فلسطين بعد ستين عاماً

فلسطين

بعد ستين عاماً أو بعد

مائة وستين عاماً أو أكثر من ذلك

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

لا أظنّ أن التاريخ البشري شهد قضية مثل قضية فلسطين ، وما تحمل من ظلم وعدوان كبير ، واستكبار في الأرض من المجرمين ، وفساد في الأرض واسع ، وما تحمل في الوقت نفسه من هوان المسلمين وتخاذلهم وتفرّقهم :

أمـة  الحقِّ ! ما دهاك iiفأصبحتِ
كُـلّما  رُمْتِ مُلْتقىً كنتِ في iiالسا
*              *              ii*
يـا ديـار الإسلام ! مالك iiأَصْبح
كيف مُزِّقْتِ ؟! كنتِ عهداً مع iiالل
كُـنْـتِ عـزْماً لنُصْرَة الله ساحاً
كُـنْـتِ ظـلاَّ مـن الهجير iiنديّاً
كُـنْـتِ أمـنـاً للخائفين iiوعوناً
كُـنْـتِ نوراً على البسيطةِ مُمْت
كيف ضاعت منكِ الأماني فأصبح
أطْـبَـقَ الـمجرمون فوْقَ iiربانا










شـظـايـا  تـناثرت في iiالنجادِ
حـةِ  أَوهـى من حفنةٍ من iiرمادِ
*              *              ii*
تِ  شـتـات الأهـواء iiوالأنجادِ
ه  وجـمـع الـقلوب iiوالأعضاء
وربـى مـن مـلاحـمٍ iiوجـهادِ
ومــلاذاً لـخـائـفٍ iiوشِـرادِ
لـضـعـافٍ وعـزَّةً iiلـجـوادِ
دّاً  وهـديـاً مـع الليالي iiالشِّدادِ
تِ  غُـثـاءَ الـهـوانِ iiوالأحقادِ
واسـتـباحوا الحِمى وساحَ البلادِ

ليست القضيةُ كبرَ الأعداء وشديد عدوانهم وإجرامهم فحسب ، ولكنها في الدرجة الأولى هواننا نحن المسلمين وتراجعنا عن رسالة الإسلام ، وعدم وفائنا بعهدنا مع الله ، وهو عهد مفصّلٌ بيِّن في الكتاب والسنة ، مؤكَّد مع جميع الأنبياء والمرسلين والمؤمنين المسلمين الذين اتَّبعوهم على دين واحد هو دين الله ، دين الإسلام .

وأكثرنا في شعاراتنا لوم الأعداء ولومهم ومجابهتم حقٌ ، ولكننا لم ننظر في أنفسنا ، كأننا نريد من أعداء الله أن يُشْفِقُوا علينا ونحن متفلّتون ، غير مستمسكين بدين الله ! ولم نعد كالذين وصفهم الله فقال عنهم :

( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )

 [ الأعراف :170]

شغلنا أنفسنا باتهام الأعداء ومثالبهم ، ولم نلتفت لأنفسنا وأخطائنا وانحرافاتنا ، ولم نبذل الجهد لإعداد القوّة التي تحمى الديار ، ولا الجهد لبناء الأُمة المسلمة الواحدة صفاً كالبنيان المرصوص .

بعد هذا التاريخ الطويل نسبياً لقضية فلسطين لا يُعقل أن يكون الحديث استعراض الأحداث ، فقد كُتِبَ عنها الكثير الكثير . ولكننا نريد أن نخرج بالفهم السليم والوعي الصحيح للأحداث ، لنحدّد الصواب والخطأ على ميزان حقٍّ ، ونرسم الدرب والأهداف على صراط مستقيم .

