والدي والباص

والدي والباص

عبير عبد الله الطنطاوي

[email protected]

كنت دائماً ولازلت مؤمنة بأن والدي أكثر الناس عاطفةً على وجه الأرض ؛ فما يستطيع أن يسمع صوت طفل يبكي لأن نياط قلبه تتقطع عليه ولو كان ذلك الطفل يبكي كاذباً ، أو يرى خروف العيد يُذبح ؛ حتى أنه في كل عام يضحي فيه كان يجلس في أبعد زاوية من زوايا البيت حتى لا يسمع صوت الخروف أو يشعر بما يُفعل في الخارج ؛ ولايخرج إلى باحة المنزل إلا وقد نُظّف من آثار الدماء وأي شيء يدل على ذبح أو قتلٍ . بل وهو لا يتقبل حتى مناظر الأخبار الدامية التي يراها كل الناس حتى الصغار دون أن تؤثر إلا في الذين فيهم خير فهو يطبق أجفانه الحنونة على عينيه العسلية حتى لا يرى ما يُعرض ؛ وغير ذلك من المواقف التي لا تعد ولا تحصى من رقة في الطبع وشفافيةً في المشاعر لا تكاد تجدها في زماننا الصعب هذا ؛ حتى أن ولدي ابن السبع سنوات يقول لي دائماً منذ كان صغيراً لا يكاد كلامه يُفهم :

ـ يا ماما لماذا كل الناس ليسوا كجدي عبد الله ؟!

فأتساءل :

ـ ماذا تقصد ؟

فيجيب بلغة الصغير الذي لا يعرف سوى الصدق وكل الصدق :

ـ لا أعرف لكن جدو كتير حبّاب وما بزعّل حدا أبداً .

فأقول في نفسي :

ـ ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

أما الصغيرة بنت الخمس سنوات فتقول دائماً :

ـ جدو كتير حنون هو أحنّ منك ومن كل الناس .

كل هذا في تعامله مع البشر وهذا مقبول لإنسانٍ شاعر وكاتب حساس عاصر الحياة فعصرها برقته ولم تعصره بقسوتها كما عصرت البلاين ؛ ولكن العجيب في هذا الرجل الصالح أنه يحن حتى على الآلة ! حتى على الجماد ! فأراه يتعلق بأشيائه الخاصة كالكتاب مثلاً فإنه يعامله كما يُعامل واحداً من أولاده ؛ يحافظ عليه ويهتم بأناقته وكم أراه يحزن إذا وجد ورقةً (مطعوجة) أو مرسوم عليها ؛ وكم يتعلق بسيارته التي كبرت وعجزت وفي كل سنة يؤجل بيعها وشراء غيرها بحجة أنها قوية وممتازة ! ويتعلق بهاتفه الخلوي القديم الذي ولى عهده وظهر بعده أفضل وأحسن بحجة أنه تعود عليه ؛ ويتعلق بنظارته التي قدم عهدها بحجة أنها تريحه ؛ ويتعلق بحقيبة يده ولا يبدلها إلا مُكرهاً بحجة أنها جيدة من جلد ممتاز ؛ وكم وكم وكم من الكمات التي تدل على حنانه الفائق الذي كلما تقدم في عمره (مد الله في عمره) ازدادت أكثر فأكثر ؛ ولكن أعجب موقف مرّ بي مع هذا الوالد العظيم أننا في كل مرة كنا نخرج في رحلة مع أختي وزوجها في باصهما القديم الذي خدمهم عمراً وصار في حالة يُرثى لها فكان يقول زوج أختي لوالدي الجالس بجواره :

ـ حان الوقت يا عمي كي نغير هذا الباص التعبان ونشتري أحسن منه وأحدث إن شاء الله .

فأجده يبتسم ويقول :

ـ دعنا من هذا الحديث الآن .

وكنت أشك أنه يشعر بغصةٍ في حلقه كلما فُتح هذا الموضوع ولكني لا أعلمها قلت في نفسي :

ـ لعلها ذكرياتنا الحلوة في هذا الباص العجوز !

