الانسداد الفكري ..
الانسداد الفكري ..
والتنوير
حمد بن عبد الله العيسى
سوف أنطلق في مقالتي هذه من كلمة التنوير وهي التي تعني تحويل الظلام الدامس إلى بياض ناصح ، وتعني أيضا أن هناك قتامة ما يجب تسليط الضوء عليها ليفصح عنها ، ومن معانيها إشعال الشموع لتتضح الرؤية في الليل البهيم الأسحم .
ولكن كيف لنا أن نعرف أن هذه المنطقة أو تلك تحتاج فعلا للتنوير ؟
و كيف لنا أن ندرك أن هناك انسدادا فكريا يعبث بالمنجز الحضاري الحديث الذي قطعت الإنسانية فيه شوطا كبيرا تخلله الكثير من الجهد والعناء ؟
ولست مضطرا الآن .. للإجابة على هذا التساؤل بقدر ما أنا مضطر للسياحة حول هذين المصطلحين .. الانسداد أوالانغلاق الفكري والتنوير .. لمحاولة استجلاء المحور الذي يدوران حوله والأطر المحيطة بكل منهما والتي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما يجري بالقرب من هذا المحور .
الانغلاق الفكري مصطلح مكون من كلمتين دارجتين ، الأولى تعني أنه لا يمكن العبور من خلال هذه المنطقة بسبب وجود حواجز يكاد يكون من المستحيل إزالتها ، والثانية تشير إلى منطقة الفهم والاستيعاب والإدراك لدى الإنسان والتي لا يمكن متابعة المسير إلا بتفعيلها .
و دعونا الآن ندمج بين الكلمتين لنرى ما الذي يحدث .. الانغلاق الفكري .. تعني أن العبور من هذه المنطقة يكاد يكون مستحيلا بسبب عدم تفعيل الفهم والاستيعاب والإدراك لدى الإنسان ، و لو افترضنا جدلا أن ليس ثمة منطقة أخرى يمكن العبور من خلالها فمعنى ذلك أن الحياة تتوقف وتنتهي وهذه مصيبة لا تعدلها مصيبة .
وبالتالي ليس بوسعنا إلا البحث عن حل لهذه المشكلة العويصة التي لا يمكن العيش بوجودها ، وهذا الحل هو الذي يطلق عليه التنوير وهو المصطلح الذي بدأتُ فيه هذا الموضوع وأعود إليه الآن للحاجة الماسة إليه لأنه هو الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق الخطير المميت المسمى الانغلاق الفكري .
إن المنطق يفرض علينا أن نعيد الأشياء إلى أصلها وأن نعيد الأمور إلى نصابها والهدف من ذلك هو محاولة فهم ما يجري من حولنا ولمحاولة
تتبع المشكلة بداية من جذورها ، لتكون الرؤية أكثر وضوحا وأقل لبسا ، وهي أولى الخطوات .. لعملية التنوير التي نريد أن نجريها لنفجرهذا الانسداد الذي سيودى بالمجتمع بأسره إذا ما استمر هذا الصلف الذي يقوده .
والرجوع إلى الأصل سيؤدي حتما إلى أن هناك ثوابت ومتحولات تقود الإنسان إلى الطريق الذي يظنه هو المعد والمهيأ للانطلاق من خلاله ، وهذا الظن أو الاعتقاد لدى شخص ليس بالضرورة أن يكون موجودا لدى شخص آخر بوصفه وكنهه ، ومن هنا يظهر الاختلاف بين البشر بسبب اختلاف الثابت والمتحول لدى كل فرد وهذا سيقود حتما إلى الخلاف حول المناطق التي تحتاج إلى تنوير في عقول الناس المختلفة ، وبالتالي لابد لنا من حسم هذا الخلاف الناتج بعرضه على الفطرة السليمة التي لم تشبها شائبة تفسدها وهي }: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الروم:30.
وهذا يعني أن هناك خطا اختطه الله لخلقه من البشر لا يفترض أن يحيد عنه أحد منهم ، وهذا الخط يتكون من الثابت الذي لا يقبل الجدال أبدا ومن المتحول القابل للأخذ والرد والذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان .
ونخرج من هذا أن الانغلاق الفكري على حقيقته هو الذي ينشأ نتيجة لانحراف الفرد عن الفطرة السليمة ونتيجة خروجه عن ثوابت الدين القيم التي ارتضاها ربنا عز وجل لعباده ليصلوا في نهاية المطاف إلى بر الأمان وشاطئ النجاة .
إذن .. التنوير الذي نريده لنفجر به الانسداد الفكري هو أن نعيد الشخص الذي أصيب به إلى فطرته السليمة التي ستقوده إلى الانفتاح الفكري المأمول والذي سيجعل الحياة أكثر سعادة وأكثر ملائمة .
وبالعودة إلى الفطرة السليمة يتبين لنا ما هو الثابت الذي يجب أن لا نحيد عنه ، ولا يعني ذلك أن لا نتفاعل مع المحيط الفكري الاجتماعي القريب أو البعيد ، بل على العكس من ذلك تماما ، لأن من لوازم الثوابت التي نؤمن بها كمسلمين .. التفاعل ، وإلا تحول الانفتاح إلى انغلاق ، وفي هذه الحالة يتوجب علينا أن نجري عملية التنوير كما أرادها الله سبحانه وتعالى :
((الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات)). [البقرة: 257] .
وحتى نجري عملية التنوير كما أرادها الله سبحانه وتعالى لابد لنا من تفقد مناطق الظلمة التي تحتاج إلى هذا النور الإلهي لتسليط الضوء عليها حتى تنقشع ظلمتها وتعود إلى توهجها الذي كان حالا قبل الانحراف عن الفطرة السليمة .
أولى هذه المناطق من وجهة نظري و التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها تمهيدا لعملية التنوير المأمولة هي منطقة العقل ، فهي البوابة الرئيسة للإنسان والمحرك له في اتجاهاته المختلفة ، ولو حدث أن أصابها انغلاق فسوف تتوقف الحياة الحقيقية للإنسان بمعناها الرباني ، قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) الأنعام 162-163 .
والعقل هو مناط التكليف ولا ينبغي أبدا أن يكون منغلقا حتى يستطيع ممارسة وظائفه التي أرادها الله سبحانه وتعالى ، وعليه لابد من تحطيم كل العوائق التي قد تعترضه ليشق طريقه بقوة إلى الفهم الصحيح والتفكير السليم والاستيعاب الكامل .
ولقد كان الإسلام حريصا منذ البداية على ضرورة ممارسة العقل الإنساني لوظائفه ، لذلك مهد الطريق أمامه وأزال كل العقبات التي قد تعوقه عن ممارسة نشاطاته ، وقد ذكر الدكتور محمود حمدي زقزوق أمثلة على ذلك كثيرة منها :
* رفض التبعية الفكرية والتقليد الأعمى ، فالإسلام أمرنا بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون و نهانا في الوقت نفسه عن التقليد الذي فيه تعطيل للعقل عن أداء دوره في الوجود ، فالتقليد لا يصح بحال من الأحوال من الإنسان القادر على التفكير والتمييز .
* القضاء على الدجل والشعوذة والاعتقاد في الخرافات والأوهام ، فلا ضرر ولا نفع إلا بإرادة الله الذي يقول لنا في القرآن الكريم إنه أقرب إلينا من حبل الوريد، وإنه قريب يجيب دعوة من يدعوه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وليس هناك مخلوق يتحكم باسم الدين في رقاب العباد .
* تركيز الإسلام على المسؤولية الفردية ، وهذه المسؤولية الفردية لا تقوم إلا على أساس حرية الفرد واطمئنانه على حقوقه في الأمن على نفسه وعقله وماله، ومن هنا جعل الإسلام الأمن على العقل والحفاظ عليه من بين المقاصد الضرورية الأساسية التي قصدت إليها الشريعة الإسلامية لقيام مصالح الدين والدنيا.