وأول ما نذكر به أنفسنا والدرس الذي يجب أن نتعلمه هو أن مع وجوب دراسة الأعداء ومعرفة أساليبهم وجرائمهم والتنديد بها ، يجب في الوقت نفسه أن لا ننزّه أنفسنا عن الخطأ ، ويجب أن ننصح أنفسنا بصدق وصراحة وأمانة :

مـالـي ألوم عدوّي كلما iiنزلتْ
وأدّعـي أبـداً أني البريء وما
أنـا  الـمـلومُ فعهدُ الله iiأحملُهُ


بـي  المصائب أو أرميه بالتُّهمُ
حملتُ في النفس إلا سقطة اللَّمَمِ
ولـيس يحمله غيري من iiالأممِ

ويجب أن نتذكر بأن كل ما يجري في هذا الكون يمضي على قضاء من الله نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة وسنن لله ماضية ، وعدل قائم لا ظلم معه أبداً .

ولنستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [ الشورى :30]

فأعتقد أن الخلل فينا نحن المسلمين ، وأنه خلل ظاهر للعيان ، فهل نتوب ونؤوب ونعود إلى الله صادقين !

في مسيرتنا خلال هذه السنوات برزت مظاهر واضحة نوجزها بما يلي :

1.    غلبة الضجيج والشعارات والمظاهرات والارتجال ، وغياب الرَّوِيَّة والتفكير ، وغياب التناصح .

2.  غياب الدراسات المنهجيّة العميقة التي تحمل الأهداف وتحدّدها بصورة واضحة على أن تكون الأهداف ربانيّة ، وتكون الدراسات إيمانيّة ملتزمة بالكتاب والسنة ، إلا القليل ! .

3.  على أساس من الروية والتفكير ، وصدق التناصح ، والدراسات المنهجية الإيمانية ، والأهداف الربانية ، كان يجبُ أن توضع خُطّة العمل والمسيرة لتحقيق الأهداف الربانيّة ، والتي من أولها وأهمها بناء الأمة المسلمة الواحدة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، الأمة التي تتابع المسيرة لتحقيق باقي الأهداف عبادة لله وطاعة له .

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ آل عمران :105]

فجمعوا كلّ تجاربهم مع الإسلام ابتداء من بعثة محمد r إلى معركة الأحزاب وسائر معارك الإسلام في تاريخه الطويل ، والحروب الصليبية وغيرها ، فوضعوا على أساس ذلك خطتهم المفصّلة ونهجهم الطويل ، لتدمير العالم الإسلامي ، لِيَشُقُّوا طريقهم إلى كل الخيرات والثروات والكنوز . وما تركوا وسيلة من وسائل الإفساد والفتنة والانحرافات الفكرية ، وتوهين اللغة العربية ، وإبعاد المسلمين عن الكتاب والسنة ، وغرس الفرقة بينهم ، ونشر الحزبية لتمزّق الأمة أو تزيد في تمزيقها ما تركوا من ذلك شيئاً إلا فعلوه بتعاون تام بينهم وتنسيق كامل .

 والحقيقة الأخرى التي تنكشف لنا أن خيوط القضية ، قضية فلسطين ، كلها بيد الدول الكبرى التي تحرّك القوى العاملة كما تشاء ، بالاستدراج أو الإرهاب أو الإقناع ، أو أي وسيلة أخرى . وقد يبدو لنا موقف يضجُّ بالوطنية والشعارات المدوّية ، وفي حقيقة الأمر يكون الموقف نتيجة توجيه قوى أخرى هي التي تمدّ هذا الموقف بالمال والإعلام والدعم والتأييد ، مما يزيد الأمة تمزيقاً ، كل فريق ينعق بما يُملى عليه ، متخفياً تحت شعار الوطنية أو الديمقراطية أو العلمانية ، أو المصلحة العامة . أَّما الإسلام ، حتى من حيث الشعار ، بدأ يختفي شيئاً فشيئاً ، حتى صدق فيهم قوله سبحانه وتعالى :

 ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [المؤمنون :53]

 والحقيقة الأخرى أنه لم يعد بالإمكان عزل قضية فلسطين عن سائر قضايا العالم الإسلامي في ذلّه وهوانه ، ومشكلاته وصراعه ، وتمزّقه وهوانه ، فبالنسبة للمجرمين هي قضية واحدة ، أما بالنسبة للمسلمين ، فقد شغل كل فريقٍ بمشكلته مما أوهن الجميع !

