشياطين بإفساد فطرة كثير من الناس .
قلت : الميل للجنس الآخر فطري، فكيف يتم تطويره ؟ .
رمقتني بنظرة دلت على عدم ارتياحها لهذا السؤال، وقالت: أفهم ما تومي إليه. تريد أن تحمِّلنا الفساد الظاهر في كل مكان ، إن المسألة أدق مما تتصور وتحتاج لشرح طويل، فمسألة الاختلاط، وهي حرية شخصية، نساعد فيها الناس للتعارف فحسب . وهي نـوع من الاجتماع يفضي للتنافس وبالتالي التطور، بيد أن البشر – إلا من رحم ربي – يحصرونه بطريق الشهوات، على الأخص المسلمين فيؤدي إلى الانحراف عن الفطرة .
قلت : ما العلاقة بين التدين والفطرة ؟ .
عادت للكتابة وظهرت صفحات طوال وهي تلتهمها قراءة ، ثم تقفل نافذة وتفتح أخرى ، واعتراني قلق لفترة ، ثم قالت : الموضوع متشعب وما نُتَّهم به نحن، من إفساد الناس، محض افتراء. يرتكز الدين على الطباع السليمة وثمة عزائم لها خصوصية الطاقة العالية لا تصلح قدوة لجميع أبناء آدم، المصيبة في محاولة بعض منهم التقليد كمثل من يقلد السلف ولا يأخذ بعين الاعتبار طاقته الذاتية وهذا مخالف للدين والفطرة ، فالدين يراعي وسطية تناسب استعدادات عند معظم البشر، وما يفعله بعض الزملاء من القرناء، هو تشجيع التميز لقرينه البشري، لكنه لا يملك سلطة إيقاف الإنسان إذا انزلق .
قلت : نعود لسنن الفطرة ما يلاحظ من تبتيك الآذان وإطالة الأظفار .... هل هو تشذيب وتطوير للفطرة الخام ؟ .
قالت: هي من العادات. فمثلاًً إطالة الأظفار قديماً كانت سبباً لجمع الأوساخ، أما الآن فقد انتفت العلة مع وجود المنظفات .
قلت: أود طرح سؤال مهم كيف يعمل القرين على تشذيب وتطوير الفطرة ؟ .
قالت: عمل مضنٍ يبدأ من تعديل المقاييس أو المعايير للانتقال من البدائي للمطور، ولا يتم ذلك إلا ببذل جهد ، وإقناع إغرائي، كالحضارة والحرية والمصلحة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتطلب تضافر جهود القرناء جميعاً،ً لتهيئة الجو العام، وإلى تكوين مؤسسات عامة .
هنا اختلستُ نظرةً إلى ساعة المقهى، فعلمتُ أني قد تأخرت عن موعد العمل، فقلت لقرينتي: أَزِفَ وقت الرحيل. ربما للحديث صلة.
ولملمت أوراقي التي كنت أكتب فيها، فيما ودعني صاحب المقهى بابتسامة وهو يحدِّثُ رجلاً إلى جانبه: إنه ليس مجنوناًً، بل يُحدث نفسه دائماً، يجلس في نفس المكان على هذه الحالة. أظنه شاعراً.