وبعد عدة رحلات وجدته ينهي الحديث دائماً بقوله :

ـ دعنا من هذا الآن ؛ نتحدث فيما بعد .

ولما نزلنا من الباص وابتعدنا عنه كثيراً وجدته يُناقش زوج أختي في موضوع بيع الباص هذا ومرارة في حلقه لا يشعر بها إلا من كان شديد التعلق بهذا الوالد وشديد الحساسية لنظراته ونبرات صوته التي تكشف عن صاحبها إذا كان منشرحاً أو منزعجاً أو حزين .

وبعد سنوات دار حديث بيننا عن سيارته التي قدمت وهو (الوالد الغالي) يأبى مفارقتها اعترف لنا بما أكد إحساسي تجاه مشاعر العطف الموجودة عنده حتى على الآلات والجمادات فقال :

ـ إنني أشعر يا بنتي بالخيانة وأشعر بسيارتي تخاطبني وتقول لي : أهكذا يا عبد الله بعد أن أخذت خيري ترميني وتبيعني بالأحدث ؟ والله يا بنتي لما كان زوج أختك يحادثني عن بيع باصه القديم كنت آبى أن أكلمه في هذا الموضوع ونحن في حضور الباص ؛ فكنت أنتظر أن نجلس في مكان بعيد عن الباص وأتحدث مع الرجل عن بيعه لأني أشعر بل وأكاد أسمعه يعاتبنا بأننا سنرميه بعد أن خدمنا كل هذه الخدمات من عمل وسفر ورحلات وذكريات والله إني لأعطف على هذه الآلات التي تخدم ثم ترمى .

قلت في نفسي :

ـ واعجبي يا ليت في الدنيا بضعة عشر رجل مثلك يا أستاذ العطف في هذا الزمن لا ترمى الآلات فحسب بل والبشر وخاصة النساء فالمرأة تتعب مع هذا الرجل سنين العمر الزاهية وتتحمل شبابه العارم وعصبيته الشديدة وتكافح معه ليبني مستقبله أملاً منها أنها قد غدت جزءً كبيراً منه وأن مستقبله مستقبلها وتربي الصغار وما إن تكبر قليلاً عمراً ويكبر هو مقاماُ حتى تُرمى في سلة مهملات الدنيا فالمدير أو الباشا أو المليونير أو... إلخ وضعه قد تغير فهو بحاجة إلى من تجدد له الشباب وتجلس مع الطبقة الراقية التي صار هو واحداً منها وتعرف كيف تحادث المجتمع وزوجته (القديمة) قد غدت موضة قديمة لا تفهم إلا بتربية الأولاد والطبخ الشعبي غير الصحي والملابس المحتشمة لأنها قدوة لأولادها في الحشمة ثم إنها مع كثرة الجلوس في البيت فقدت الثقة بنفسها ولم تعد تلك الفتاة البراقة التي خطف نورها بصره فخطفها من بين الأيادي الرحيمة (الأم والأب) ليضعها في بيته ينير بريقها بيته فحسب ولا يريد لبريقها أن يشع خارجاً ولو على والديها وقد انتهى ذلك البريق بقدم المدة فتحال على التقاعد وتعطى لها الحرية الآن ليأخذ هو حريته مع عروس تملي عليه الحياة الجديدة المرفهة وتقول (القديمة :

ـ سقى الله تلك الأيام التي كنت أغسل لك البنطلون ليلاً لتلبسه نهاراً لأنك لا تملك سواه .

لو بيدي لصرخت في هذا الزمن بل لتوسلت إلى المولى أن يجعل النساء تحمل وتنجب من يملك بعض صفات قدواتنا وأولهم رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم معلم الأجيال الذي أصبح الناس في زماننا يتشدقون بمقولة :

ـ هو نبي ونحن لسنا بأنبياء .

ونسوا أن الله جعله بشراً لنقتدي به ؛ وقدواتنا من الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم على الخير وهم كثر كوالدي وغيره وغيره ممن أصبحوا مع الأسف في زماننا يُعدون على الأصابع .