* حرر الإسلام الفرد المؤمن بعقيدة التوحيد من الخوف الذي لا مبرر له ، ورفعه إلى مقام العزة ، وتحقيقاً لهذا المبدأ يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ألا تكون الحاجة سبيلا إلى التنازل عن شيء من كرامتهم حين يقول: اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس .
ويمكن القول بأن الإسلام بهذا أطلق سلطان العقل من كل ما يقيده ، وخلصه من كل تقليد كان يستعبده ، وبهذا تم للإنسان استقلال الإرادة و استقلال الفكر ليتسنى له إعمال عقله بلا قيود أو معوقات قد تحيد به عن المسار المتوافق مع فطرته السليمة .
إن التنوير في المفهوم الإسلامي أعم وأشمل من ذلك التنوير الذي ظهر في أوربا بعد انحراف الكنسية لأنه يقوم على دعامتين أساسيتين هما دعامة الدين و دعامة العقل ، ولعل هذا الكلام يقودنا إلى حقيقة هامة جدا و هي أن الدين والعقل متلازمان ولا يمكن أبدا وجود تعارض بينهما ، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء - كما يقول حجة الإسلام الغزالي - ولا يمكن الاستغناء بأحدهما دون الآخر، بل إن من قضايا الدين ما يكون العقل داعما قويا بالاعتقاد به كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل ، وما يتصل بذلك من إدراك فحوى الرسالة والتصديق به ،
ولذلك فإن العقل من أشد أعوان الدين الإسلامي .
وإذا ما تحقق للعقل الحرية من كافة القيود فإنه حتما ستتوفر له الفرصة السانحة للتنوير وسيحلق بعدها متأملا في حقائق هذا الكون الفسيح وعظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي أبدعه وأتقنه ، وسيعيد النظر في حقيقة خلق هذا الإنسان من العدم وإيجاد كل ما يصلح لحياته من مقومات لا يمكن حصرها ، و لا يمكن تصور وجود الإنسان بدونها ، فالله سبحانه وتعالى هو العليم بما يصلح أحواله وهو سبحانه المنعم المتفضل على خلقه جميعا ، وزاد الإنسان أن كرمه بهذا العقل وهيأ له كافة السبل لأداء وظائفه على أكمل وجه ،
قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) سورة الإسراء:70
وإذا ما تسنى للعقل التخلص من كافة القيود التي قد تعيقه عن التحليق والتدبر والتأمل في كل ما يجري في هذا الكون الفسيح ، فسيتمكن من إدراك حقائق كثيرة تقوده إلى الإيمان بالله عز وجل وبقدرته العظيمة الفائقة على الخلق والإبداع والإتقان ، لأنه بذلك توافق مع فطرته السليمة و رفض كل ما يؤدي إلى إفسادها وهذا مكمن هام للتنوير .
وإذا ما واصل العقل في تأمله ــ بعد أن تخلص من كافة القيود ــ فسيدرك أن في كل ما أمر الله به أو نهى عنه فائدة للمسلم في دنياه قبل آخرته. ويؤكد ذلك أنه كلما تقدم العلم الحديث في مجال الطب والعلوم النفسية والاجتماعية ، ظهرت الفوائد والحِكَم التي لا تحصى من تطبيق دقائق التشريع المطهر .
وكلما حلق العقل وازداد تأملا فإنه سيصل إلى حقائق جديدة يدرك بها أنه كان في غفلة من أمره عندما كان عبداً لقيود كبلته بالكثير من السذاجة الممقوتة ، إلى أن يصل إلى الحقيقة الكبرى التي طالما كان مسحوراً بالبعد عنها وتناسيها وهي أن الحياة الدنيا إلى زوال وأن العمر يمضي حثيثا إلى نهاية حتمية لا مفر منها قال تعالى : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) يونس:24.
وهذا المثل العجيب ضربه الله سبحانه لمن يغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، ويترك التأهب لها .
وقال تعالى : (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ) (الحديد:20)
. وهكذا مثل الحياة الدنيا، تبدو لأهلها وطلابها حلوة تسر الناظرين، وتغر المغفَّلين، وتفتن المغرورين ، ولكن سرعان ما تزول تلك الحلاوة ، وتذبل تلك النضارة ؛ إذ من طبيعة هذه الحياة الدنيا الهرب من طالبها والساعي إليها ؛ والإقبال على الهارب منها والفار عنها .