 والحقيقة الأخرى كذلك أنه عمَّ في العالم الإسلامي النزعات الإقليمية والعائلية والقومية والحزبية ، وجميع أشكال العصبيات الجاهلية التي أصبحت هي التي توجّه الأدب والكلمة والسياسة والاقتصاد ، والتربية والتعليم .

 لقد مرّت قضية فلسطين خلال هذه السنوات الطويلة : الستين عاماً أو الأربعة وتسعين عاماً ، بمراحل متعدّدة ، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ، وَهنٌ عام طاغ بين المسلمين ، وتفرّق جاهلي مسيطر أهْلَكَ العقول والنفوس ، والصراع ممتدٌّ بين الفلسطينيين أنفسهم ، الصراع الذي لا يجد فرصة لقاء أو تفاهم ، لأن كل فريق اتخذ أسساً وقواعد ثابتة لديه تختلف عما لدى الآخر ، وتبادل الاتهامات والسباب أبعد كل فرصة للتّفاهم .

 وإننا نلمس التناقض الشديد في التصريحات والمواقف . فحين يصدر في وسائل الإعلام شدة الاتهامات بالخيانة ، نسمع في الوقت نفسه الدعوة إلى الوحدة الوطنية والتلاقي . والأعجب من ذلك أن الجميع يتصلون بأمريكا وأوروبا وغيرهما للتفاهم والتفاوض سرّاً ، وآخرون يجرون ذلك علناً ونهجاً معلناً !

 ولكن الضربة الشديدة إلى قضية فلسطين هو التنازل العمليُّ والحقيقيّ ، بغضّ النظر عن الشعارات الإعلامية ، مثل تحرير فلسطين كلها ، ويتستَّر بعضهم في عجزهم وفشلهم في تحقيق شعار التحرير الذي انطلقوا به جميعاً ، خلف ادعاء الهدنة الطويلة المدى ، أسلوب لا يصلح في ميدان السياسة الدولية ، أُسلوب مكشوف يعلن العجز والاستسلام ويخدم الأَعداء ! كأنما كان شعار تحرير فلسطين كلها من الشمال إلى الجنوب ، ومن الشرق إلى الغرب شعاراً يهدف إلى جمع الأنصار والمؤيّدين في سوق التنافس والمزايدات على ذلك . وكأن العمليات الفدائية التي دوّى بها الإعلام كانت كذلك وسيلة لجمع الأنصار ، وإثبات الوجود في الساحة ، فمعظم العمليات لم تكن قادرة على تحرير فلسطين ولا على القضاء على إسرائيل ، ولا على إلقائها في البحر ! لم تكن هذه كلها إلا مزايداتٍ وتنافساً على الدنيا ، لا يصاحبها نهجٌ واضح عملي ، ولا خطّة مدروسة .

 ولا نعتب على هؤلاء وهؤلاء الذين مضوا دون نهج ولا خطة فحسب ، ولكننا نعتب ونأسى على واقع الأمة كلها ، الأمة التي لم يظهر منها أحد يخاطب هؤلاء وهؤلاء ويسألهم : أين نهجكم وخطتكم لتحقيق الأهداف التي تُعلنونها ؟؟؟!!!

 فلننظر إلى نتائج فترة قصيرة ، فترة الانتفاضة الأولى بكل شعاراتها ، وفترة الانتفاضة الثانية بكل دويّها ، فماذا كان الجنى ؟! انتقلت دولة اليهود خلال هذه المرحلة من مساحة 56% من أرض فلسطين حسب مقررات هيئة الأمم المتحدة إلى ما يقارب اليوم من 90% من أرض فلسطين اليوم ! لقد انتقلت هذه النقلة الكبيرة بالتدبير والنهج والتخطيط ، ونحن مع دويّ شعاراتنا رجعنا إِلى الوراء !

