فاتح الأندلس

فاتح الأندلس

عدنان عون

[email protected]

*صفحة من التاريخ :

في زمن السقوط والتراجع، زمن الهزائم والتقهقر، يشعر الإنسان بالإحباط، ويعيش حالة الانكسار النفسي، ثم لا يجد ملاذاً يأوي إليه، ويأنس تحت ظلاله إلا الإيمان والذكريات، فإذا بالذاكرة تبحر عميقاً في التاريخ، تستجلي مواقف العزة والكرامة، وتستعيد معالم النصر التي تبعث في النفوس الافتخار والآمال·

وهذه صفحة مضيئة من صفحات ذلك التاريخ العظيم المشرق الذي صنعه الإسلام برجال العقيدة والإيمان، ممن خرجتهم مدرسة محمد (صلى الله عليه وسلم)· وحق لتاريخ اعترف بفضله وعظيم ما قدم للبشرية الأعداء والأصدقاء والعقلاء والمنصفون أن يخلد في ذاكرة التاريخ، وأن تفخر به الأجيال عبر العصور· وأن يستقوا منه الدروس والعبر في كل شؤون الحياة·

إنها صفحة من صفحات تاريخ الفتح الإسلامي··

الفتح الذي شرق وغرب ثم لم يشهد له الناس مثيلاً في قيمه وأخلاقه وسموه ومقاصده·· فلم يكن فتحاً للملك ولا لاستغلال الأمم واستعباد الشعوب، وإنما كان فتحاً عظيماً مباركاً·

كان فتحاً للقلوب والعقول، على حقائق الوجود، وروائع العلوم وعجائب النفوس··  فتحاً عرَّف الدنيا كلها عظمة هذا الدين الإنساني الخالد الذي جاء ليحرر الإنسان، ويضعه على الجادة كيما يؤدي مهمته في الحياة، فتتحقق له سعادة الدنيا والآخرة·

وإنما يصنع تاريخ الأمم رجال اجتمعت فيهم خصائص العظمة والعبقرية والإنسانية وكذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وأتباعه··

وليس أصدق حكماً على التاريخ من التاريخ·· فماذا قال التاريخ عن المسلمين؟

قال: ما عرف التاريخ فتحاً أعظم ولا أخلد ولا أرحم ولا أنفع من الفتح الإسلامي· فقد كان من عجائب صنع الله، بركة على المسلمين وعلى الإنسانية كلها، إذ حمل جند الإسلام العقل الجديد الذي وضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، ورسخ قيم العدالة والحرية والمساواة والسلام، لأنهم كانوا ينبعثون في قتالهم من حدود دينهم وفضائله، ويمضون على هدى من مقاصد الإسلام، وتوجيهات الرسول (صلى الله عليه وسلم)·

* فاتح الأندلس:

فمن يكون فاتح الأندلس الذي خلد في التاريخ صفحة من روائع صفحات التاريخ؟

إنه أحد الذين قذفت بهم إلى الوجود الإنساني رحم الإسلام·· وربته مدرسة العقيدة والإيمان، وبوأه المكانة التي وصلها إخلاصه ومواهبه وعبقريته الإدارية والعسكرية·

موسى بن نصير من موالي عبدالعزيز بن مروان·· عرفته العراق أميراً أو قل نائباً للأمير، فأبانت امارته مظاهر عبقريته ونجاح إدارته السياسية، فقد ساس الناس أعدل سياسة، ولولا أن الحجاج أوغر صدر عبدالملك بن مروان لنعم العراق في ظل امارته بصفحات رائعة·

وحفظته الأقدار من مكر الحجاج فنجا برسالة من صديق بعث يقول له:" إنك معزول، فالنجاة النجاة، ولا تمكن رجل ثقيف منك "·

وكأن القدر كان يضعه على مفرق الطريق·· هناك في افريقية ليسجل في تاريخ الإسلام صفحات من الفتح العظيم للأندلس·

ولاذ موسى بن نصير بمولاه عبدالعزيز بن مروان، الذي أقنع عبدالملك بالعفو عنه واستأذنه أن يكون معه في مصر·

وتولى موسى بن نصير قيادة الجيش، فكان أنموذجاً رائعاً لقيادة ساست جندها بشدة من غير عنف، ولين في غير ضعف، وتواضع في غير مذلة· وعرف الجنود في قائدهم صورة للقائد الكامل·

وجه موسى بن نصير هِمته إلى الفتح ، ولئن حال البحر يوماً دون متابعة عقبة بن نافع الجهاد، فإن موسى بن نصير تجاوز البحر بإرادة عجيبة وعزيمة ماضية، وتمكن من صنع السفن التي عبرت بجنده إلى اسبانيا·

وكان وجنده يحملون روح الإسلام التي جعلت منهم قوة لا تقف في وجهوهم العقبات ولا تمنعهم من متابعة جهادهم المعوقات·

وبعبقرية القائد الملهم، جرد للفتح حملات صغيرة كانت مقدمات للفتح العظيم·

تحالف مع جوليان، وبعث طريف بن مالك في حملة عبدت له طريق العبور وشجعته على اقتحام المجهول، وخاض معارك الانتصار الذي أبقى دويه في التاريخ·

ثم انتدب موسى مولاه طارق بن زياد للفتح·

وطارق من الرجال الأفذاذ والقواد الأخيار صادق العزيمة، قوي الشكيمة شديد البأس، صلب العود·· قيادة فذة، وبيان أخَّاذ·

ومضى طارق بجيشه يعبر بهم البحر (عام 29)· بعد أن رأى رسول الله في نومه يقول له (تقدم يا طارق لشأنك) ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه·

وفاجأ لذريق طارقاً بجيش جرار مزود بكل القوة والسلاح ولكن لم يثن ذلك كله عزيمة طارق ولم يضعف إيمانه وقناعته ــ بعد ماوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ بالنصر·

وبعث طارق إلى موسى يطلب منه مدداً·· فأمده موسى بخمسة آلاف، وتمكن طارق من قتل لذريق وحلت بالقوم هزيمة منكرة وتفرقوا أيادي سبأ·

وأعلم طارق موسى بالنصر المبين وبالغنائم، فأبت عليه نفسه إلا أن يكون مشاركاً في شرف الفتح العظيم·

ومضى موسى بجنده يعبر البحر إلى الأندلس عام 39 وتمكن حين وصوله من تحقيق انتصارات كثيرة حتى دانت اسبانيا كلها لهم·

وبالرغم من عتب موسى الشديد على طارق إذ عصى أمره إلا أن الوليد بن عبدالملك كتب إلى موسى بمصالحته واطلاقه·

ثم مضيا إلى فتح شمال اسبانيا حتى وطئت أقدام جندهما جبال (البرانس ) وجنوب فرنسا·

* ثمرات الفتح:

لقد كان فتحاً عظيماً وكبيراً غيَّر حالة أهل الأندلس، فأزال عنهم الحكم القوطي بكل مساوئه وطغيانه، وأنصف الفتح اليهود الذين اكتوا وذاقوا الأمرين من حكم القوط· وأحسن المسلمون معالمة الناس هناك ونشروا العدل والسلام فيهم فدان كثير من الأسبان بالاسلام وتحولوا إليه لما شاهدوا من روائع التسامح الديني·

ورأى أهل الأندلس أن الإسلام كان بحق منقذهم من كل ما عانوا في ظل الطغيان والفساد.