و لا شك أن هذا سيقود العقل المدرك بهذه الحقائق إلى إبطال هذا السحر عنه واتخاذ قرار التخلص من الجمود والانغلاق وعيش الحياة بوعي
وإدراك ، واستيعاب كل ما يدور حوله من الأحداث والغاية منها ودقائق معانيها ، والحكمة مما يقضيه الله من أمور في كل لحظة.
إن عيش العقل للحياة بوعي وإدراك يجعله دائم الترقب لما حوله من حقائق و أحداث ، ودائم الاستعداد للمخرجات التي تنشأ بسبب هذا التدافع الإيجابي والسلبي على حد سواء ، لذلك وكنتيجة طبيعة لهذا الترقب وهذا الاستعداد سيقبل كل ما يتوافق معه من هذه الحقائق وهذه الأحداث وسيرفض ما يتنافى معه منها ، وهذا مكمن آخر للتنوير ظهر أثره بعد الحرية التي نالها العقل بتخلصه من عبودية التبعية والتقليد الأعمى .
إن نجاح العقل في التأمل و التفكر يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره ، ولذلك فإن من الضرورة بمكان أن يتأمل و يتفكر بصدق دائماً ، متجردا من كل ما قد يعلق به من ترسبات ومخاوف ومحاذير تقصيه عن أخذ النفس العميق الذي يحتاج إليه دائما في طريقه للتأمل ، قال تعالى :
( هو الذي يريكم آياته وينزّل من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب ) غافر:13.
لابد للعقل من إطلاق هذه الطاقة الكامنة وحل عقالها من كل ما يقيدها ويخنقها من ملابسات وتجاذبات واهية تضعف قدرته على التفكير السليم والحكم على الأشياء والتفاعل والتكامل مع كل ما يحيط به من مخلوقات وكائنات .
ومن المهم ذكره هنا أن عملية التنوير المراد إجراؤها على العقل لا تعني أبداً تخليصه من مفاهيم دينية ثابتة وعقيدة راسخة دعت إليها حريته في التفكير على مر العصور و قادته إلى الإيمان بها لتلازمها وتوافقها معه ، حتى وصلت إلى أن تكون هي الحقيقة الثابتة والواضحة وضوحا لا لبس فيه و لا ريب .
قال تعالى : ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) الأعراف 185.
إذا أدرك العقل هذه الحقائق الكونية فإنه سيلجأ إلى البحث عن مصدر هذه الحقائق الذي أوجدها على هذا النظام المتناغم المتسق : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون ) إنها عملية متوازنة بدقة متناهية وهو الشأن في دقيق الأمر وجليله من الذرة إلى المجرة .
وإذا ما عجز العقل عن الاستيعاب الكامل لما يحسه و يلمسه فإن القلب لن يعجز عن ذلك إذا ما أبصر بنور اليقين الذي سيضيء له غياهب شتى لم يستطع العقل الإحاطة بها لأنه بطاقته المحدودة غير مهيأ لإدراك ما وراء الواقع ، لهذا هو يحتاج إلى سند من الروح الملهمة والبصيرة المفتوحة وهذا من أهم مكامن التنوير اللازمة للعقل .
ولكي يحلق القلب ويتأمل عليه أولا الوصول إلى الإدراك المفضي إلى عالم الطمأنينة والسكينة وهو ما يعني أنه لابد أن يستصحب أهم أدوات هذا الوصول وهي .. الشعلة .. التي سيسترشد بها والتي ستقوده إلى الانفتاح .
هذه الشعلة هي الوصلة بين القلب وهذا الكون الهائل والتي من أثرها تحريك المشاعر وإشعال الحياة بالجدية وإعطائها المعنى الحقيقي الذي أراده الله سبحانه وتعالى وهو أن هذه الحياة لم تكن عبثية ، وجدت لتنتهي هكذا .. ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) !!