 بعد ستين عاماً منذ سنة 1948م ، نرى أن جميع الشعارات التي أُعلنتْ لم تتحقّقْ ، وأن اليهود حقّقوا الكثير الكثير من أهدافهم المعلنة والمخفيّة ! ومن الخطأ الكبير أن نقول بعد " ستين عاماً " ! فقضية فلسطين كانت بدايتها قبل ذلك بكثير . قد لا نستطيع تحديد نقطة البداية بالدقة ، ولكنه من المؤكد أنها بدأت على الأقلّ مع ظهور أربع حركات أو إشارات :

أولاً : اهتمام كثير من الدول الأوروبية بالحركة الصهيونية وعودة اليهود إلى فلسطين ، مثل انكلترا وفرنسا وغيرهما . فبريطانيا من أقدم الدول التي أبدت اهتماماً واضحاً ونشاطاً جاداً في هذا الاتجاه . فنجد " بالمرستون " يبذل مساعيه لدى السلطان العثماني لإعادة اليهود إلى فلسطين ، وذلك سنة 1840م . ولما فشل أصدر تعليماته لقناصل انكلترا في الدولة العثمانية لحماية اليهود . ثم توالت الدول الأخرى . وكذلك وعد نابليون بونابرت اليهود بإعادتهم إلى القدس وبناء هيكلهم ([1]) .

ثانياً : قيام المؤسسات والشركات الصهيونية : الاتحاد الإسرائيلي العالمي ، الاتحاد اليهودي الإنجليزي ، جمعية محبيّ صهيون ، جمعية الاستعمار اليهودي ، وهذه كلها في القرن التاسع عشر ([2]) .

ثالثاً بناء أول مستعمرة لليهود في فلسطين في غفلة كاملة من المسلمين : مستعمرة " بتاح تكفا " سنة 1878م ([3]) .

رابعاً : مؤتمر بال 1897م ، وقيام الوكالة اليهودية لتشرف على حركة الاستيطان في فلسطين . ويدعم ذلك كله أغنياء العالم من اليهود وما أكثرهم ([4]) .

 الذي يهمنا من هذا الموجز أن اليهود كانوا يعملون على نهج وخطة لا ارتجال فيها ، ويخوضون في الوقت نفسه ميادين : الاقتصاد ، الإعلام ، السياسة والعلاقات الدولية ، بناء القوة العسكرية الحقيقية .

 إننا حين يعلن بعضنا اليوم في وسائل الإعلام : فلسطين بعد ستين عاماً ، يغفلون فترة واسعة من تاريخ قضية فلسطين . ويصحب هذا الإعلان : " فلسطين بعد ستين عاماً " و " المجازر مازالت ممتدة " ! والأولى أن يقول إِنه بعد مضي أكثر من مائة وستين عاماً واليهود يعملون ويبذلون ، والمسلمون في غفوة كبيرة ، أو في تنافس على الدنيا وزخرفها ، أو في صراعات بينهم أفقدتهم كثيراً من قواهم .

 فعسى أن يعود المسلمون اليوم ، ليستفيدوا من مراجعة مسيرة طويلة فيفكروا ويؤمنوا وينهضوا وينطلقوا إلى العمل المنهجي والتخطيط الإيماني العملي ، عسى أن يرزقنا الله النصر إن عَلِم أن في قلوبنا الصدق .

 كان اليهود وأعوانهم هدفٌ محدّد اجتمعوا عليه صفّاً واحداً ، وكان لهم خطتهم المدروسة ، ولم يلجؤوا إلى وعود الشعارات ، ونحن تفرّقنا أهدافاً وشعارات وأهواء ، لم تجمعنا قضية فلسطين .

 وما بقي المسلمون ممزّقين على غير صدق مع الله ، فلا أظنّ أن الله يهبهم النصر . فلله سنن ثابتة في هذه الحياة .

إذا لم تقم في الأرض أمة أحمد        فكل الذي يجري في الساح ضائع

وحسبنا في هذه اللحظات أن نثير هذه النقاط التي نراها رئيسة في قضية فلسطين ! مع أن هنالك قضايا كثيرة تستحق الوقوف عندها ، وتأخذ مجلدات ومجلدات لا مجال لها في هذه العجالة.

              

(1) تراجع الكتب التالية للمؤلف : ملحمة فلسطين ، على أبواب القدس ، ملحمة الأقصى ، ملحمة الإسلام من فلسطين ، فلسطين بين المنهاج الرباني والواقع ، ملحمة التاريخ .

(2) المرجع السابق .

(3) المرجع السابق .

(4) المرجع السابق .