وكيف ينتابها العبث و خالقها هو الله ، بل كيف يعتريها الهزل بوجود هذا الكون المحكم الصنع من الله عز وجل ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) .
إن النور في القلب هو بمثابة كشاف يضيء الليالي شديدة الظلمة ، وهو يكشف عن حقيقة الأشياء كما هي بلا زيف أو تزيين ، إنه يرى الزنا فقرا وغما ومرضا ، ونهايته الحسرة والندامة ، ويرى الرشوة لعنة وعاقبتها خسرانا ، و يرى الدنيا دارا للابتلاء كما أنها لا تساوى عند الله جناح بعوضة ، وهكذا هو عمل النور في القلب يفتح الآفاق ويبدد الضباب ويقشع الغمام ويحرر النفس من الرق المذموم ويحيطها بعوالم اليقين الذي يهدئ من روعها ويسدل الستار على غفلتها .
قال تعالى : ( أوَمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الأنعام 122 .
هذا التنوير الذي يحدث للقلب يجعل المستقبل مستشرفا واضحا ، في النفس وفي النوايا وفي الخواطر وكذالك في الخطة والحركة والتتابع والتلازم ، بل ويتعدى ذلك إلى أن يجد به الإنسان الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها واستقبال الأحداث واستدبارها مما يجلب معه الراحة في البال والحال والمآل .
هذا التنوير يطلق طاقة ضخمة من الحيوية والتطلع تؤدي إلى هداية الضال والتقاط الشارد واطمئنان الخائف وتحرير المستعبد المأسور
للأوهام والأباطيل الواهية التائهة .
هذه الطاقة هي التي ستفتح العقل و تنير الدرب وتوضح الأمور المشتبهة وتكشف زيف الأمور وتلونها ، وهي التي ستجعل القلب مستعدا لقبول حقائق المعلومات التي تحل به من كافة المصادر وتزيل عنه الغشاوة التي قد تعيقه عن رؤية هذه الحقائق على طبيعتها ، وهي التي ستعيد إلى الإنسان التوازن المطلوب إذا ما شطح به العقل إلى عوالم مادية بحته تجعله غبيا ساذجا مغلوبا على أمره .
وكلما كانت الطاقة قوية استطاع الإنسان تبديد علائق الوهم و زمهرير المادة بها ، وكلما ضعفت قوتها صعب عليه مواصلة المسير إلى اليقين والإدراك ، فهي أشبه ما تكون بالشمس المشرقة التي تذيب الجليد المتراكم على السطح فتجعله نقيا صفصفا .
ومتى استنار القلب فإن تغييرا هائلا يحدث ، ويظهر من الأعمال ما يحير العقول ويدهشها من الفتح الرباني والثبات والصمود والمثابرة والوقوف في وجه التغيير الأعور الذي لا يرى من كافة الجوانب و لا يبصر إلا حقيقة ظاهرة واحدة هي حقيقة المادة المحسوسة بحساباتها القاصرة التي لم تبلغ أدنى الكمال من الدقة .
قال الإمام ابن القيم : ( أصل كل خير للعباد كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة لكل خير ، فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته ، وكذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه ، فاستبان حُسْن الحسن بنوره وآثره بحياته ،
وكذلك قبح القبيح ) .
قال تعالى : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله .. ) الزمر 22 .
ولنا أن نتساءل ــ بعد أن عرفنا أهمية أن يكون القلب متنورا ، وبعد أن عرفنا كل هذه الآثار الناتجة من تنويره ــ لنا أن نتساءل عن مصادر هذا التنوير المدهش العجيب الذي يعطي للحياة معنى حقيقيا لا يدركه إلا من استضاء بهذا النور وانكشف له المستور .
وقبل أن أجيب على هذا التساؤل لابد أولا من استجلاء حقيقة القلب نفسه ، وكيف له أن يتلقى هذا النور من مصادره ؟
القلب في حقيقته قلبان ، قلب مادي وقلب معنوي ، والذي يهمنا هنا هو القلب المعنوي ذلك الذي هو محل نظر الإله عز وجل ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) أي القلب المعنوي الذي نحن بصدده ، والذي يعرف بعين الباطن لا بعين الظاهر لأنه غير محسوس وليس للتقدير و لا للكيفية طريق إليه ، وقد سمي قلبا لتقلبه ، ولتقليب الله له بمشيئته ، وهو منزل الأنوار القدسية التي يتجلى بها ربنا عز وجل .
والقلب يتأثر بعالم الظاهر عن طريق الحواس عبر بوابته المفتوحة على عالم الغيب والشهادة ، وكل صفة تظهر بالقلب يبقى أثرها على الجوارح ، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه يرتفع منه أثر إلى القلب ويصبح له دور بالأمر فيه .
وأول هذه المصادر النورانية هي كلمة التوحيد .. لا إله إلا الله .. بها يضيء القلب وبها يحى ، وكلما ازداد قربا منها ازداد إضاءة وازداد قوة ، ويصيبه المرض أو الموت كلما بَعُد عنها ، فهي طاقة رئيسة تمده بنورالله فيرتفع بها إيمانه وتقوى إضاءته ويمتلأ محبة وخشية ، ويرق ويلين وتذهب غلظته وتزول قساوته .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه .. ) .
وثاني هذه المصادر هو العلم ، الذي ينور القلب و البصيرة ويزيل منه ظلمات الجهل والتخلف ، سواء في ذلك العلم الديني أو العقلي شريطة أن يكون هناك توازن بينهما حتى لا يحدث الإفراط والتفريط فتخفت بهما الأنوار من القلب وتنطفئ .
ثم يأتي بعد ذلك نبذ الذنب والإقبال على العبادة وهو من المصادر المهمة لتنوير القلب فبه يمتلأ القلب ذكرا لله ويحدو إليه النور ويجد آثاره تدفع به للتحرر من سجن الدنيا والإقبال على الآفاق الرحبة والحياة الدائمة الباقية ، وهو ما يخلق فيه شجاعة وجرأة غير مقيدة بمكاسب يخشى فواتها أو مكانة يحذر من تلاشيها .
وأما تحقيق معاني العبودية ظاهرا وباطنا فهو مصدر نوراني لا يمكن للقلب الاستغناء عنه ، وإذا ما أراد الإنسان السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية كما قال شيخ الإسلام ، والتدرج في مراتب العبودية شيئا فشيئا يوصل إلى التوبة والإنابة والتفكير والاعتصام بالله والفرار إليه والزهد
فيما عند الناس والإخلاص في السكنات والحركات والثقة بما في يديه والطمأنينة والثبات على نوزاع الدهر و صروف الأيام وجلبة المحبطين .
وأخلص من ذلك كله إلى حقيقة ثابتة راسخة في ذهني وفي يقيني ثبات الجبال الرواسي وهي أن الانفتاح الفكري يرتكز على دعامتين هامتين متلازمتين .. دعامة العقل .. ودعامة القلب ، وبتفاعلهما وتوازنهما في النفس البشرية يحدث هذا الانفتاح الذي يجعل الرؤية تتضح والطريق إلى كافة الحقائق يتمهد .
بهذا الانفتاح الفكري لا يمكن أن يحل العبث بالمنجز الحضاري الحديث الذي قطعت فيه الإنسانية شوطا بعيدا وما زالت ، و لا يمكن للتصادم أن يحدث إلا إذا شطحت بعض العقول وداست على الثوابت الأزلية التي لن تحول ولن تتغير ، إذ أن تحولها يعني أن هناك جمودا فكريا يحتاج إلى إذابة ، وانسداد قلبيا يحتاج إلى من يفجره كي تعود قنواته في جريانها بانسياب متزن ومتوافق مع الفطرة السليمة ، ( ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ) .
وختاما .. أدعو الله أن يبصرنا بعيوبنا لتلافيها ، وأن يفتح على قلوبنا وعقولنا كي تدرك السبيل الأوحد للفكر النير الذي يضيء لنا الدرب إلى الانفتاح والتفاعل مع كل الأجناس والتفهم لكافة الأحداث من غير إفراط ولا تفريط .